أسماء ذبح والدها والدتها أمام عينيها، و سميرة قلدت أختها فسقطت في قبضة الذئاب ، يسرا باعها والدها وهي في ربيعها 12 لكهل غني ، ندى ضحية عنف والدها، منار أنجبت في سن 15 عاما و ابتلعها غول الشارع ، شيراز ضحية اغتصاب ،و نسرين لم تتحمل اتهامات و شكوك والدها ...عينة بين 21 فتاة قاصرة تتراوح أعمارهن بين 14 و 18عاما، تم وضعهن بمركز إعادة التربية بقسنطينة، بناء على أوامر صادرة عن قضاة الأحداث ،و يتكفل بهن حاليا فريق متعدد الاختصاصات بالمركز ،من مختلف الجوانب النفسية و التربوية و الاجتماعية، و يتيح لهن فرص متابعة الدراسة و تعلم مختلف الحرف و ممارسة العديد من النشاطات الترفيهية ،و الأهم أنه يوفر لهن الحماية من ظروف قاهرة و من شتى المخاطر المادية و المعنوية التي تتربص بهن في الشارع أو في عقر ديارهن.
بعضهن ضحايا وضعيات اجتماعية صعبة كالتفكك الأسري و عنف أو إهمال الأولياء ،و البعض الآخر ضحايا رفاق السوء و المحيط غير الملائم، و نزعات التمرد و الجنوح في المراهقة ، ترتفع صرخاتهن في كل لحظة، لتخترق جدران الصمت و الكبت و التهميش ، لكن الكثير من الأولياء يستسلمون للعادات و التقاليد التي تدين الفتاة التي تغادر بيت أسرتها ، سواء كانت ضحية مظلومة، أو مغرر بها، و يعتبرونها وصمة عار يتبرأون منها و يصمون آذانهم و قلوبهم عن أنينها و صراخها ،و يرفضون نجدتها و منحها فرصة أخرى للاندماج مجددا في كنف أسرتها و مجتمعها.
التقت النصر بعينة من هذه الشريحة الاجتماعية المعذبة بهذا المركز ، ففتحن قلوبهن للقراء و صفحات دامية من مآسيهن و كلهن حسرة و حنين لبراءة سرقت منهن و أولياء نبذوهن، لعلهن يوقظن الضمائر النائمة.
أسماء زهرة يانعة في ربيعها 18، ملامحها هادئة و جميلة تبدو أصغر بكثير من سنها قالت لنا:” أبي كان متزوجا من امرأة أخرى أنجب منها أربعة أبناء، قبل أن يتزوج من أمي و ينجباني. أتذكر، رغم أنني كنت صغيرة جدا، بأن أمي و أبي كانا يصرخان و يتشاجران باستمرار، و في أحد الأيام اشتد النزاع بينهما، فحملتني أمي و ذهبنا إلى منزل خالتي.و يبدو أن والدي كان يراقب تحركات أمي عن بعد ، فبمجرد ذهابها إلى الحمام حضر و أخذني من بيت خالتي.
و بعد عودتها و علمها بما حدث، لم تستطع تحمل فراقي و هرعت باتجاه بيت الزوجية، فطرقت الباب. أتذكر رغم أنني كنت في الثالثة من عمري أن أبي ذهب إلى غرفة النوم ثم هرع ليفتح الباب و الشرر يتطاير من عينيه، رأيته يرش وجه أمي بسائل، قبل أن يسقطها أرضا، و ينحرها كالخروف أمام عيني. لم أره منذ ذلك اليوم، فهو في السجن
لكن تلك الصور لا تزال حية في ذاكرتي،تعذبني في يقظتي و منامي،و لازلت أعيش تحت الصدمة.أخذني خالي إلى بيته و تكفل برعايتي لأنه ليس لديه أبناء،كان يشفق علي و يحسن معاملتي لكنه تغير عندما بلغت 16عاما، و أصبح يسيء معاملتي، فتوجهت إلى بيت خالتي التي كنت أحبها كثيرا لأنها الأخت التوأم لأمي، وجدت كل الترحيب من أبنائها، لكنها اعتبرتني مجرد خادمة ،كانت تشتمني و تهينني و تناديني: ابنة المجرم. لم أستطع أن أتحمل طويلا ذلك الوضع، فطلبت منها نقلي إلى مركز لرعاية الأحداث.و تم نقلي في العام الماضي إلى مركز بمدينة مجاورة و مكثت هناك خمسة أشهر و كان خالي و خالتي يزوراني و يحضران لي الهدايا. و في شهر ديسمبر الفارط، تم تحويلي إلى مركز قسنطينة ،لكنني لم أتعود عليه. أشغل وقتي بتعلم الإعلام الآلي و الخياطة، و أريد أن أعود إلى منزل خالي و أصبح خياطة لكسب رزقي”.
