الشاذلي بن جديد زار مخيمي والسفاح "الشنفرى" ساعدني في إصلاح سيارتي
استعاد عمي رشيد بركان ، في جلسة جمعته بجريدة النصر بمخيمه بجبل الوحش رئة قسنطينة ، ذكريات 35 سنة قضاها بين أحضان الطبيعة ، بدأت سنة 1975 حينما منحه رئيس البلدية آنذاك ، محمد الطاهر عرباوي ، رخصة أنشأ بموجبها " أوبارج " أو مخيما صغيرا ، يقدم فيه مشروبات غازية ، وبعض المأكولات الخفيفة ، ليطوره فيما بعد إلى قاعة أفراح ، وفضاء احتضن أول مهرجان للمالوف في قسنطينة ، وكذا أسبوعين اقتصاديين وطنيين ، فتحول الفضاء بداية الثمانينيات إلى قبلة لكبار إطارات الدولة ، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد ، وكذا العقيد الهاشمي هجرس قائد الناحية العسكرية الخامسة ، الذي كان دائم التردد على الغابة ، ومعظم إطارات الولاية ، وعلى رأسهم الولاة.
فجبل الوحش الذي شبهه مفدي زكريا بالجنان الذي يغري بجماله الأنام حينما قال:
وفي جبل الوحش تاهت بلادي شموخا فانحنى الزمان لهــــــا
فلو شاء ربك وصف الجنـــــــا ن ليغري الأنـــــام لهــا شبّها
أضاع بهــــا ذو الحجى رشـده ولو لـــــم يخـف ربه إلـهـــــا
فجماله وخضرته ووهواؤه أسباب جعلت محدثنا ، يربض في المكان 35 سنة لا يغادره و زرع ذات الحنين في نفوس أبنائه .. قصة عمي رشيد بركان مع جبل الوحش بدأت ، سنة 1975 أين بدأ بمبنى صغير ، يقدم فيه مشروبات ساخنة ، وأخرى باردة وبعض المأكولات الخفيفة ، بتسريح من السلطات المحلية في عهد رئيس البلدية محمد الطاهر عرباوي ، وحينها لم يكن الشغف بالجبل وجماله ، سائدا بين سكان قسنطينة ، وكان عدد زواره قليل ويقتصر على عشاق صيد السمك، وطالبي الهدوء جلوسا وتأملا أمام أحواض الماء الأربعة من الرجال دون العائلات ،لتدب الحركة فيه عند شروع المدارس في تنظيم الخرجات المدرسية بين أحضان الطبيعة ربيعا ، فسرت العادة بين سكان المدينة والأحياء القريبة على غرار قاطني حي الأمير عبد القادر المعروف بـ"الفوبور" ، وانتعشت الحركة السياحية به ، ووصلت أوجها حين احتضن المهرجان الأول للمالوف ، ولم تكف الـ500 كرسي التي تم وضعها يوم الافتتاح ، فدعّمت بـ200 مقعد.
الجنرال هجرس حضر مهرجان المالوف مرفوقا بعائلته
ليالي المهرجان التي جرت في اجواء رمضانية صيفية ، صدح فيها الفرقاني وابنه سليم وكذا شاعو عبد القادر ، وكوكبة أخرى من أهل الفن أحيوا السهرات التي كانت تبدأ مباشرة بعد صلاة التراويح في بداية الثمانينيات ، ولم يكن يومئذ المكان مربوط بشبكة الكهرباء ، وسخرت لذلك مولدات كهربائية ، و قد حرص على حضور المهرجان حينها إضافة إلى الوالي قائد الناحية الخامسة العقيد الهاشمي هجرس ، الذي يقول صاحب المكان انه كان يأتي مع عائلته بعد صلاة التراويح ، وفي نفس العام احتضن أول مهرجان للتسوق في الهواء الطلق ، لمدة أسبوعين عرضت فيه الشركات الوطنية أفخر منتوجها ، ونجح نجاحا كبيرا ، وجاء العارضون من كل ربوع البلاد ، ولم يتكرر ذلك ثانية.
وبعد أن سرت شهرة جبل الوحش الذي كان يسمي غابة مستوى بين العامة ، تزاحمت العائلات على الفضاء ، و سخّر لها عمي رشيد شبابا وفروا الأمن للزوار ، ومنعواغسل السيارات ورمي النفايات، حفاظا على البيئة ونظافة الأحواض المائية الاربعة.
