ميراث من الحرائق والفوانيس
حلت منذ أيّام قليلة، ذكرى غياب الكاتب والسوسيولوجي عمار بلحسن (13 فيفري1953/ 29 أوت 1993). فكيف يمكن أن نستحضر الآن، قاصا وباحثا سوسيولوجيا ومترجما، وما هي حدود إبداعياته بملابساتها وأسئلتها المتعدّدة بين مختلف الحقول والسجلات الإبداعية التي إنخرط في أتونها فاسحا المجال لفرص من التلاقي والحوار بين القاص والباحث السوسيولوجي والمترجم. ثمّ ما الّذي بقي من «حرائق بحره» و»أصواته وفوانيسه» بعد أن عرفت القصّة القصيرة لديه بعض الإختراقات الشكلية عبر لغته الشاعرية التي لا تخفى على أحد للانتقال بها من التقليد إلى التجريب ومن الوافد آنذاك في زحمة التأثيرات الثقافية العربية إلى «التجريب الفاعل» المقترن بوعي التفرد والإختلاف وما هي السُبل والمفازات التي اختارها ليُسائل من موقعه كباحث سوسيولوجي بعض الوثوقيات والأقنعة التي أعاد النظر عبرها بحدة في نقد ومراجعة الراهن اليوميّ والتاريخيّ وأسئلته عشية العاشر من أحداث أكتوبر 1988 وما تلاها من إنهيارات وتصدعات مست كافة مناحي الحياة اليومية للمواطن الجزائري فيما يراه من تاريخ ممكن أو بدء تاريخ أو تاريخ بعدي بمنظور واقعنا في معرفة ونقد الأنا والآخر ضمن رؤية سوسيولوجية تؤسس للمستقبل فيما تكشف عن وعي المعاصرة ومأزق هذا الوعي فيها..
إستطلاع/ نــوّارة لحـــرش
هذه الأسئلة وغيرها مما يسكن تجاويف الأبعاد المتعّددة لشخصيته ومحمول رؤاه وحقول الإهتمام والبحث التي مثلت عنده المنعرج الّذي على أساسه عرف كيف يصل بين الإبداعيّ والنقديّ والأكاديميّ واليوميّ المتصور بوعي منفتح على تحولات مجتمعه طرحناها على عدّد من المثقفين والكُتاب كأفق تدور حوله كلّ هذه المحاور. فكانت هذه الشهادات التي تؤرخ لذكرى عمار بلحسن وتؤثثها بكثير من المحبة والإضاءات والاستحضار النبيل لذكراه وانجازاته وأثاره المزدحمة بالحرائق، والأصوات، والفوانيس المختلفة.
مرزاق بقطاش/ روائي وكاتب صحفي ومترجم
رأيت فيه منذ البداية مشارفة لدقائق هذه الحياة
لا أدعي معرفة بما كتبه الزميل الراحل عمار بلحسن في الشأن الإجتماعي. كلّ ما أعرفه عنه هو أنّه خاض غمار البحث السوسيولوجي بعد أن غادر عالم الصحافة، وانتمى إلى الجامعة باحثا ومدرسا ومعنيا بما يستجد من أحدنا في دنيا الاجتماع بصورة عامة، إن في الجزائر وإن في العالم العربي والعالم أجمع. كلّ ذلك عن بعد مني، وليس عن صلة وثيقة بنشاطه في هذا الشأن. غير أني أعترف أنّني حين قابلت عمار بلحسن لأوّل مرّة في وهران في عام 1976، وكان يومها صحفيا بوكالة الأنباء الجزائرية، لمست فيه ميلا شديدا إلى التعمق في شؤون هذه الحياة. قامة عملاقة، وعينان يشوبهما بعض الحزن، وصمتٌ فيه الكثير من الهدوء. ولذلك لم أستغرب حين علمت أنّه ودع الصحافة والتحق بالتدريس الجامعيّ والكتابة الاجتماعية. أمّا في جانب الإبداع القصصيّ، فإنّني رأيت فيه منذ البداية مشارفة لدقائق هذه الحياة. يعالج القصة القصيرة بطريقة تمزج بين ما كتبه القاص السوري زكريا ثامر، وبشاعرية مكثفة تبعدنا عن أساليب الواقعية الإشتراكية