عمارة منانة.. من قطار العيش إلى السجن المؤبد
و الأشغال الشاقة في جحيم «غويان»
أدانت السلطات الاستعمارية الفرنسية في منتصف عشرينات القرن الماضي ، ابن قطار العيش بولاية قسنطينة، عمارة منانة، بسرقة نعاج و ماعز، فأصدرت في حقه حكما بالسجن، ثم رحلته إلى إحدى مستعمراتها آنذاك، بالساحل الشمالي من أمريكا الجنوبية، حيث تخبط في جحيم مؤسساتها العقابية إلى أن قتله البؤس و المرض و الحنين إلى الوطن، و لم يحظ حتى بقبر يجمع بقايا بقاياه، كما أكد الباحث و المخرج و السيناريست الفرنسي بيار ميشلون الذي يسلط الضوء على معاناته عبر فيلم وثائقي.
منذ سنة 2012 و إلى غاية اليوم، يكرس ميشلون وقته و جهده، في النبش في أغوار ذاكرة الحقبة الكولونيالية ، لرصد مسارات و حكايات محكوم عليهم من مختلف الجنسيات رحلهم المستعمر الفرنسي إلى مستعمراته ما وراء البحار، فقد قرر أن يحارب الصمت و النسيان و يخلدهم بالصوت و الصورة، عبر أفلام وثائقية، تعيدهم و لو رمزيا، إلى أوطانهم و ذويهم.
المخرج يجمع خيوط حكاية منانة بين غويان و قسنطينة
من بين المنفيين المنسيين الذين استقطبوا اهتمام المخرج الفرنسي الذي يحمل في رصيده عديد الوثائقيات التي شارك بها في مهرجانات دولية، الفلاح الجزائري عمارة منانة، الذي صدر في حقه حكم بالسجن في 1925، ثم تم ترحيله في 1926 مع مجموعة من مواطنيه، إلى غويانا أو غويان الفرنسية، في الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية، على متن باخرة، فاقتفى أثره في منفاه ، و رصد الظروف المزرية التي عاش فيها ، إلى أن وافته المنية و وري الثرى في حفرة جماعية، و زار مؤخرا مسقط رأسه ليكمل خيوط حكايته المؤلمة.
المخرج الشاب أوضح للنصر مؤخرا، أثناء زيارته لقسنطينة، بأن تحقيقه انطلق من أرشيف إكس أونبروفانس، ثم غويان الفرنسية ، فالولايات المتحدة الأمريكية فولاية قسنطينة، لجمع المعلومات و الشهادات الكافية لتصوير مشاهد ستثمر قريبا عن فيلم تاريخي جد مؤثر، سيضمه إلى رصيده من الأفلام الوثائقية ذات الطابع التاريخي و الاجتماعي و الإنساني التي شارك بها في عدة مهرجانات.
محدثنا شدد بأنه ليس مسؤولا عن سياسات و ممارسات سلطات بلاده في الماضي و الحاضر، لكنه يشعر بأنه كباحث و فنان و إنسان، مسؤول عن إبراز بعض الحقائق المكبوتة و المسكوت عنها، و جمع خيوط حكايات منفيين منسيين، من صميم البؤس و القهر الإنساني، مثل حكاية عمارة منانة، لافتا بأن بداية الحكاية كانت عندما اطلع بمحض الصدفة على منتدى «سان لوران دو ماروني» في الشبكة العنكبوتية، يتحدث عن أسلاف محكوم عليهم رحلهم الفرنسيون في عشرينيات القرن الماضي إلى ما وراء البحار، و أعرب ذووهم و من بينهم جزائريون و فرنسيون عن رغبتهم في اقتفاء أثرهم و اكتشاف حقيقة ما حل بهم.
وأد الحقيقة في حفرة جماعية
عشق المخرج و السيناريست الشاب للبحث و الاستقصاء ، دفعه للاتصال بأهالي المنفيين، فلم يرد عليه، كما قال لنا، سوى حفيد الجزائري عمارة منانة ، فؤاد المقيم بدنفر، في ولاية كولورادو الأمريكية، و حدثه عن جده الذي لا تكاد تعرف عائلته عنه شيئا ، منذ ترحيله و هو في العشرينات من عمره إلى غويان الفرنسية في 1926 .
و قال فؤاد لميشلون أن جده لأبيه، كان فلاحا بمنطقة قطار العيش ، و عندما تم الاستيلاء على أرضه (..) و حرمانه من مصدر رزقه ، لم يتحمل و انفجر يأسا و غيظا و هناك رواية غير مؤكدة تقول بأنه يكون قد أضرم النار في بلدية الخروب، و بعد محاكمته و إدانته من قبل السلطات الفرنسية ، سجن في قسنطينة ثم العاصمة، ثم نفي إلى غويان الفرنسية على متن باخرة، تاركا خلفه ولدين، أحدهما عمره سنة و الثاني أربع سنوات، تكفل أهل بلدته بتربيتهما و رعايتهما، و طلب فؤاد من بيار ميشلون، الذي أنجز من قبل فيلمين وثائقيين ببلادنا، أن يساعده في فك لغز حياة و وفاة عمارة منانة، فأخبره بأن لديه مشروع فيلم و خريطة حول مسارات الترحيل و النفي، و يمكن أن يدرج حالة عمارة منانة في المشروع، فوافق و ظلا يتراسلان عبر النت، إلى غاية اليوم.