تحدثت سميرة ابنة 15عاما، بجرأة صادمة عن الأسباب و الظروف التي قادتها إلى عالم الانحراف ثم التنقل بين مركزين لإعادة التربية خلال شهور.كانت تحمل وشما في ذراعها يرمز لحرف لاتيني ،و ترفض التنازل عن ابتسامة متمردة. قالت بأن والدها توفي منذ سنوات، و تكفلت والدتها العاملة المتواضعة بإعالة و رعاية أخواتها و أخيها الصغير الذي يبلغ حاليا 11عاما، بمدينتهم المحافظة .
و عندما توقفت عن الدراسة و تزوجت كافة شقيقاتها،لم تطق البقاء في البيت في غيابهن.و كانت تطلب من أمها السماح لها بزيارة إخوتها من أبيها الذين يعيشون مع والدتهم في ولاية بعيدة، لم تكن توافق لكنها تذعها في نهاية المطاف ، بسبب إلحاحها المستمر.أوضحت بهذا الشأن:”زوجة أبي أو بالأحرى أرملته، لم تكن سمعتها جيدة و كانت تلقي بابنتها البالغة من العمر 23عاما، في الشارع و تطلب منها أمورا غير أخلاقية ،مقابل النقود.عندما زرت هذه الأسرة ،تأثرت بنمط حياتها المختلف عن بيئتنا المحافظة.بدأت بتقليد أختي الكبرى في التدخين، ثم تعرفت على إحدى صديقاتها و هي أصغر منها سنا ،و توطدت علاقتنا بسرعة،أصبحنا نتبادل الزيارات و نخرج و نسهر معا و ندخن و نشرب الخمر مع أصدقائها .و في يوم مشؤوم ،ذهبنا إلى بيت صديق لنسهر، و وجدنا معه شابين آخرين . فجأة اقتحم رجال الشرطة البيت و ألقوا القبض علينا و نقلوني إلى مركز آخر قبل أن ينقلوني إلى هنا .طلبت مني أمي العودة إلى منزلنا، لكنني مصممة على عدم العودة خاصة و أنني استمتع بتعلم الطرز هنا و لدي صديقات”.
أخبرتنا بأن عمرها 17 عاما، لكن ملامحها السمراء البريئة و قوامها النحيف، يجعلانها تبدو كطفلة في ربيعها 13. لم تتوقف عن الترنح من شدة الألم و تحريك يديها بعصبية، طيلة لقائنا، إنها الإنسانية المتعبة المعذبة و شظايا طفولة حطمها أقرب الناس إليها:والدها.عادت بذاكرتها إلى الوراء و قالت لنا بصوت خافت ذبحه الحزن و الانكسار :”فلنفترض أن اسمي يسرا، غادرت مقاعد الدراسة مبكرا،و لا أحد من أفراد عائلتي وبخني أو حفزني لأعود مرة أخرى للمدرسة.عندما بلغت سن 11 عاما، برزت الخلافات بيني و بين إخوتي الذكور الخمسة خاصة ،و أنني لم أكن أطيق المكوث طوال الليل و النهار في البيت. كنت أشعر بالاختناق فأغادر منزلنا أحيانا على السادسة صباحا، و أقضي طوال النهار في التجول بين الطرقات و الشوارع دون وجهة أو هدف إلى غاية حلول الظلام.و عندما يعثر علي رجال الشرطة ينقلونني إلى البيت و بالرغم من ضرب و زجر إخوتي و أبي و أمي، كنت أكرر ذلك عدة مرات.
