الثلاثاء 21 جانفي 2025 الموافق لـ 21 رجب 1446
Accueil Top Pub

الفيلسوف الجزائري الزواوي بغورة: من فلسفة اللغة والسلطة إلى الفلسفة الاجتماعية قارئا وناقدا ومؤلفا

يبدو من العسير تصنيف المفكر الجزائري الزواوي بغورة فلسفيا، وهو الذي اغترف من مشارب فكرية وإيديولوجية كثيرة، ولم يعد أسير فكر ميشيل فوكو رغم أنه كان منطلقه وكاد يكون الناطق باسمه في الثقافة العربية المعاصرة، حيث ظل منذ نهاية التسعينيات حريصا على أن يعدد مشارب المعرفة الفكرية والفلسفية ومناهج البحث ويخضع فكره لقراءات نقدية تخلصه من بعض القيود الإيديولوجية التي قد تكون تلبست به في فترة من فترات العمر العلمي، وهذا ما انعكس إيجابيا على إنتاجه الفلسفي والعلمي الذي تعدد بتعد الحقول العلمية التي ارتادها والمدارس الفكرية التي طرق أبوابها.

عبد الرحمن خلفة

فصدرت له عشرات الكتب والمقالات والمحاضرات والحوارات بشكل غزير طاف بها أو طافت به في فضاءات الثقافة والاجتماع والنفس والسياسة والحكم واللغة والدين، بعقلية منفتحة على المجال الغربي ومتفتحة على المجال الشرقي العربي الإسلامي قديمه وحديثه، ولم يكن ثمة رابط بين هذه الفضاءات سوى جسر الفلسفة الذي جعله حلقة وصل ومخبر تفكيك وتحليل ونقد لشتى مقولات تلك المعارف والعلوم والفضاءات، فقد انتقل بدراساته من فوكو إلى فلسفة اللغة وعلاقة هذه بالسلطة، ومن الفلسفة السياسية في الحقل الثقافي الغربي والحقل الثقافي الإسلامي، مترجما ومؤلفا، قارئا وناقدا، قبل أن يحط الرحال في الفلسفة الاجتماعية، سواء من خلاله مؤلفه سنة 2012'اعتراف: من أجل مفهوم جديد للعدل دراسة في الفلسفة الاجتماعية'، أو كتابه الأخير 'السياسة الحيوية من منظور الفلسفة الاجتماعية' (2022) منتقلا من الكلاسيكية إلى الحداثة وما بعد الحداثة والتنوير، بحثا عن الهوية، ورسوه في هذا المرفأ الفلسفي لم يكن اعتباطا أو ترفا بل لأنه اقتنع بأن مستقبل الفلسفة ليس في جانبها النظري الميثافيزيقي بل في فلسفتها التطبيقية، والفلسفة الاجتماعية تنتمي إلى هذا الجانب من الفلسفة.
المفكر الفيلسوف بغورة وفي لقاء له مع نخبة من المثقفين والأساتذة الجامعيين من ولايات جزائرية بداية هذا الأسبوع بمدينة سكيكدة بمناسبة العدد 14 للقاء المعرفة الذي يشرف عليه الأستاذ الدكتور مصطفى كيحل، اعترف أن موضوع الفلسفة السياسية الاجتماعية، الذي انتهى به المطاف للتأليف فيها، لا يدرّس إلا في الجامعات الألمانية كاشفا في السياق ذاته عن وجود موقفين منها: الموقف الأول في السياق الفلسفي الفرنسي الذي يرى أن الفلسفة الاجتماعية تنتمي إلى فترة زمنية ماضية لم يكن علم الاجتماع فيها مستقلا عن الفلسفة، وكما تظهر في بعض كتابات فلاسفتها دليل على الصورة التقليدية للفلسفة السياسية وأن ما تقوم به لا يتعدى الدور الإيديولوجي المسوغ للنظام القائم، بينما يعترف أصحاب الموقف الثاني بهذه الفلسفة الاجتماعية ويعطونها مبرر وجود علمي وواقعي، ويرى بغورة أن ما يخلص إليه فرانك فيشباخ في كتابه 'بيان من أجل الفلسفة الاجتماعية' الذي أكد فيه على جملة من الخصائص التي تميز الفلسفة الاجتماعية مقارنة بالفلسفة السياسية ومنها على وجه التحديد:الاعتراف باستقلالية المجتمع والحياة الاجتماعية وفي الوقت نفسه الاعتراف بالإكراهات والقواعد الاجتماعية، والفلسفة الاجتماعية فلسفة تطبيقية أو عملية لأنها معنية بالتحولات الاجتماعية، ويكمن دور هذا المجال الفلسفي في تشخيص ونقد كل ما هو مرضي وما هو معوج وما هو موجه مستعينا بذلك بالتراث الكانطي وبخاصة ما بينه كانط في نص ما التنوير، وترتبط الفلسفة الاجتماعية بأفق التقدم والانعتاق وتعتبر نفسها منحازة لجهة المظلومين، ويستنتج بغورة أن هذه الخصائص تبيّن من جهة صلة الفلسفة الاجتماعية بالماركسية وبمدرسة فرانكفورت ومن جهة أخرى التأكيد على البعد الأخلاقي.