الخطوة الأولى التي قام بها الباحث هي التوجه إلى أرشيف أكس أونبروفانس الذي يضم ملفات المحكوم عليهم المرحلين إلى كاليدونيا الجديدة و غويان، فأخبره المكلف بالوثائق بأنه تلقى 800 طلب للاطلاع على ملفاتهم، عندئذ اتصل ميشلون بفؤاد لمراسلته بخصوص ملف جده، فتلقى ردا بأن لا أثر له، فلم يستسلم و اتصل بجمعية أصدقاء عرب كاليدونيا الجديدة، لأن فرنسا كانت ترحل المحكوم عليهم بالتناوب إلى كاليدونيا الجديدة و غويانا لمعاقبتهم مع أقسى ظروف التشديد من جهة، و بهدف تعمير المستعمرات و تجسيد فكرة الإمبراطورية الفرنسية، حسب ميشلون، من جهة أخرى، و جاء الرد بأنه لا أثر لوثائق جده .
و تمثلت الخطوة التالية في تنقل ميشلون في سنة 2014 إلى غويانا، للعمل مع فنان غوياني، مشيرا إلى أن السجن السابق الذي كان يضم المرحلين المحكوم عليه بالسجن المؤبد و الأشغال الشاقة في ظروف جد مزرية ، و تعرض لاحقا للإهمال التام، ثم تم تجديده و قام رئيس البلدية السابق بإنشاء فضاءات ثقافية و فنية و أرشيف و متحف هناك.
الفنان الغوياني ساعد المخرج في البحث في أرشيف الزنزانات القديمة لكنه لم يعثر على أي أثر لعمارة منانة ، و اتصل بمؤرخ كان بصدد ضبط قوائم نزلاء المؤسسة العقابية، ثم توجه إلى محافظة غويان لكن دون جدوى، وارتسمت بارقة أمل جديد عندما عثر رياض ، شقيق فؤاد، على شهادة ميلاد الجد الأصلية، و سرعان ما اكتشف ميشلون بأنه كان مسجلا من قبل الفرنسيين كالتالي «عمارة بن أحمد، المدعو منانة»، و أعرب عن أسفه لهذا الخطأ الإداري الكولونيالي الذي أهدر عامين من الجهد و البحث، مشيرا إلى أن الكثير من أسماء المساجين المنفيين الفيتناميين و الكمبوديين و المدغشقريين و الأفارقة عموما ، لم تسجل بدقة، ففشلت عائلاتهم في البحث عن ملفاتهم و اعتبر ذلك نوعا من العنف على الأشخاص و على الذاكرة الجماعية لا يزال متواصلا إلى غاية اليوم .
و أشار المتحدث إلى أنه عثر أخيرا على شهادة وفاة عمارة، و لم يعثر على شهادة زواجه المفترض هناك أو شهادات تثبت أنه أنجب أبناء آخرين، و ذلك بعد الإفراج عنه تحت الإقامة الجبرية في 1932 أو 1933 ، و قال بنبرة غضب و تأثر» الأرشيف الكولونيالي لم يحتفظ إلا بجزء من حياة المحكوم عليهم و جزء من موتهم، لقد فعلوا به ما شاءوا»، في إشارة إلى سلطات بلاده.
و عندما سألناه عن الأسباب التي جعلته لا ينجز فيلما دراميا بلمسات خيالية حول عمارة، رد بأنه باحث و فنان و ربما شاعر، صور كافة مراحل رحلته الاستكشافية، ليقدمها في شكل فيلم وثائقي يسرد قصة واقعية و يسترجع محطات من الذاكرة.
و أضاف المتحدث بأن أصعب لحظة في هذا العمل، عندما اطلع على رسالة عمارة لإدارة السجن لطلب المساعدة المادية، حيث كتب بأنه لو أطلق سراحه لعاد إلى وطنه، و تم تسطير العبارة باللون الأحمر، و علق ميشلون» تصوروا حتى حلمه لم يكن يسمح له بالتعبير عنه لأنه محكوم عليه بالسجن المؤبد».