في أحد الأيام، فوجئت بأبي يسألني :”ما رأيك في أن أزوجك؟”. وافقت فورا دون أن أسأله عن شيء. أصلا لم أكن أفهم معنى الزواج و أبعاده لأنني طفلة صغيرة و إلى الآن لم أفهم لماذا فعل ذلك بسرعة، بدل أن يفهمني و يساعدني على اجتياز تلك المرحلة الحرجة في حياتي. بعد أيام معدودة زوجني أبي بالفاتحة من رجل عمره 58 عاما، مطلق و لديه العديد من الأبناء الكبار و الأحفاد.لم يهتم لكل ذلك لأن هذا الرجل مليونير، و بأمواله يستطيع أن يحصل على ما يريد. اشترى لي الكثير من الملابس و الحلي الذهبية و احتجزني في بيته الفخم طيلة سنتين. كان يغلق علي كل الأبواب و النوافذ و يمنعني من الخروج مهما كانت الأسباب .بعد عدة محاولات فاشلة للفرار ، نجحت في الخروج من جحيمه و توجهت مباشرة إلى أقرب مركز للشرطة و سردت عليهم مأساتي ، فنقلوني إلى مركز لرعاية الأحداث مكثت به سبعة أشهر و تم تحويلي بعد ذلك إلى هنا.تصوروا لا يزال هذا الرجل يتصل بأبي و إخوتي باستمرار ليطلب منهم مساعدته على استرجاعي و إعادتي إلى سجنه ، لكنني لا أريد العودة إليه أو إلى منزل أسرتي. أفضل قضاء حياتي بين كل المراكز عبر الوطن عن العودة إلى جحيمهم.”
الفتاة الجالسة أمامي هذه المرة، حسناء شقراء ممشوقة القوام، كأنها خرجت للتو من مسلسل تركي، كانت تصارع الحزن المتجذر في أعماقها ، بالعديد من البسمات التي سرعان ما تذبل على شفتيها، و هي تسرد فصولا من قصتها بلكنة تصهر العديد من اللهجات. استهلت حديثها بالإشارة إلى أنها حاصلة على دبلومين: الأول في تحضير الحلويات و الثاني في السكريتاريا و بأنها تتعلم حاليا بالمركز فن الطرز ، و تتدرب بالموازاة مع ذلك على تحضير الحلويات في الورشة المخصصة لذلك بالمركز.اختارت اسما مستعارا هو منار، و قالت بأنها في 18 من العمر، و قد قضت سنوات عديدة من طفولتها و مراهقتها، تنعم برعاية و حنان جدها وجدتها لأمها، بعد طلاق والديها.و تزوج والدها و أنجب ابنين من امرأة أخرى، بينما انتقلت والدتها للإقامة في ولاية أخرى.
أضافت محدثتنا :”كنت سعيدة مع جدي و جدتي اللذين كانا يوفرا لي كافة احتياجاتي و يغمراني بالحب و الاهتمام و يشجعاني على متابعة دراستي، لكنني عندما وصلت إلى القسم الثاني الثانوي، قررت عدم إتمام مساري التعليمي رغم إلحاح جدي .عندما بقيت في البيت، لم أتحمل الفراغ، و كنت أستأذن جدي لكي يسمح لي بزيارة أمي من حين لآخر. لم يكن يمانع، و أعتقد أن خطأه الأكبر أنه كان يسمح لي بالسفر بمفردي.علما بأن أمي كانت تقيم بولاية بالوسط الجزائري مع أخوين غير الشقيقين، و لم تكن تطيقني. تعرفت في تلك الفترة بشاب في الثلاثين من عمره،و أحببته. في إحدى زياراتي لأمي نشبت خلافات بيننا، و بدل أن أعود إلى منزل جدي، توجهت إلى بيت ذلك الشاب و تزوجني بالفاتحة بحضور الإمام و أنجبت منه طفلة و عمري 15عاما.عندئذ طلبت منه إبرام العقد المدني الرسمي و تسجيل ابنتنا،لكنه رفض.وعندما بلغت الصغيرة سنة من عمرها، قال لي بأنه سيأخذها معه إلى فرنسا ليسجلها هناك في سجلات الحالة المدنية، فهو يحمل الجنسية الفرنسية.