ويقول الفيلسوف بغورة أن مؤسس نظرية الاعتراف الفيلسوف الألماني أكسل هونت يرى في كتابه 'الصراع من أجل الاعتراف' أن الفلسفة الاجتماعية الحديثة قد ظهرت في اللحظة التي بدأنا ندرك فيها أن الحياة في المجتمع تقوم على أساس الصراع من أجل الوجود، كما أكد ميكافيلي أن الأفراد يتعارضون ويتنافسون فيما بينهم وذلك دفاعا عن مصالحهم، كما جعل طوماس هوبز الصراع على المصالح أساس نظريته في العقد الاجتماعي.
ويعبر هذا الفهم عن التحول الذي أصاب العلاقات الاجتماعية مقارنة بالعصور القديمة كما يشكل منطلقا لتمييز الفلسفة الاجتماعية عن الفلسفة السياسية الكلاسيكية، وذلك بحكم أن الفلسفة الاجتماعية تقوم على مبدأين هما: أن الإنسان كائن اجتماعي لا يمكن أن يحقق طبيعته إلا ضمن جماعة سياسية وأخلاقية، وثانيا أن الفلسفة السياسية الكلاسيكية كانت تبحث فيما يجب أن يكون، وفي إمكانية قيام حياة خيرية وعادلة، ولكن التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي أصابت بعض المجتمعات الأوروبية منذ عصر النهضة قد أدت إلى تغير في عناصر التصور الكلاسيكي للتصور السياسي، وأثارت انتباه مؤسس الفلسفة السياسية الحديثة نيقولا ميكيافيلي الذي كان معاصرا لهذه التحولات وعبر عنها في كتاباته السياسية وبخاصة ما أشار إليه من أن الإنسان أناني بالطبع ومن أن الاجتماع السياسي يقوم على مبدأ الصراع الدائم.
على نهج كبار الفلاسفة: نداء من أجل الاعتراف
على غرار الكثير من الفلاسفة تبنى بغورة نظرية الاعتراف لاسيما في مفهومه المسوّق من قبل الفيلسوف الألماني أكسل هونت الذي قدم قراءات نقدية لمفهوم الاعتراف في السياق الفرنسي وفي السياق الإنجليزي قبل أن يعرض فلسفته ونظريته فيه، وقد أخذ بغورة مثال قيمة 'العدل' ليشرح وجهة نظره ومبرر تبنيه لمفهوم معين في نظرية الاعتراف، فيقول كمثال على ذلك الفلسفة الاجتماعية لا تنتصر للمفهوم النفعي للعدل فقط، وإنما تشدد في الوقت ذاته على المنحى الأخلاقي والرمزي للعدل المتمثل في الاعتراف، وبتعبير آخر فإن الفلسفة الاجتماعية لم تعد تنادي بالعدل الاجتماعي في صورته التوزيعية للخيرات، وإنما أصبحت تنادي بضرورة استكمال العدل التوزيعي بالاعتراف بالعدل الأخلاقي والرمزي، حيث توصلت الفلسفة الاجتماعية إلى تحقيق مسائل أخلاقية وثقافية كالاستقلال والكرامة والاحترام والتقدير، دون الاقتصار على حفظ أو تنمية المصلحة الاقتصادية، والاعتراف الرمزي هنا يقترب أو يتماهى إلى حد بعيد في مفهومه مع مفهوم المصطلح القانوني 'رد الاعتبار'
فالفلسفة الاجتماعية كما يرى تتميز بمقاربتها الأخلاقية للمسألة الاجتماعية وعلى رأس هذه المقاربات موضوع العدل في علاقته بأشكال الظلم، سواء تعلق الأمر بالأفراد أو الجماعات أو المؤسسات، وإن ما يشكل مدار اهتمام هذه الفلسفة هو الصراعات الاجتماعية وبخاصة صراع الفئات المهمشة والمقصية والمستبعدة ومختلف الجماعات التي تعتبر قاصرة وتباعة وتبحث عن حياة اجتماعية كريمة.
فالاعتراف الذي تبناه بغورة وغيره من الفلاسفة المحدثين والمعاصرين لم يعد ذاك الاعتراف الأوغسطيني -وإن ظهرت له بعض آثار عند بعض كتاب الاعترافات المحدثين-الذي يجعله واجب الأنا أمام الأنا الأعلى، بل اعتراف الأنا الأعلى في حق الأنا، وليس بالضرورة أن يكون الأنا فردا بل قد يكون فردا أو جماعة أو أقلية، والأنا الأعلى قد تكون سلطة أو مجتمعا.
