عادت القصص الشعبية لتجمع شمل أفراد العائلة حول مغامرات شخصياتها، للتعلم من القيم التربوية التي تحملها والتي تعكس ثقافة مجتمعنا، حيث وجدت هذه الحكايات التي نسيت لفترة منفذا جديدا للعودة من خلال وظيفة الترفيه التي تجذب مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، وقد أثرت مخرجات الواقع الافتراضي الحديثة على كل عتيق فظهر نشطاء ومهتمون بالتراث أحيوا الحكاية القديمة أو «لمحاجية» في مقاطع مصورة ينشرونها على حساباتهم بطريقة مبتكرة تلائم نمط التسلية الجديد.
إيناس كبير
رغم تغير وسيلة إلقاء حكايات «خداوج العمياء»، وأحداث «دار لمعكرة»، و«لونجا بنت الغولة»، و«الطير الحر»، من «القَوَّال» إلى الجدة التي كانت تجمع أفراد العائلة في ليالي الشتاء الباردة، تسرد عليهم قصصا من الواقع وأخرى أساطير تداولها اللسان الجزائري يفهمون معناها ويأخذون منها العبرة، إلا أن «لمحاجية» مازالت حاضرة في يوميات الفرد الجزائري ولياليه حيث لاحظنا انتشار حسابات عديدة سواء على «تيك توك» أو «إنستغرام»، أعادت إلى المستخدم صور شخصيات خيالية جاءت بها من ذكريات الطفولة، بعضها يقدم في قالب رعب كانت الأمهات والجدات يعتمدن عليه كوسيلة تخويف لمنع أطفالهن من الخروج وقت القيلولة، وأخرى عن الجود والكرم والأخلاق الحسنة لتهذيب سلوكهم.
القصة الشعبية متداولة في كل القطر الجزائري
أوضحت الحكواتية عواوش بن سعيد، في حديثها للنصر، عن تاريخ القصص الشعبية، أن الراوي وُجد منذ القدم وهو «القَوَّالْ كان يمشي ويقول»، مضيفة أن الظروف التي عاشها الجزائريون آنذاك استحدثت هذه الوسيلة الترفيهية، فقديما كانت البيوت خالية من أجهزة التلفاز لذلك يجد أهلها في قصص الجدات والأمهات أداة للاستمتاع أثناء جلساتهم العائلية وهو ما جعل الحكايات تنتقل من فاه إلى فاه مثل «دار الغولة»، و»آفافا إينوفا».
وأردفت، أن الأحداث التي عاشها الجزائريون خلال فترة الاحتلال الفرنسي والثورات الشعبية، شكلت مخيالهم السردي أيضا وخلفت قصصا عديدة بعضها من الأساطير وأخرى واقعية مثل قصة البطلة «لالة فاطة نسومر»، لذلك نجد القصة الشعبية منتشرة في كل القطر الجزائري، كما قالت.
وبصوتها متعدد الألوان وأسلوبها الهادئ الذي يريح ذهن المستمع وينفث الحياة في الشخصيات التي تتكلم على لسانها، قصت علينا «لالة عواوش» كما تلقب في المسرح الوطني الجزائري محي الدين باشتارزي، قصة «دار لمعكرة» عن أختين واحدة عابدة ناسكة، والأخرى فاطمة خفيفة الروح التي تحب الحفلات و»لعكر» أو ملون الشفاه بحسب ما شرحته لنا، وقد لاحظنا أنها لا تُغفل المعلومات التاريخية والثقافية، بل تقف عندها بتمعن وتقدم تفاصيل عنها.