بالرغم من أنّ الوقت كان وقت ما يسمى بالكتابة الإشتراكية في الجزائر. لو طال العمر بالزميل عمار بلحسن، عليه رحمة الله الواسعة، لكان سيد القصة القصيرة في الأدب الجزائري. بل إنّني ما كنت أنتظر منه أن يكتب رواية طويلة لا لأنّ قدرة السرد القصصي عنده محدودة، بل لأنّها كانت تجنح إلى التكثيف الشاعري بصورة تلقائية. ولعلّه وجد ضالته في هذا المضمار حين خاض غمار البحث السوسيولوجي وحاول الترجمة. ولا أنسى أبد الدهر يوم زرته في مستشفى عين النعجة في عام 1992 وهو على وشك إجراء عملية جراحية على بطنه المتقرحة. قال لي مُمازحا: أخشى ألا أقوم بعد العملية. قلتُ له ضاحكا: ستقوم بإذن الله، وستدون لنا تجربتك في قصة طويلة. وقد بلغني نعيه يوم 29 أوت من عام 1993 وأنا أتابع الأخبار على شاشة التلفزيون الجزائري، قلتُ بيني وبين نفسي: ها هو جزء من تاريخنا الأدبيّ يعود إلى خالقه. كان عمار بلحسن مُتميزا في فنه القصصيّ، وفي سلوكه مع غيره. ومازالت صورته تتراءى أمامي في مكتب وكالة الأنباء الجزائرية بوهران وقد وقف بالقرب من مدخل المكتب، محنيًا قامته العملاقة كأنّما يريد بذلك أن يكون على صلة حميمة بفنه وبأبحاثه وبالمجتمع الّذي ينتمي إليه.
بشير مفتي/ روائي
مات متحسرا بالفعل على المسألة الثقافية بالجزائر
عندما نستعيد ذكرى كاتب/ باحث مهم مثل عمار بلحسن نتساءل حتما لماذا لم تنشر كلّ بحوث هذا الكاتب حتى الآن؟، أين الخلل بالضبط؟، لماذا طبعت العشرات من الكتب التي لا تسمن ولا تغني من جوع خلال تظاهرات كثيرة عرفتها الجزائر ودعمتها الدولة الجزائرية في السنوات الأخيرة، ولم تنشر دراسات الفقيد الكثيرة التي تركها إمّا مخطوطات، أو مبعثرة في مجلات عربية كثيرة، ومَن مِن المفروض أن يقوم بدور الجمع والنشر؟، هل هم أصدقاء الراحل؟ ومن كانوا أصدقاءه؟، هل هي جامعة وهران التي منحها عصارة فكره وعلمه؟، أم وزارة الثقافة؟، أسئلة كثيرة وما من جواب عليها لحد الساعة. أذكر أنّه مرّة في منشورات الاختلاف كانت هنالك نية لنشر بعض دراساته في سوسيولوجية القراءة، واتصلت شخصيا بالمرحوم الطاهر وطار الّذي ترك له الفقيد عدة أعمال مهمة كنت شاهدتها سابقا في مكتبه وأخبرته عن رغبتنا في نشر تراثه الفكري مثلما فعلنا مع المرحوم بختي بن عودة في نشر كتابه «رنين الحداثة» فرحب بالفكرة أولا ثمّ قال مشترطا يجب أن يكون النشر مشتركا بين الجاحظية والاختلاف فلم نمانع لأنّ الأمر يخص كاتبا كان عضوا في جمعية الجاحظية وصديقا لوطار نفسه، غير أنّنا اختلفنا بسرعة عندما قال وطار رحمه الله إنّه هو من سيطبع الكتاب في مطبعة الجمعية فرفضت ذلك مذكرا المرحوم وطار بأنّ طباعته سيئة ولا تصلح لمقام رجل مهم كعمار بلحسن، فأذكر أنّه غضب مني وفهمت أنّه ألغى الفكرة تماما من رأسه، وللأسف لم ينشر هو تلك الدراسات المهمة ولم يتركنا ننشرها. لقد مات عمار بلحسن متحسرا بالفعل على المسألة الثقافية بالجزائر، وكلنا يذكر مشروع مجلة «كتابات» الّذي اقترحه ذات زمن على وزارة الثقافة ولم يرد عليه أحد لا بالرفض ولا بالقبول، قرأت المشروع في