عمي رشيد يتذكر جيدا زيارة رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد ، للغابة حين نزل من سيارة المرسيدس السوداء ، منتصف يوم حار من أيام رمضان صيفا ، يرافقه سائقه وقصده ومن كان معه وهم يستمتعون بنسائم الغابة ، مشيرا أنه جاء خصيصا للوقوف على أشغال حضيرة جبل الوحش التي كثر الحديث عنها ذلك الوقت ، "فأخبرناه أن المشروع مازال في مرحلة تسطيح الأرضية ، ويتواجد في مدخل الغابة ، لأنه سألنا عن مكانها" ، يقول محدثنا ، الذي أضاف أنه دار معه حديث لمدة حوالي 20 دقيقة ، و شجعه على توسيع استثماره وتطويره ، و كان ذلك يوم 26 رمضان من سنة 1982.
يقول محدثنا "الرئيس بدوره فاجأنا بحضوره إلى مسجد حسن الباي ، أين أدى صلاة العشاء وحضر إحياء فعليات ليلة القدر ، وكان مرفوقا بشخص ثان والأستاذ عبد القادر شياد عليه رحمة الله ، مدير الشؤون الدينية حينها ، الذي اغتالته يد الإرهاب أمام بيته عشاء" ،وفي ذلك الوقت إنتشرت أخبار مفادها أن تجهيزات حديقة التسلية خردة إيطالية.
العشرية السوداء حولت الغابة إلى "وحش "
وأضاف أن الرئيس ، وفّي بوعده وظهر ذلك من خلال اتصال السلطات المحلية به في عهد الوالي عبد الرحيم ، ورئيس البلدية في تلك الفترة من أجل دعمه ، ولم يتحقق ذلك جراء وقائع عصفت بالمير نفسه ، فلجأ عمي رشيد بعد ذلك بسنوات إلى البنك وحصل على قرض ، طور به محله إلى قاعة أفراح ، ومطعم ومقهى في شكل منتجع ، ليتوقف نشاطه بحلول سنوات الارهاب والدم ، التي لم تثنه عن مزاولة عمله ، ولم يغادر المكان على الرغم من ركود تجارته ، فتحول المرفق إلى أطلال ولم يتمكن من سداد قرضه ،ومع تحسّن الوضع الأمني راوده أمل الوفاء بالدين ، بعد أن دبت الحياة من جديد في المكان ، مع مقتل السافح الذي عرف بإسم الشنفرى ، بعد ذلك بسنوات ، أدت الانهيارات الأرضية في مشروع الطريق السيار الذي يمر نفقاه الأرضيين أسفل منتجعه إلى تصدعات في الجدران ، وتساقط سقف قاعة الأفراح المصنوع من الجبس ، إضافة إلى حصول تشققات أرضية ضخمة في محيط المبنى ، وهي آخذة في الانحصار بفعل عملية تقنية تمتص الضغط الذي نجم عن انهيار نفقي الطريق السيار ، يقوم بها خبراء مديرية الأشغال العمومية ، وهذا ما وقفنا عليه ميدانيا، إضافة إلى ثقب في فناء المطعم.عمي رشيد يطالب السلطات المحلية ، بإعادة تشغيل شبكة الانارة العمومية ، التي يعود تاريخ تلفها إلى سنة 1999 ، وكذا ترميم الطريق الذي تم شقه من أجل تمرير شبكة أسلاك أرضية ، ودعمه بعمال في إطار مختلف شبكات التشغيل ، للمحافظة على نظافة الغابة والأحواض المائية ، وكذا حراسة العائلات وزوار المنطقة ، كنوع من الأمن ، مع امكانية تنظيم ركن السيارات بمقابل مادي تحدده الدولة.