وقالت الحكواتية، إن الجزائر مازالت تعيش هذه الحكايات فآثارها تخلد الشخصيات التي تسري عليها الأحداث كمتحف «خداوج العمياء» الموجود في القصبة السفلى بالعاصمة أمام دار القاضي وعزيزة، و»سيدي فليح» الطفل المدلل الذي اهتم به أهله وقبره موجود في مقبرة سيدي عبد الرحمان الثعالبي، وأسطورة «سيدي منصور» وشجرة الدلب العملاقة وقد دُفن في المقبرة ذاتها، وهذه القصص تتقاطع مجتمعة عند ميزة واحدة، حسب محدثتنا، هي زخم القيم والمواعظ التربوية المتضمنة في وقائعها، وضربت مثلا بقصة «فاطمة لمعكرة»، التي بينت أن «الدين معاملة ونصيحة»، ففاطمة التي تبدو غير متدينة، تملك قلبا طيبا ويبرز ذلك في إكرامها للمرأة التي اشتهت الشربة على خلاف شقيقتها.
كما استغربت محدثتنا، تجاهل الناس لهذا الموروث الذي يمكن أن يستفيدوا منه كثيرا في تربية الأبناء، عكس القصص والشخصيات التي لا تنتمي لثقافة المجتمع الجزائري و المستوحاة من ثقافات عالمية، وعلقت قائلة :»البعض يخجل من لغته وتراثه، قراءة الطفل للقصص من الأدب العالمي لا تعني إبعاده عن تراثه، فنحن أيضا نملك حكايات جميلة جدا مثل قصص جحا، و»مقيدش بولهموم ما يرقد ما يجيه نوم» وهي مفيدة وفيها مواعظ كثيرة».
صقلت مهنة التعليم أسلوب السيدة عواوش في إلقاء القصص، وهي التي قضت 45 سنة كمدرسة، حيث علقت على الموضوع :»داخل القسم كنت فنانة والتلاميذ جمهوري»، وأضافت بأنها اعتمدت في تكوين نفسها على أنماط القراءة المتنوع كالقراءة المثالية، والنموذجية، والصامتة والمعبرة، بعدها تعرف عليها الجمهور في «البوقالات» والتدابير المنزلية، ثم اكتشفها في القصص الشعبية حيث كانت حكواتية على إحدى القنوات الجزائرية، إما تقدم قصة حقيقية من الواقع، أو قصة من التراث سمعتها من أفراد عائلتها.
وفي هذا السياق، قالت محدثتنا، إنها لا تكتفي بما تسمعه فقط بل تعيد صياغة القصة بأسلوبها الخاص حتى تصبح جاهزة للتقديم بطريقة مميزة ولا يشعر المستمع أنها جامدة، وأشارت إلى أن الحكواتي البارع هو الذي يتخيل المشاهد ويعكس من خلال حركات وجهه انبهار الشخصيات واستغرابها، وسؤالها عن أمر ما وغضبها وشرودها، وفي هذا السياق وصفت السيدة عواوش، القصة بالمسرح الذي يخطف الجمهور ليعيش داخل عالم خيالي.
وعن الحفاظ على هذا الموروث المحكي قالت الحكواتية، إنه توجد كتب متخصصة في القصص الشعبية الجزائرية، مثل مؤلف الكاتبة والباحثة في التاريخ زبيدة معمرية، التي تنحدر من ولاية سوق أهراس، والذي جمعت فيه قصصا شعبية من ولايتها في ثلاثة أجزاء.
أما عن توجه نشطاء من الجيل الجديد على مواقع التواصل الاجتماعي لفن الحكاية، فترى الحكواتية عواوش بن سعيد، أنه عليهم البحث والتحري عن مصداقية القصص المنتشرة التي تكون غالبا خيالية وليست من التراث الشعبي، خصوصا التي تتحدث عن أصل الأطباق التقليدية، ونصحتهم بالتوجه إلى حكواتيين معروفين حتى لا يقعوا في المغالطات.