مجلة التبيين وكم تألمت/تأسفت على تضييع فرصة ولادة مجلة كبيرة كتلك التي حلم بها المرحوم ولم يحققها قط في حياته. لم ألتقي شخصيًا بالمرحوم إلاّ مرتين أو ثلاث دون أن أتكلم معه مرّة واحدة، أذكر أوّل مرّة كان بقاعة الموقار وهو يحاضر عن السياسة في الجزائر وأعجبني كيف لخص مفهوم السياسة عندنا بأنّها ليس لها علاقة بفن السياسة ولكن بـ»البوليتيك».. الخ ومرّة شاهدته بشارع العربي بن مهيدي وهو يصاحب الشاعر محمد بنيس في جولة تسوقية ثمّ سمعت بخبر مرضه اللعين وموته، لقد قرأت لعمار بلحسن معظم قصصه القصيرة وأغوتني تجربته المختلفة، كما أحببت كتاباته النقدية والفكرية وأعجبت بشخصه الملتزم والّذي حتما كان على قدر كبير من الصدق والعمق والروحانية وآلمني نصه «يوميات الوجع» بشفافيته الجارحة جدا. الإستنتاج الّذي أخلص إليه في مناسبات نتذكر فيها كاتبا من طراز عمار بلحسن أو بختي بن عودة أو الطاهر جاووت وغيرهم ممن فقدناهم في أزمنة المحنة والغثيان كم هي الجزائر جاحدة مع أبنائها الأفذاذ، وكم هو مؤلم نسيانهم بتلك السرعة ومفجع أنّ حتى ما كتبوه يطويه النسيان أو غبار الزمن فلا نستطيع حتى استعادتهم واستحضارهم عن طريق القراءة.
محمد بن زيان/ باحث وناقد
رؤية مفتوحة في قراءتها الدينامية للواقع بإحداثياته المتشعبة وبجذوره وخلفياته
عمار اشتغل على ما يتصل بالموضوع الثقافيّ من حقل اشتغاله السوسيولوجيّ ومن خصوصيته كمبدع واشتغاله على ما هو ثقافي ساقه إلى تفكيك الجزائر بكلّ مفرداتها وعناصر تكونها ومعطيات سيرورتها وصيرورتها وحيثيات تحولاتها وتغيراتها. والعودة إلى النصوص التي كتبها عمار في فترة قصيرة لكنها مكثفة، تُبلور تطورا رؤيويًا وتطورا في الآليات المُوظفة، فمن كِتابه «الأدب والأيديولوجيا» إلى «كشف الغمة» حمل عمار رؤية مفتوحة في قراءتها الدينامية للواقع بإحداثياته المتشعبة وبجذوره وخلفياته، رؤية تجسد مكابدة عمار لمعاناة التحقق كمثقف بدوره النقدي والمنخرط في الديناميكية الإجتماعية كفاعل وهذه المكابدة تمثلها اسهاماته المتواصلة حتى قبل رحيله بأيّام في المنابر الإعلامية، اسهامات حققت التواصل بين الأكاديمي والإعلامي ومثلت خروجا من الدائرة الأكاديمية المغلقة وارتقاء بالنقاش الإعلامي لصياغة الفضاء العمومي الّذي تحدث عنه هابرماس كشرط للديمقراطية ولصياغة المواطنة. وحملت أطروحات عمار أفكارا صارت بعد رحيله من محاور الإهتمام المرتبط بالأحداث المستجدة وافرازات التطوّر الهائل في تكنولوجيات الإعلام والإتصال وما أعقب نهاية الحرب الباردة ودخول العالم في سياق تحولات تصوغها شعارات النهايات والمابعديات، فعمار تحدث عن ما تجدّد عند علي حرب وغيره ممن تحدثوا عن النُخب والمثقفين. كتب عمار مفتتحا دراسته (الكتابة والمنبر الغائب: المجلات الثقافية في الجزائر) بالعبارات التالية: (يبدو العالم الثقافي الجزائري رماديًا، أشبه بصحراء سائدة، لا ينبت فيها إلاّ بعض نباتات الصبار التي تختزن ماءها ونسغها مؤونة منذ سنوات تعتاش منه، في انتظار غيث مستحيل، كأرض تمص مخزونها متدهورة نحو التصحر