تحتل الآثار الفينيقية حيزا بارزا في متحف سيرتا بمدينة قسنطينة، لتروي لزائريها بصمتها العميقة التي تعجز كتب التاريخ عن توثيقها بالكامل، هي آثار خطتها أيادي الفينيقيين الذين مروا على الجزائر، تاركين إرثا ثقافيا وحضاريا أبى أن يندثر رغم تعاقب الحضارات ومحاولات الاستعمار الفرنسي طمس الهوية بمزيج طبقاتها المتداخلة والمنسجمة، فالشواهد الموجودة بالمتحف العريق ليست مجرد مقتنيات صامتة، بل حية تحكي عن الفينيقيين، وعاداتهم، ومعتقداتهم.
لينة دلول
سرد مشوق لحكايات الماضي
على أعتاب قاعة النوميدوبونية في متحف سيرتا، يبدأ الزائر رحلة زمنية حيث تتعانق آثار الحضارات النوميدية، والفينيقية، والبونية في سرد مشوق لحكايات الماضي، حيث تخفي الواجهات الزجاجية لهذه القاعة بتصميمها الهادئ وأجوائها المهيبة، قطعا أثرية تتحدث عن تاريخ ممتد. تستقبلنا أولا عند ولوج المكان، الأواني الفخارية السوداء التي أبدع الفينيقيون في صناعتها باستخدام مادة "كومبانيا" الشهيرة، و نحتوها بدقة لا يزال العلماء ينبهرون بها، إلى جانبها تقف الخوابي ذات القاع المدبب، والتي كانت تستخدم لنقل السوائل في رحلات التجارة البحرية، حيث تسهل ثباتها على الرمل أو داخل السفن، في شهادة على عبقرية الفينيقيين في مواجهة تحديات السفر.
أما الحلي والقواقع، فتروي قصص الجمال في تلك الحقبة، حيث تعكس قواقع "الودعة" التي تزينت بها النساء، واللآلئ الزجاجية التي صنعت منها الجواهر والسلاسل، عناية الفينيقيين بالتفاصيل الدقيقة، بينما تثير المصابيح الزيتية الفضول ببساطة تصميمها ودورها في إنارة عالمهم القديم.
كل قطعة أثرية هنا تحمل توقيع الحضارة التي اعتقدت بالحياة الأخرى، فدفنت مع موتاها الأواني وبقايا الطعام، كالسمك والتراب، في طقوس تعبر عن إيمانهم بعودة الحياة بعد الموت.
وحسب ما لحظناه خلال زيارتنا إلى القاعة، فإنه يتم عرض هذه اللقى في المتحف بأسلوب يضمن قيمتها التاريخية، تحت إشراف فريق تقني متخصص يضمن حمايتها من عوامل التدهور، بحفظها داخل واجهات زجاجية معدة بعناية فائقة.
زاد ومتاع للحياة الأخرى..
صرحت كنزة مسواكي، رئيسة مصلحة الحفظ والجرد بمتحف سيرتا، أن أغلب الآثار الفينيقية الموجودة في المتحف تعود إلى "القرن الثاني والثالث قبل الميلاد".مؤكدة أن هذه القطع تمثل جزءا من الأثاث الجنائزي الذي تم العثور عليه في منطقة "الرابطة" بجيجل وتشمل هذه القطع بحسبها، أوان متنوعة الأشكال، وبقايا أطعمة كالسمك والتراب، حيث كان الفينيقيون في تلك الفترة يعتقدون بالحياة الأخرى..
ووفقا لمعتقداتهم، فإن الشخص الذي يموت يمكن أن يعود إلى الحياة مجددا ويستفيد من هذه الأواني والمعدات المدفونة معه.
وقالت المتحدثة، بأنه تم العثور في الأثاث الجنائزي الذي يعود إلى الفترة الفينيقية، على قواقع تعرف باسم "الودعة"، والتي كانت تستخدم كحلي وزينة، كما عثر على لآلئ تستخدم في صناعة الجواهر والسلاسل، وكانت مصنوعة من مادة الزجاج.