الحديث تشعب مع عمي رشيد وأخذنا بعيدا ، جراء ما مر به طوال تجربة 35 سنة ، لم يغلق فيها محله يوما ، و واضب على دوامه في سنوات الأمن وسنوات الفتنة ، التي يتأسف كثيرا ، لأحداثها الدامية الأحواض المائية مهددة بالتلوث
وفي جولة عبر الأحواض المائية الخمسة ، والتي يسميها الكثير بحيرات وقفنا على التلوث الكبير الذي حل بها ، جراء الرمي العشوائي لعبوات البلاستيك ، وما يخلفه
الزوار من نفايات صلبة ، شوهت الغابة ومحيط البحيرات وشواطئها ، فجفاف الحوض الأول حوله إلى ساحة لعب لكرة القدم ، فيما انحسر الماء في الثاني ،ونجت البحيرة الثالثة من غور مائها بفعل وقوعها فوق النفق الأرضي مباشرة ، بفضل جهود قام بها خبراء ، فيما حافظت الرابعة على نظافته ، و نفس الوضع وجدنا عليه الحوض الخامس الذي تم انجازه بعد الاستقلال وهو عبارة عن حاجز مائي ، على الرغم من تناثر مختلف النفايات التي يتركها السواح على محيطه الأخضر، الذي لا يجدون حرجا في رمي مخلفاتهم الصلبة فيه ، تاركين كميات كبيرة منها في العراء، تطوع أبناء الكشافة الاسلامية مؤخرا بجمعها وتكديسها في أكياس لم تجد من يرفعها ، فجمعها بعض الشباب ، وتخلصوا منها حرقا بعيدا عن الوسط الأخضر.
وتحولت الكثير من الاستثمارات الصغيرة على طول الطريق المؤدي إلى قلب الغابة إلى إطلال، وهو نفس وضع حديقة الحيوانات التي كانت يوما مقصد الزوار ، بعد أن تم نهب أجزاء كبيرة من سياجها الحديدي الذي كان يحفها ، وهو نفس مصير حديقة التسلية ، على الرغم من جهود كثيرة حاولت بعث الحياة فيها من جديد. زيارتنا إلى جبل الوحش رافقنا فيها الأستاذ مراد بلطرش ، ابن الفوبور والعارف بطرق الغابة ومسالكها ، لتعلقه بها وقضاء كل أوقات فراغه بين أحضانها ، بحثا عن الهدوء وراحة البال ، ويعتبرها فضاءه المفضل للمطالعة ، بعد أن تقاعد منذ سنوات ، مرافقنا تأسف للإهمال الذي طال المكان ، و الذي غزته النفايات جراء انعدام روح المواطنة لدى زوار الغابة ، ممن يتركون مخلفاتهم الصلبة في العراء ، على الرغم من وجود أماكن مخصصة لذلك ، وفي ظل انعدام قائمين على التنظيف تتراكم مختلف النفايات ، مشوهة رئة قسنطينة الأولى بامتياز ، التي تظم 45 نوعا من الأشجار من 17 عائلة.
وفي اتصال بمصالح الغابات علمنا من خلية الإعلام ، أن كل المشاريع تم تجميدها إلى غاية الخماسي القادم ، ابتداء من 2019 ، تأثرا بتراجع مداخيل الدولة ، وفيما يخص مديرية السياحة علمنا من مصدر موثوق ، أنه لا يوجد مشاريع موجهة إلى غابة جبل الوحش.
للإشارة فإن أربعة أحواض بجبل الوحش أنشئت في الفترة الاستعمارية لتطوير زراعة السمك ، وتطوير أصناف حوت المياه العذبة ، أما الحوض الخامس فتم انجازه بعد الاستقلال بتقنية الحاجز المائي.
وقال عمي رشيد أن المجرم الذي زرع الرعب في جبل الوحش في التسعينات بارتكاب جرائم سرقة وقتل الشنفرى الذي كان مطلوبا من قبل مصالح الأمن ، كان من زبائنه الدائمين في مطعمه ، ولم يكن يعرفه بالصورة ، ومن غرائب الصدف أنه ساعده في إحدى الليالي ، على تغيير عجلة سيارته التي أصابها عطب ، بينما كان عائدا إلى بيته ليلا ، بعد أن خرج إليه من وسط الغابة ، "أدركت حقيقة شخصيته لما رأيت صورته بعد القضاء عليه من طرف مصالح الأمن ، وحينها قلت لهم أنه كان من زبائني" بهذه الجملة ختم عمي رشيد حديثه معنا وقصته مع غابة جبل الوحش التي روى لنا فصولا قليلة منها ولا يزال يتحسر على ما آلت إليه من اليوم.
ص. رضوان