النهائي، تذوي براعمها، ويجف ضرعها وزرعها، لتترك اليباس يعيش في دبالها بلا هوادة). وذكر إنّ استهلاله هذا ليس شعريًا، إنّه (إعادة جذر كلمة «ثقافة» إلى رحمها الأصلي، الفلاحة، وتكوين صورة للفكر وللإبداع في معادل رمزي وبلاغي داخل جزائر تعيش منعطفا خطيرا: إمّا النجاح في قيادة مجتمع على أعتاب الحداثة والديمقراطية، أو السقوط في هوة التفتت، والفوضى والتاريخ الأليم) كتب هذا بفترة قبل دخول البلاد في المسار الّذي تلون بالدم. واصل عمار ما دشنه باحثون كجغلول ولشرف من اشتغال على الملابسات التاريخية للمسارات الثقافية الجزائرية وعاد للفترة الكولونيالية فدرس الأدب والمسألة الوطنية، واشتغل على المسألة الثقافية بكلّ تفاصيلها، متوقفًا عند الحيثيات التاريخية، مُسجلا كما كتب في افتتاحية العدّد الرابع من مجلة التبيين الصادر في فترة كانت مشحونة بمناخ مشحون بما أرهص لما عشناه في التسعينيات: (لا، ليست هذه الأزمة الأولى، إنّ بلدنا الجزائر، وهو من أجمل بلدان البحر المتوسط قاطبة، يضرب بجذوره في عمق تاريخي وجغرافي، اختلطت في فضاءاته شيم الحرية بالعنف، النظام بالفوضى، المخزن بالسيبا، الدولة بالقبيلة.. عرف دائما تطورات وقفزات عنيفة، ويبدو تاريخه سلسلة من الأزمات، تعكس مخزونات وطاقات نفسية وثقافية واجتماعية عظيمة ورهيبة داخل الإنسان والمجتمع. يظهر الإنسان الجزائري في منظور عِلم النفس التاريخي كائنًا يتطوّر عبر المواجهات والمجابهات العنيفة، من الرجال الأحرار الأمازيغ، حتى ثورة نوفمبر التحريرية انعجنت عناصر الشخصية القاعدية كمركب وجودي يختزن جدلية المقاومة والنفي والشهادة، يحتمل رؤية درامية وعنيفة للتاريخ والزمن والكينونة..) ويسجل بأنّ الجزائريّ في الفترة التي كتب فيها مقاله يبدو (كائنًا مرميًا في معمعة الحداثة والعصر، يغذيه حدس البطولة، وإرادة الكينونة، وإثبات الذات في عالم شرس المصالح والرهانات، بدون استراتيجية أو استشراف علمي ومعرفي للواقع و»المستقبل»). عمار تأمل وفكر ورصد المعيش، لم يغرق في العموميات النظرية وبلور في نصه الأخير الّذي كتبه وهو يصارع المرض وعنونه بعنوان للمقريزي «كشف الغمة» ما يسكنه ويشغله حتى وهو في محنته فكتب عن بؤس الحياة الجزائرية في المظاهر والبنايات، ووصف الحالة التي كتب فيها: (بكلّ ما ترك لي المرض المستعصي من صفاء وبكلّ ما بقي في الجسد من نفس وفي القلب من حب وفي العقل من عقلانية، وفي عزلة صوفية) ويقول: (كتبت ما كتبت، قاصدا تنبيه الغافل، واستنطاق الصامت وكشف الغمة، غمة الرّوح الجزائرية في مأزقها، أزمتها، محنتها). مع عمار تمّ تحقيق انفتاح النقاش السوسيولوجي على الواقع المتحول وفي إطار أوسع من الإشتغال المفاهيمي الصرف وأوسع من الإشتغال في الفضاء المحصور أكاديميًا. ففي «كشف الغمة» كتب عمار بلغة هي مُتصلة بلغة كتب بها «يوميات الوجع»، أي لغة شفافة تمزج بين خلفيته الأدبية والسوسيولجية وحالة هي أقرب للتصوّف، كتب عن جزائر تتعرض لتبلور ما تراكم في رحم المراحل المُتعاقبة عبر التاريخ وسبق لعمار تناولها في دراساته ومقالاته.