من بين المكتشفات أيضا، تضيف المتحدثة، مسامير وأحجار صغيرة مصنوعة من الرصاص، كانت تُستخدم في ترميم الأواني الفخارية، كما تشمل المكتشفات مصابيح زيتية مصنوعة من الفخار، ذات تصميم بسيط. هذه المصابيح حسبما أوضحت، تحتوي على فوهتين الأولى في الوسط تستخدم لسكب الزيت، والثانية أمامية لوضع فتيل الشمعة لإضاءة المكان
وأضافت سواكي، أن الفينيقيين كانوا بارعين في صناعة الفخار، حيث استخدموا مادة تُسمى "كومبانيا"، تعرف بجودتها العالية ولونها الأسود المميز، فتظهر أوانيهم دقة وإتقانا كبيرين في صناعتها.
أما الخوابي، فأوضحت المسؤولة بأنها كانت تستخدم لنقل السوائل كصلصة الزيت في الرحلات البحرية، وعثر عليها هي الأخرى في جيجل، وقد تميزت بقاعدتها المدببة، مما يسهل تثبيتها على الرمل أو في السفن أثناء النقل.
أهمية جيجل كمركز تجاري
أوضحت مسواكي، أن أغلب اللقى الفينيقية تم اكتشافها في جيجل، كونها كانت مركزا هاما للمبادلات التجارية التي اعتمد عليها الفينيقيون، هذا المركز الاستراتيجي، جعلها محطة رئيسية لربط مختلف المناطق وتبادل السلع.
وأكدت المتحدثة، أنه يتم عرض الآثار الفينيقية في قاعة النوميدوبونية، وذلك لأن الحضارات النوميدية، الفينيقية، والبونية تعايشت مع بعضها البعض وحدث بينها نوع من التزاوج الحضاري.
وكشفت مسواكي، أنه تم اكتشاف هذه اللقى الأثرية خلال الحفريات التي جرت في فترة الاستعمار الفرنسي، ما يبرز أهمية الجهود الأثرية التي كرست للكشف عن تاريخ الحضارة الفينيقية.
كما أكدت، أن فريقا تقنيا متخصصا يعمل على حماية هذه القطع الأثرية من التدهور أو التلف، ويتم ذلك من خلال وضع القطع داخل واجهات زجاجية مصممة وفق معايير خاصة تحافظ على المعروضات لفترات طويلة، ما يضمن بقاءها سليمة للأجيال القادمة.
موضحة، أن المتحف يشهد إقبالا كبيرا من المهتمين بالحضارة الفينيقية، من بينهم دارسو علم الآثار، والباحثون، والسفراء وغيرهم. كما تتوفر قاعات مخصصة لعرض آثار الحضارات الأخرى، ما يجعل المتحف مقصدا ثقافيا وعلميا هاما.
المراكز الفينيقية في الجزائر
وكشفت مسواكي، عن تاريخ الفينيقيين كأمة سامية تعود أصولها إلى كنعان بن عليق بن لاون، بن سام، بن نوح عليه السلام، مؤكدة أن الفينيقيين عاشوا كغيرهم من الكنعانيين، في الجزيرة العربية قبل أن ينتقلوا إلى مناطق الشام ليستقروا في ما يعرف اليوم بـ"فينيقيا" التي تضم لبنان حاليا وأجزاء من سوريا وفلسطين.
وأشارت، إلى أن القرطاجيين، وهم امتداد للفينيقيين، لعبوا دورا محوريا في احتكار التجارة الداخلية والخارجية عبر سواحل البحر الأبيض المتوسط، وأسسوا موانئ ومحطات تجارية، كان أبرزها مدينة قرطاجنة التي أنشئت عام 814 قبل الميلاد على الساحل التونسي.