و اتضح بأنه مات تحت وطأة الجوع و البؤس و الظروف القاسية و اللا إنسانية التي تخبط فيها، و عندما توجه إلى المقبرة للاستفسار عن قبره، سخر منه حارس المقبرة و أخبره بأن لا قبر له هناك، لأن كل المحكوم عليهم كانوا يدفنون في حفرة جماعية. و علق المخرج بنبرة استنكار «هذا مرعب و مقرف» ، مضيفا بأنه عندما أطلع حفيده بالأمر، تأثر كثيرا و طلب منه أن يتلو الفاتحة على روحه، فاضطر للاستنجاد بإمام ، لأنه ليس مسلما و لا يعرف اللغة العربية، و تم اختيار أكبر شجرة بالمقبرة ، باعتبارها الشاهدة على كل ما حدث لتلاوتها. و زار المخرج الولايات المتحدة للالتقاء بفؤاد و سجل شهادته حول جده و صور له مع أسرته، ثم زار مؤخرا مسقط رأس عمارة بقطار العيش بولاية قسنطينة، و صور كل الأماكن التي احتضنت الفقيد هناك، ومن بينها زاوية الإخوان، و جمع شهادات أخرى أدلى بها كبير القرية و أفراد من عائلته.
«هلوسة» تهدر حياة منانة في السجن و المنفى
تمكن الباحث من الحصول على الحكم الصادر في حق عمارة و اطلع على التهمة الموجهة إليه، و هي «سرقة نعاج و ماعز من منزل به سكان في ليلة 26 إلى 27 جانفي 1925، بمزرعة في عين السمارة ، و هي سرقة موصوفة مع ظروف التشديد، و هي ظرف الليل و ظرف التعدد ، أي تورط شخصين أو أكثر في السرقة، و ظرف حمل السلاح، حيث كان اللصوص أو أحدهم، يحملون أسلحة «ظاهرة أو خفية»، و تساءل « هذه التهمة الغريبة و الملفقة عبارة عن هلوسة، هل تتطلب سجن و نفي شخص إلى الأبد؟»، و علق بتأثر كبير «هذا لا إنساني تماما، مؤلم و رهيب، أنا فرنسي حقا، لكن الجانب الإنساني لدي هو الذي يدفعني إلى رؤية الأشياء بشكل مختلف، و أشاطر بنجامين سطورة رأيه بأننا نحتاج إلى الأمور التاريخية، رغم أنها تشعرنا بقشعريرة، لكي نضمد جراحنا، أو نفهم وضعية مجتمع و رأي جار «.
و أضاف بأنه من خلال فيلم «عمارة منانة» يمارس السياسة و الفن و يسلط الضوء على التاريخ في نفس الوقت»، مشيرا إلى أن هذا الوثائقي يتقاطع مع وثائقيين اثنين الأول حول مسار محكوم عليه سينيغالي و الثاني حول الفيتنامي ترانتونيان، و هذه الأعمال من إنتاج فرنسي لجمعية و شركة «فانتوم» للفنان أوليفييه ماسبوف، مشيرا إلى أنه سيشارك بهذه الأعمال في عدة مهرجانات ، كما سيقدمها، إلى جانب أعمال في الترجمة ، في إطار رسالة دكتوراه في تخصص حديث ، هو «العلوم و الفن و الإبداع و الأبحاث».
علاقتي بالجزائر نابعة من اهتمامي بتاريخ فرنسا
و عن سؤالنا حول طبيعة العلاقة التي تربطه بالجزائر ، رد المخرج البالغ من العمر 34عاما، بأنها نابعة من اهتمامه بالتاريخ الفرنسي، مشيرا إلى أنه زارها ثلاث مرات من قبل و صور بها فيلمين وثائقيين آخرين ، و صادف و أن حضر مداخلة تاريخية حول مجازر 8 ماي 1954 بسطيف و قالمة و خراطة، فكانت صادمة بالنسبة إليه، لأنه خلال تمدرسه في الطور الثانوي لم يتم التطرق إليها، بل تم التركيز في دروس التاريخ على الحرب العالمية الثانية و المصالحة الفرنسية و الألمانية دون ذكر الجزائر، التي يتزامن يوم الحداد بها، مع الاحتفال بفرنسا بذكرى المصالحة.
و أضاف بأنه لم يتعرض لصدمات عائلية خلال فترة «الحرب»، على حد تعبيره، في إشارة إلى الحرب التحريرية ضد المستعمر الفرنسي، رغم أن أخواله، كما قال، كانوا يقيمون بالجزائر في تلك الحقبة، و عندما كان يسألهم عن الجزائر ، كان يشعر بحرجهم و تهربهم من الرد، و قالت له خالته الكبرى ذات يوم «أتذكر الجزائريين هناك امرأة لا أتذكر اسمها .. كانت خادمة العائلة «، مما استفز رغبته في إبراز الحقائق و تعرية الواقع، مؤكدا «قد نغمض العيون و نصم الآذان، لكن ماذا عن الضمير؟ الحرب لم تكن متوازنة القوى بين الطرفين، و هذا جلي» .
إلهام طالب