ابن باديس تعاطف مع اليسار و تعاون مع شيوعيات قسنطينة
• بن باديس حاول استدراج كامي لتبني مواقف كتاب اليسار من القضية الجزائر
كشفت وثائق للمخابرات الفرنسية عن وجه مختلف وغير مألوف للعلامة عبد الحميد بن باديس، من خلال ما تضمنته من رسائل موجهة لرائد الحركة الإصلاحية من كتاب فرنسيين يساريين اتفق معهم في مواقفهم المناهضة للاستعمار وتعاطف معها، و كذا مشاركته في إحياء ورشة مع جمعية للنساء الشيوعيات بقسنطينة لفائدة فتيات مسلمات، الوثائق تضمنها كتاب جديد للباحث الدكتور عبد العزيز فيلالي، الذي كشف أيضا عن محاورات وجدل بين ابن باديس والكاتب ألبير كامو، بالإضافة إلى مطالعته لجريدة “البرافدا” الصادرة عن الاتحاد السوفياتي.
ابن باديس نظم ورشة مشتركة مع النساء الشيوعيات
ويضم الكتاب، الذي أشرفت على إصداره مؤسسة عبد الحميد بن باديس، التي يرأسها مؤلفه، والحامل لعنوان “الشيخ عبد الحميد بن باديس : وعيه بالاستعمار وبالثقافات الغربية من خلال أرشيف الاستخبارات الفرنسية”، حيث يحتوي على مجموعة من الوثائق المحررة من طرف أجهزة المخابرات الفرنسية الاستعمارية، التي كانت تتابع تحركات الشيخ بشكل دوري، وترسل نسخا عن جميع المراسلات التي ترد إليه من طرف الجمعيات العالمية الإسلامية أو اليسارية، فضلا عن العلاقات التي كان يؤسسها بقسنطينة، على غرار دعوته “جمعية النساء الشيوعيات ضد الحرب والفاشية” لتنظيم ورشة عمل مشتركة لفائدة النساء المسلمات نهاية سنة 1937، أين ورد في تقرير شهري عن نشاط الحزب الشيوعي بالمدينة، صادر من رئيس عمالة قسنطينة إلى رئيس أمن المقاطعة وموقعة بتاريخ 26 نوفمبر من نفس السنة ما يلي :
“في 26 أكتوبر، عقدت لجنة النساء ضد الحرب والفاشية –مجموعة ذات توجه متطرف- بقسنطينة، اجتماعا تقرر خلاله دمج ورشة أنشأتها هذه الجمعية، لصالح الفتيات المسلمات، تنشط في مكان يقع تحت إشراف السيد ابن باديس عبد الحميد، ولهذا وجب علي أن أبلغكم بمشروع الدمج المذكور أعلاه.”
ويقول مؤلف الكتاب في أحد الفصول “كان يفضل ذوي المشارب اليسارية، ليس حبا في الفكر اليساري عموما، وإنما لتحديهم للاستعمار والمستعمرين، وتحررهم من النزعة اليمينية المتعصبة .. وتمثلت هذه الحركة الجديدة في ثورة الأدباء اليساريين على النظم الاستبدادية وانتصاراتهم للديمقراطية وحقوق الإنسان وللمبادىء الحرة.” ليضيف بأن الإمام ذكر في مقالاته أهم الفاعلين في الحركة الفرنسية السياسية المناهضة للاستعمار في النصف الأول من القرن العشرين، ويشير إليهم بأسمائهم في جريدة الشهاب، ومنهم الكاتب “رومان رولان” و”أندريه جيد” “وأندريه مالرو” و”لويس أراغون” و”بول لانجفان”، كما كان لهؤلاء حسب الكاتب، علاقة بالشيخ الذي انتمى إلى “الجمعية العالمية للكتاب من أجل الدفاع عن الثقافة” ومقرها باريس.