و قد تعود على السفر إلى هناك، لجلب البضاعة لأنه يملك شركة لمستحضرات التجميل. سافر و أخذها من بين أحضاني و كأنه سلبني روحي، انتظرتهما لأيام طويلة قضيتها في البكاء، لم أتحمل البقاء في مكان لا توجد به سيلين.غادرت البيت نحو الشارع لعلني أنسى فسقطت في بؤر الانحراف.عندما سمعت بأن زوجي عاد هرعت إلى بيته، فلم أجد ابنتي و صارحني بالحقيقة المرة. إنه متزوج بفرنسا و لديه ابنة في التاسعة من عمرها، و كلف زوجته بتبني ابنتنا، توسلت إليه ليعيدها إلي لكن دون جدوى وطلقني. توجهت إلى محافظة الشرطة، بكيت كثيرا من شدة الندم و سردت عليهم حكايتي، تم نقلي بأمر من قاضي الأحداث إلى هذا المركز منذ شهرين تقريبا.اتصلت بوالد ابنتي، فوعدني بأن يرجعها إلي بعد خروجي من هنا .طلبت من أمي أن تأخذني إلى بيتها و تغمرني بحنانها الذي لم أتذوقه من قبل ،فوعدتني بذلك.إذا لم تحضر أين سأذهب؟ مهمة هذا المركز و أمثاله تنتهي عندما تبلغ النزيلات 19عاما.أود أن أتوجه بنداء إلى كافة الآباء و الأمهات:”لا تتخلوا عن بناتكم مهما حدث ، و لا تتركوهن يخرجن إلى الشارع دون أن ترافقوهن. و أناشد المسؤولين و الجهات الرسمية بأن تشدد العقوبة على الشبان الذين يقومون بتحويل فتيات قاصرات، و يجروهن إلى ممارسة الرذيلة”.
التقينا بزهرة ندية أخرى اسمها ندى في ربيعها 17 ،إنها فنانة حساسة تفجر أحزانها و شعورها بالقلق و التوتر و الخوف في عالم الخيال و الأشكال و الألوان الزاهية ، فهي رسامة موهوبة بالفطرة تزين جدران المركز برسومات معظمها مستوحاة من الطبيعة بأشجارها و زهورها و بحارها و أنهارها و حيواناتها . كما تجسد في بعض رسوماتها شخصيات كارتونية شهيرة .
قالت لنا بأنها هربت من بيت أسرتها بسبب سوء معاملة والدها و ضربه لها و لأمها باستمرار.و ربطت ذلك بالسحر و الشعوذة اللذين لهما جذور قديمة، حسبها، مرتبطة بعمتها. و أضافت بأن والدها بطال يتعاطى الخمر و المخدرات و تزوج 12 مرة، و لديها أربعة إخوة كانوا يعيلون العائلة.و استطردت قائلة بأنها كانت تدرس و نتائجها متوسطة، لكنها عندما بلغت مستوى الأولى ثانوي، أرغمها والدها على التوقف عن الدراسة، و تضاعف عنفه و قسوته عليها .
طأطأت رأسها هنيهة و بدت كأن أشباح الماضي تلاحقها و تخنق أنفاسها، و لم تلبث أن قالت بصعوبة:”كان عمري 15عاما لم أتحمل تعنت و استبداد أبي لمدة أطول،هربت من بيتنا و توجهت إلى محافظة الشرطة .خيرني قاضي الأحداث بعد ذلك بين العودة إلى المنزل أو الإقامة في مركز، فاخترت المركز و تم نقلي في البداية إلى مركز بوسط البلاد ،و تم تحويلي في العام الفارط إلى هنا . أتعلم الآن الخياطة و الطرز و الإعلام الآلي .أمنيتي أن أدرس في مدرسة الفنون الجميلة لأصقل موهبتي في الرسم، و أعمل و أعتمد على نفسي في بناء حياة جديدة.أود أن ألتمس من الجهات الرسمية و ضع قانون لمعاقبة الآباء العنيفين قبل أن يضيعوا مستقبل بناتهم.و أقول للفتيات في مثل سني ،بأنه من المستحيل تعويض الوالدين. و أصارحكم بأنني أشتاق كثيرا لأمي و إخوتي، و لو عاد الزمن إلى الوراء، لتحملت كل شيء و لما هربت من البيت ،لكنني لا أستطيع العودة الآن خوفا على أمي من بطش أبي.الهروب من الأهل قرار خاطئ في كل الحالات.