وقد ناقش بغورة في كتابه "السياسة الحيوية من منظور الفلسفة الاجتماعية الصادر عن دار سؤال"، 2022 مواضيع ذات صلة مهمة بها وهي: الجسد والمرض والعنصرية، في مقارباتها الفكرية وعلاقتها بالسلطة والمجتمع والمؤسسات والأفراد. وقد سبق هذا الكتاب كما أشرنا سابقا كتابه "الاعتراف، دراسة في الفلسفة الاجتماعية" (2012). الذي نقلنا عنه الكثير من مقولاته السابقة؛ حيث قارب فيه الفلسفة الاجتماعية من خلال قيمة العدل، وفي كتاب السياسة الحيوية سيعرض بغورة مدلول "السياسة الحيوية" من منظور ميشيل فوكو، ويرى بعض الباحثين هنا أن هذا الموضوع يطرح نفسه بقوّة في الفكر السياسي والاجتماعي المُعاصر، ويجري توظيفه في مجالات متعدّدة "منها: الصحّة، الأمراض، السكّان، الإنتاج الزراعي والاقتصادي، البحث الطبي، ومختلف وسائل تحسين شروط الحياة، ومنها التكنولوجيا الحيوية... إلخ"، ثم يعرج على مدلول السياسة الحيوية ومعانيها في المدارس الفلسفية الغربية.
ولئن رأى أن هذه الموضوعات ذات صلة عضوية مع الفلسفة السياسية فإن المؤكد أنها ستجد لها امتدادات في فلسفات أخرى لاسيما في علاقتها بالسلطة والقانون؛ على غرار الفلسفة السياسية وفلسفة حقوق الإنسان، بل قد تستقل مع الوقت هذه الفلسفة الأخيرة بمثل هكذا موضوعات إن نحت منحى الفلسفة التطبيقية في ظل تطور أجيال حقوق الإنسان وانتقالها التدريجي من الحقوق الإلهية إلى الحقوق الطبيعية فالحقوق المدنية التي لم تعد تتسع بنطاقها القديم للحقوق الجديدة في عالم البيئة والتكنولوجية والرقمنة.
كان يفترض أن يشرح بغورة المجتمع الجزائري ويكشف عن بعض أمراضه الاجتماعية لاسيما وأنه درس موضوع المرض الاجتماعي من منظور فلسفي؛ لكنه أبى لأن ذلك في رأيه يحتاج لدراسات علمية ميدانية استبيانية يفتقر إليها حاليا، بيد أنه تساءل مثلا هل يشعر الجزائري بالسعادة في مدينته؟ ليؤكد أن المدينة ليست مجرد عمران بل هي أيضا محيط اجتماعي وبيئي يسهم في تحقيق طمأنينة الساكن فيها وسعادته، متسائلا أيضا عن علاقة المواطن بالإدارة، قبل أن يعترف أن مالك بن نبي يعد أول جزائري يتحدث عن المرض الاجتماعي سنة 1962 في كتابه 'ميلاد مجتمع، شبكة العلاقات الاجتماعية' ورأى أن أكبر مشكلة هي الأنا، ونفى بغورة أن يكون التدين مرضا اجتماعيا بل قال بالعكس إن الدين مطلوب؛ لكن ما يرفض هو التطرف، بشتى أبعاده؛ سواء كان تطرفا دينيا أو سلطويا أو غيرهما.
بغورة اعترف أن الفلسفة لم تفده في شيء بل اكتشف في مراحل معينة أن الكثير مما قرأه لم يكن له جدوى واقعية، وقال إنه قام لاسيما بعد استقراره منذ أزيد من عشرين سنة بالمشرق بمراجعات عميقة ونقد ذاتي رصين أفضى به للتخلص من الكثير من القناعات والأفكار لاسيما ما تعلق منه بالجانب الإيديولوجي، وأضحى أكثر انفتاحا على مختلف الثقافات والمناهج، ولهذا دعا إلى قراءات نقدية في الإنتاج الفكري والمعرفي لبعض الرموز، متسائلا لماذا ما زلنا رهائن ترجمات عبد الصبور شاهين لمؤلفات مالك بن نبي، ومتى يتم نشر مؤلفاته باللغة الفرنسية التي كتبها بها.
وعلى الرغم من الانفتاح الكبير الذي اشتغل عليه بغورة إلا أن شبح ميشيل فوكو ما يزال مخيما على فكره، لأن فكر فوكو كما يرى بيير بورديو (استكشاف طويل للانتهاك، وتجاوز الحدود الاجتماعية المرتبط دومًا بالمعرفة والقوة)، ويبدو أن بغورة ماض في الاستكشاف الطويل.