ومع مرور الوقت، امتدت تجارتهم إلى السواحل الجزائرية، حيث أسسوا مراكز تجارية حيوية شملت بجاية، وتنس، وشرشال، وعنابة (هيبون)، وجيجل، ووهران.وأكدت، أن الفينيقيين تواجدوا في الجزائر قديما، لكن لا يمكن تحديد الفترة الزمنية الدقيقة لاستيطانهم ولا الطرق التي سلكوها للوصول إليها.
ومع ذلك، فإن تواجدهم التجاري والثقافي في الجزائر موثق، ويتجلى في المراكز الفينيقية التي شملت تيبازة ،"إيول" شرشال حاليا، "كارتينا" ، قورايا، كارتينا تنس حاليا، وصلاي وهي بجاية،إضافة إلى روس غونية أو برج البحري، وروسبيكاري وهي مرسى الحجاج، إيجيجلي وهي جيجل، وشولو وهي القل، فضلا عن روسيكادا وهي سكيكدة، وهيبو ريجيوس وهي عنابة حاليا. واعتبرت مسواكي، أن الفينيقيين تركوا بصمتهم على الساحل الجزائري سواء في التجارة أو الثقافة، وقد أسهمت هذه المدن في بناء شبكة تجارية متينة، حيث كانت المحطات التجارية الفينيقية بمثابة جسر يربط البحر الأبيض المتوسط بشمال إفريقيا. مشيرة، إلى أن هذه الحقائق التاريخية التي يبرزها متحف سيرتا ليست مجرد روايات، بل هي انعكاس لإرث حضارة عريقة استوطنت السواحل الجزائرية وصاغت معالمها عبر قرون من النشاط التجاري والتفاعل الثقافي.
مراد وليد رئيس مصلحة النشاطات بالمتحف
نصب معبد الحفرة.. أسرار الحضارة البونية والفينيقية
استوقفتنا خلال جولتنا في قاعة النوميدوبونية، مجموعة من الأنصاب النذرية التي تروي جانبا خفيا من تاريخ الحضارتين الفينيقية والبونية. حيث أوضح لنا وليد مدور، رئيس مصلحة النشاطات بالمتحف، أن هذه الأنصاب تعود إلى ما يعرف بـمعبد الحفرة، وهو معبد يعتقد أنه كان موجودا خلال الفترتين البونية والفينيقية اللتين تعاصرتا وتداخلتا في الزمان والمكان.وأشار مدور، إلى أن التنقيبات في معبد الحفرة التي تمت من طرف الباحثين "بيرتي و رونيه شارلي" وتمت بجنان الزيتون، كشفت عن وجود حوالي ألف نصب نذري، يعرض منها متحف سيرتا 800 نصب في حين أن 130 نصبا آخر معروضة بمتحف اللوفر بباريس. كانت هذه الأنصاب بحسب المتحدث، تستخدم في طقوس دينية مرتبطة بعبادة الآلهة القرطاجية، وعلى رأسها الإله بعل حامون والإلهة تانيت تاموت ، اللذين يمثلان رمزين رئيسيين في المعتقدات القرطاجية.
وأكد المتحدث، أن الأنصاب النذرية تمثل توثيقا ماديا شاملا للحياة الاجتماعية والاقتصادية في سيرتا القديمة، فقد جسدت مختلف المهن والأعمال التي كانت تمارس في تلك الفترة، مما يوفر رؤى دقيقة عن طبيعة المجتمع في تلك الفترة، ويمنحنا فهما عميقا لتفاصيل الحياة اليومية لسكان المنطقة.
وقال المتحدث، بأن النقوش التي زينت بها الأنصاب النذرية تميزت بتنوع لغوي فريد، إذ كتبت بـأربع لغات هي البونية القديمة، التي كانت لغة الفينيقيين، والبونية الحديثة، التي تطورت مع التفاعل الثقافي بين الفينيقيين والشعوب المحلية، واللاتينية التي تعكس تأثير الحضارة الرومانية اللاحقة على المنطقة، وأخيرا الإغريقية، التي تشير إلى التأثير الهلنستي نتيجة الاتصال بالحضارة اليونانية. ل.د