مراسلات الإمام مع الكتاب الفرنسيين اليساريين
وكان أعضاء هذه الجمعية العالمية، يراسلون الإمام ابن باديس، ويخاطبونه باسم “الصديق العزيز”، فمثلا تلقى الشيخ في 9 نوفمبر 1938 رسالة من الجمعية ورد فيها “صديقي العزيز، يسرنا أن نوافيكم بالرسالة الخامسة من فرنسا، والممضاة من طرف السيد “لوك ديرتان”، لكي نعتذر لكم عن تأخر إرسالنا لكم هذه الرسالة، بسبب الأحداث التي وقعت في شهر سبتمبر .. لكننا سنوافيكم بالرسالة السادسة التي سيحررها السيد “جان كاسو” – روائي اسباني عاش بفرنسا وكان يترجم من الاسبانية إلى الفرنسية وقاوم الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية-، وسيكون من دواعي بهجتنا أن تزودنا بأخبار عما يجري في بلادكم”، وقد حملت الرسالة توقيع كل من ل. أراغون، وجان رشار بلوك وأندريه مالرو وآخرين.
كما تلقى الإمام في سنة 1939، رسالة من نفس الجمعية، حملت توضيحا للأحداث الدامية التي تشهدها اسبانيا بسبب الحرب الأهلية، حيث طلبت منه فيها التبرع بالمال بصفته عضوا معهم، من أجل إخراج المثقفين الذين كانوا ضمن الجموع الغفيرة من اللاجئين الإسبان، القابعين المحتشدات التي أقيمت لهم بجبال البيريني ومنع المثقفون والصحفيون من دخولها، على الحدود مع فرنسا حيث ورد نصها في تقرير للشرطة الخاصة لمقاطعة قسنطينة مؤرخة في شهر فيفري من تلك السنة وجاء فيها :
“أيها الصديق العزيز، أنت بكل تأكيد ملم بالتدفق الكبير للاجئين الإسبان على المحتشدات بحدود جبال البيريني، والذين يوجد بينهم العديد من المثقفين، وعليه فإن واجبنا الأول يتمثل في إخراجهم منها وتلبية أهم حاجاتهم الضرورية في أقرب الآجال...
ومن الطبيعي أن كل هذا يحتاج إلى الكثير من المال .. ولهذا توجهنا إلى جميع أصدقائنا بمختلف البلدان من أجل دعوتهم إلى تركيز جميع جهودهم على إيجاد مخرج لهذا الوضع المأساوي، حتى من خلال جمع المال إذا تطلب الأمر ..”
كما كانت ترده أيضا “تقارير سياسية ونداءات مكتوبة من بعض الأحزاب والشخصيات الداعية لحقوق الإنسان والمساجين، والدفاع عنهم لكونهم مسجونين بسبب مطالبتهم بالحريات والديمقراطية للشعوب المقهورة”، حيث هدفت هذه المناشير بصفة خاصة إلى تحرير زعيم الحركة الوطنية “مصالي الحاج” والموقوفين معه، وأعضاء من الحزب الدستوري المعتقلين في تونس، كما حمل أحد هذه المناشير إمضاء “لجنة الدفاع عن المساجين السياسيين” في تقرير للشرطة الخاصة لأمن مقاطعة قسنطينة، تحت عنوان “ابن باديس تسلم من الجزائر العاصمة هذا المنشور باللغة الفرنسية “ وقد جاءت فيه دعوة للالتفاف حول قضية المناضلين السياسيين القابعين بالسجون، حيث يضيف أحد التقارير بأن ابن باديس كان متعاطفا مع جميع القضايا المناهضة للاستعمار والمؤيدة للتحرر سواء في الجزائر أو أوروبا أو مختلف بقاع العالم.
تحاور مع ألبير كامو واهتم بقضية فلسطين
وتوجد نسخ عن جميع هذه المراسلات تقريبا بأرشيف جهاز المخابرات الفرنسي الاستعماري، حيث ذكر لنا مؤلف الكتاب بأن بعض هذه الوثائق ينشر لأول مرة، ليضيف في كتابه بأن ابن باديس احتك بأقطاب الثقافة الفرنسية من أصحاب الفكر والأدب وعلم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس والتربية الذين عاصروه وعاشوا معه في الجزائر، كما أنه حاور بعضا منهم وجمعته بهم جلسات علمية وفكرية، على غرار الكاتب “ألبير كامو”، الذي “جادله في قضايا ثقافية وأدبية وعقيدية وسياسية وإنسانية”، ليضيف الكاتب أن “الشيخ أراد أن يجره بحواراته إلى موقف اليساريين الفرنسيين تجاه القضية الجزائرية”.