الفيلسوف الجزائري الزواوي بغورة في سطور
الزواوي بغورة مفكر وباحث ومترجم جزائري، ولد في برج بوعريريج يعمل أستاذاً للفلسفة المعاصرة بقسم الفلسفة في جامعة الكويت وقد تخصص في فلسفة ميشيل فوكو، ويعد أحد أعمدة الفلسفة في العالم العربي، درس الفلسفة عبر مراحل الليسانس والماجيستير والدكتوراة بجامعة قسنطينة حيث تحصل على الدكتوراة سنة 1996م حول مفهوم الخطاب في فلسفة فوكو، وهي أول دكتوراة تناقش في قسم الفلسفة بجامعة قسنطينة، وقد اشتغل أستاذا بذات الجامعة قبل انتقاله إلى الكويت.

صدرت له أزيد من 100 مقالة علمية محكمة في مجلات ودوريات عالمية ترجمة وتأليفا وقراءة، وله العديد من الكتب المنشورة منها:
- مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو (2000)
- الخطاب الفكري في الجزائر بين النقد والتأسيس (2003)
- الفلسفة واللغة: نقد "المنعطف اللغوي" في الفلسفة المعاصرة (2005)
- ما بعد الحداثة والتنوير: موقف الأنطولوجيا التاريخية (2009)
- اعتراف: من أجل مفهوم جديد للعدل دراسة في الفلسفة الاجتماعية (2012)
- مدخل إلى فلسفة ميشيل فوكو (2013)
- ما التنوير؟ موقف ميشيل فوكو (2014)
- ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر (2014)
- الهوية والتاريخ: دراسات فلسفية في الثقافة الجزائرية والعربية (2015)
- اللغة والسلطة: أبحاث نقدية في تدبير الاختلاف وتحقيق الإنصاف (2017)
- الشمولية والحرية: دراسات في الفلسفة السياسية والاجتماعية المعاصرة (2018)
- الإسلام والحكم: دراسات في المسألة السياسية في الفكر الإسلامي المعاصر (2019)
- الخطاب: بحث في بنيته وعلاقاته ومنزلته في فلسفة ميشيل فوكو (2021)
- السياسة الحيوية من منظور الفلسفة الاجتماعية (2022)
وفي الترجمة:
- يجب الدفاع عن المجتمع، ميشيل فوكو (2003)
- تأويل الذات، ميشيل فوكو (2011)
- معجم ميشيل فوكو (جوديت روفال) (2018)
- مدخل إلى الفلسفة المعاصرة (مارك لوني) (2020)
- شجاعة الحقيقة: حكم الذات وحكم الآخرين (2022)

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com