بن ساعد قلولي/ قاص وناقد
التحولات المُتسارعة لم تُغير من راهنية منجزه الإبداعي والفكري
تتعدّد مناحي الإبداع وحقول الكتابة عند عمار بلحسن من القصة القصيرة إلى النقد الأدبي ذي الموضع السوسيونقدي إلى البحث السوسيولوجي في قضايا الإسلام السياسي والهُوية والتاريخ والحداثة والتراث والإزدواجية اللغوية وغيرها التي خاض غمارها وتاه في سُبلها ومفازاتها المتنوعة الجوانب والأبعاد، وكلّها كانت تُمثل إحدى المنظورات وآليات الإشتغال لديه وفق ما استقاه من مفاهيم وأشكال فنيّة من سياقات مختلفة عربية وأجنبية في سيرورة لا تتوقف لمحاصرة المآخذ والمعضلات التي واجهته والإكراهات الثقافية التي ميزت عصره وزمنه وإستبدت بوجدانه الفكري والسياسي والثقافي والإجتماعي وحتى الحياتي، ففي النقد الأدبي إستطاع عمار بلحسن عبر ما كتبه عن (الأدب والإيديولوجيا) والرواية والتاريخ أو (نقد المشروعية) و(القص والإيديولوجيا في رواية الزلزال للطاهر وطار) و(الرواية والإيديولوجيا الوطنية-دراسة سوسيولوجية لثلاثية محمّد ديب) وغيرها مما أنجزه بمخبر سوسيولوجيا الأدب بقسم العلوم الاجتماعية -جامعة وهران أن يتجاوز تلك المنطلقات النظرية العامة التي دأب عليها النقد السوسيولوجي السياقي الخارج-نصي كما أرسى دعائمه ومقوماته النظرية والمفهومية كلّ من إسكاربيت وألبير ميمي والّذي لا يُولي أهمية سِوى لما هو خارج النص مثل وضع الكاتب الإقتصادي والإجتماعي بإعتباره مُنتج السلعة الأدبية ودراسة الوسائل الإقتصادية للأدب على غرار الإنتاج والإستهلاك والقراءة والإنتشار والتداول النقدي الإعلامي منه والأكاديمي ليصل بلحسن وهنا سرّ تميزه إلى ربط النص ببنيته الإجتماعية دون التغاضي عن أسئلته الجمالية والبنائية والفنية، وعلى صعيد آخر نجده يكاد يكون من السوسيولوجيين القلائل الذين قاربوا بوعي إبداعي ومعرفي شديد الخصوصية أعطاب المجتمع الجزائري والإكراهات التي حالت دون تمثله الوجداني ومعايشته الوجودية لأسئلة الحداثة والعصر والمدنية والديمقراطية في تعدّد واجهاتها ومقولاتها وتباين الخلفيات النظرية والغايات المضمرة أو المعلنة التي تسمح بتحديد أسئلة الهُوية والتاريخ والحداثة والازدواجية اللغوية لتشمل الكيفيات التي رأى بلحسن أنّها تطال وتخترق مجالات عِدة منها السياسيّ والدينيّ والاجتماعيّ والثقافيّ في طابعها المؤسساتي أو اليومي المتحوّل بحثا عن (خارطة طريق) تدلنا بوضوح على أنّ «الحداثة المعطوبة» وهو عنوان إحدى مقالاته ليست معطى جاهزا أو قدرا محتوما على المجتمع الجزائري وعن ماهية الإنسان والمجتمع والدولة أو (دولة الإستقلال السياسي) مثلما يسميها. وفي القصة القصيرة لم يبتعد كثيرا عن تيار الواقعية الذي كان سائدا خلال فترة السبعينيات من القرن المنصرم من وجهة نظر حالمة في بعض الأحيان وإنتقائية عبر لغته الشّعرية الفجائعية التي لا تخفى على أحد متميزا عن بعض مجايليه على الصعيد الموضوعاتي بإهتمامه الواضح بإشكالات فرضتها يوتوبيا الحلم الثوري وقضايا التحرّر والتحرير تنويعًا على ما اكتسبه من قراءاته لمفكرين نافذي التأثير كأنطونيو غرامشي الّذي كان يشكل مرجعية كبرى بالنسبة لبلحسن على ضوء مشكلات (المثقف العضوي) والإيديولوجيا، ثمّ الموقف الانتقادي من الماضي ومن الطابع المحافظ السكوني للذهنية العربية المعاصرة مثلما أنّه قدم أيضا مساهمات متعدّدة في حقل الترجمة، ترجمة النظرية الإجتماعية وإشكالات (المثقف العضوي) ومهامه وشروط إنبثاقه لدى غرامشي، وعلى العموم فالمنجز الإبداعي والفكري لعمار بلحسن مازال يحافظ على راهنيته ولم تُغير من مشروطيته الإبداعية مطلقا التحولات المتسارعة كون هذا المنجز بأسئلته المتعدّدة مازال يعيش معنا مشاغل عصرنا حدسا وعقلا وتخييلا.