وكانت للشيخ أيضا مراسلات مع المكتب الوطني للجماعة العربية ومقرها نيويورك آنذاك، حيث تضمنت إحدى هذه الرسائل تحليلا لمضمون كتاب حول تاريخ فلسطين قبل الإسلام، كما تلقى يوم 5 أكتوبر 1938 كتاب “بروتوكول حكماء صهيون” لمؤلفه ألبير كونفينو، الذي جاء ردا على مضمون كتاب “موريس جولي” الحامل لعنوان، بروتوكولات حكماء صهيون، فضلا عن استقباله في 15 نوفمبر 1938 مجلة من بروكسل ومجلة أخرى حول الصراع من أجل الحرية.
وصلته مجلات من أربع قارات مختلفة
وسطرت المخابرات الفرنسية قائمة بأهم الصحف والمجلات التي كانت تصل إلى الشيخ ابن باديس، من تسع دول مختلفة، حيث وردت فيها اثنتان ممنوعتان، وهما مجلة المصور والفتح، وكانتا تطبعان في القاهرة، في حين وردت إليه مجلات أخرى، من 4 قارات مختلفة، على غرار الأسير التي كانت تصدر من ساو باولو، والسعادة من المملكة المغربية والسمير من نيويورك، ومجلة ‘فرساتوغان إسلام” الصادرة من هولندا، وأخرى من الهند، كما يفوق عدد المجلات الثلاثين، في حين يشير أحد التقارير إلى أن ابن باديس لم يكن يعلم بوصول المجلتين الممنوعتين إليه بسبب حجزهما من طرف مصالح البريد. وتصف الشرطة السرية ابن باديس في واحد من تقاريرها بأنه يقوم بالدعاية ومعلم بالمدرسة، فيما تصنفه على أنه متمكن جدا من اللغة العربية والعلوم الإسلامية، لتأتي تقارير أخرى بسيرته الذاتية بشكل مفصل وتتحدث عن مسيرته منذ طفولته إلى غاية وفاته، حيث ذكر في أحدها “كان يترك سمعة الرجل شديد الذكاء أينما يحل .. وإليه يعود الفضل في تأسيس جيل من المتعلمين”.وتساهم هذه الحقائق التي جاء بها الكتاب، في إعطاء نظرة جديدة عن الشيخ، ومدى تفتحه على مختلف التوجهات والتيارات الفكرية والسياسية لمعاصريه، بعيدا عن الصورة النمطية التي ألصقتها به الأصوات الداعية للجمود والتزمت والروايات التمجيدية، حيث يبدو أنه كان مطلعا على كل ما يدور حوله سواء بالجزائر أو خارجها، ولم يكن منغلقا حسب ما يروج له بعض الغافلون عن تفاصيل سيرته والبنى الحقيقية التي تأسس عليها مشروعه الاجتماعي النهضوي، كما أنه لم يمانع في العمل مع جمعيات يسارية أو ذات مشارب شيوعية في سبيل قضيته، فضلا عن أن تقارير الشرطة السرية الفرنسية ذكرت بأن صيت ابن باديس قد تجاوز شمال إفريقيا، ووصل إلى غاية الشرق الأوسط وأقطار أخرى، وقد اعتبرته الأب الروحي لانتفاضة 8 ماي 1945 وثورة نوفمبر 1954.
وبالرغم من محاولات الشرطة الفرنسية السرية بالتعتيم عليه، من خلال اتهامه بالانتماء للمذهب الوهابي وبأنه متطرف، سيظل الشيخ ابن باديس نموذجا للإسلام الإنساني والمتنور، البعيد عن المغالاة والتطرف، حيث يثبت تعامله مع الشيوعيين وتعاونه مع اليساريين في قضايا شعبه، وقضايا الأمم الأخرى عن ثروة ثقافية كبيرة سمحت له بالانفتاح على غيره، على عكس ما يشهده العالم اليوم، من تمدد لمظاهر الانغلاق والتعصب الديني وسيطرة للطائفية وطغيان الاختلافات على حساب ما يدعو إلى التقارب بين المسلمين، حيث تصل خطورة الأمر اليوم، إلى حد الجنوح نحو العنف وارتكاب الأعمال الإرهابية ضد الذات والآخر.
سامي حباطي