التراث المحكي الجزائري ذو هوية
وتكمن قيمة التراث الشفوي الجزائري بحسب الحكواتية زهرة الفل بومزبر، في هويته التي تجعل الجزائريين يفتخرون بثقافتهم اللامادية المميزة عن الثقافات الأخرى، فعلى سبيل المثال توضح، أن القصص الشعبية بقيت محافظة على مفرداتها القديمة التي بينت الأبحاث وفقا لها، أنها مستوحاة من اللغة العربية ولغة الشعوب القديمة التي تعاقبت على الجزائر، لذلك تبدو أحيانا غريبة عن المعجم اليومي الحديث للجيل الجديد. وتضيف بومزبر، أن ما يميزها أيضا اقتباسها من تجارب وأحداث عاشها الناس قديما ورُويت على لسان آخرين وبقيت متداولة، وهو ما يفرقها عن الأسطورة التي تكون خيالية لذلك نجدها ثرية بالعبر.
وترى محدثتنا، أن الأصل هو بقاء القصة على حالها دون إدخال إضافات من ثقافات غربية عليها، خصوصا وأن المجتمع الجزائري يتمتع بصفات عديدة جميلة مثل الرحمة والاتحاد العائلي، والتعاون، واحترام الوالدين وهي مفقودة لدى الآخر.
ويجذب أسلوب الحكواتية المتابع لأنها تشوقه من خلال حبكة القصة التي يمنحها اهتمامه إلى غاية فك عقدتها، حيث قالت إنها تسرد أيضا قصصا حقيقية قد أثرت من خلالها في أُناس كثيرين راسلوها وأخبروها أنها نبهتهم لبعض الأمور الخاطئة، كما يتخذ البعض من القصص التي تسردها وسيلة تربية، يعلمون من خلالها أطفالهم الانضباط وجعلهم يتجنبون أخطاء من سبقوهم.
وقد ساهم التفاعل مع القصص الشعبية على غرار «لونجة بنت الغول»، «لونجة بنت السلطان»، وقصة «الطير الحر» المرتبطة بالنسر والمشهورة في ولاية عنابة، وفقا لبومزبر، على إحيائها وعقبت قائلة: «بما أن التكنولوجيا غزت العالم وفرقت الأسرة فإننا نحاول لم شملها من خلال القصة».
أقدم قصصا تراثية بطريقة مبتكرة
تنشط ليديا مخلوفي، على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» وقد وظفت موهبتها في التعليق الصوتي لتقديم قصص من التراث الشفهي القسنطيني، الذي تأخذه عما تسمعه من جدها وجدتها اللذين يقصان عليها قصصا قديمة، أعادت لها الروح من خلال صوتها الرخيم الهادئ وقدمتها بطريقة جميلة، لتثير حنين متابعيها في بلاد المهجر على مواقع التواصل الاجتماعي، وتستعرض أمامهم السمة الملكية لـ»سيرتا» داعية إياهم لزيارتها.
كما تركز على بعض الكلمات حتى تجذب المستمع موظفة أيضا مفردات من المعجم القسنطيني القديم، وفي هذا السياق قالت ليديا، إنها تُعَرِّف متابعيها خصوصا من الولايات الأخرى على اللهجة القسنطينية وتروج لها، وقد تمكنت من لفت انتباه بعض منهم الذين راسلوها مستفسرين عن أصل عدد من الكلمات ومعناها، وفي هذا الجانب عقبت :»صحيح أني قدمت القصص الشعبية بطريقة حديثة، لكني حريصة دائما على الحفاظ على أصالتها وصفتها العتيقة»، فيما تركز المعلقة الصوتية أيضا على أن يفرق متابعوها بين الأسطورة والقصة المتوارثة.
ومن القصص التي نالت تفاعلا كبيرا على حسابها، ذكرت ليديا قصة «فيديو» طبق «شباح السفرة» الذي حصد مليونا على «تيك توك»، ونصف مليون على «إنستغرام» بفضل قصته الملكية، وكذا قصة «زنقة حلموشة».
وعن ظهور القصص الشعبية مرة أخرى، ترى أنه نوع من التغيير خصوصا بعد طغيان «الترند»، وكل ما هو حديث على اليوميات الافتراضية لمستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، فقد ساهم الحكواتيون وفقا لها في جعلهم يحنون إلى طفولتهم.
إ.ك