ملامحها لا تزال طفولية و كذا حركاتها وسكناتها ، فعمرها لا يتجاوز 15عاما،لكن حديثها يجعلك تشك للحظات بأنه صادر عنها ،فقد شوهت الظروف براءتها و حولتها إلى كائن مضطرب و غريب الأطوار. فاجأتنا بقولها :”يا جماعة كل ما في الأمر أنني أريد أن أتزوج من الشاب الذي أحبه و يصبح لدي سكن، زوجوني!”.و حاولت استدراجها لأفهم حكايتها و سر جرأتها ، فترددت قليلا قبل أن تقول:” أبي مات و أمي تزوجت من رجل آخر و أنجبت منه ثلاثة أبناء.تكفل بتربيتي و تعليمي جدي. عندما كنت أدرس في الرابعة متوسط، تعرفت على شاب و أحببته كثيرا و وقعت مشاكل...اضطررت للتوجه إلى منزل أمي في مدينة أخرى و أرغمتني حماتها التي تقيم معها، على التوقف عن الدراسة، رغم أن معدلي السنوي كان 12من20، حاولت متابعة تعليمي عن طريق المراسلة لكنني لم أستطع.الفراغ جعلني أقضي وقتي بين أشغال البيت و التواصل باستمرار مع حبيبي عن طريق موقع الفايسبوك و الهاتف.و في أحد الأيام اتفقنا على أن نلتقي لأنني اشتقت كثيرا إليه ، هربت من بيت أمي على أساس أن أعود لاحقا .و بعد لقائنا طلبت من حبيبي أن يعيدني إلى بيت جدي و تحججت بكون حماة أمي تزعجني.عندما وصلت رفض جدي أن أمكث ببيته.عدت إلى حبيبي فأخذني إلى منزل أسرته ،حيث يقيم مع والديه و إخوته.
لا أنكر بأنه اعتدى علي...لكنني أحبه.
يبدو أن أخوالي بلغوا عن اختفائي،بعد سفر حبيبي إلى العاصمة ، فوجئت برجال الشرطة يداهمون البيت و أخذوني معهم. اتصلوا بأخوالي ، و استدعيت بعد يومين للمثول أمام المحكمة، بحضور أمي .قرر قاضي الأحداث نقلي إلى مركز الأحداث، حيث قضيت سنة و تم تحويلي إلى هنا في بداية العام الجاري.أعلم بأن هناك قضية رفعت ضد حبيبي، لكنني مصممة على الزواج منه و مطالبة أعمامي بحقي في ميراث أبي”.
التقينا بنسرين 17عاما، مباشرة بعد عودتها من الثانوية التي تدرس بها.كانت ترتدي مئزرها المدرسي الأبيض و تبدو واثقة من نفسها.و أخبرنا مدير المركز بأنها قدوة لزميلاتها في السلوك الجيد و الأخلاق العالية و أيضا الرغبة القوية في الدراسة. بادرنا بسؤالها عن مستواها و تخصصها فردت بابتسامة عريضة:” أدرس في السنة الأولى ثانوي بقسم أدبي و نتائجي لا بأس بها”. صمتت هنيهة، و كأنها خمنت ما يدور في ذهننا من تساؤلات، فأضافت:” أذهب إلى الثانوية يوميا و أعود منها بمفردي إلى المركز. لقد خصصت لي غرفة للمذاكرة و كل الكتب و الأدوات المدرسية التي أحتاجها يوفرها لي المركز. المادة المفضلة، بالنسبة إلي ، هي الأدب و اللغة العربية ، لكنني أبذل قصارى جهدي لكي أنجح في كافة المواد و أحصل على البكالوريا و أكمل دراستي .أما وقت فراغي فأقضيه في ورشات تعلم الطبخ و الخياطة و الطرز بالمركز”. سألناها إذا كانت لديها صديقات في الثانوية، فردت بأن لديها زميلات بالثانوية و صديقات بالمركز.عن مهنة المستقبل، قالت بحماس:”أريد الانخراط في سلك الدرك الوطني”.
و لم نجد بدا من نبش جرحها الغائر ، فطلبنا منها أن تحكي لنا عن الظروف التي قادتها إلى هذا المكان، تغيرت ملامحها الهادئة، و طأطأت رأسها قليلا، ثم رمقتنا بنظرات حائرة ،اختزلت عمرا من العذاب و الغضب ثم قالت:”كنت أعيش حياة عادية في كنف أسرتي ببلدة صغيرة ،و كنت أتابع دراستي. و شاء القدر أن تخطف يد المنية أمي،أغلى إنسان إلى قلبي ، فانقلبت حياتي رأسا على عقب، فقدت الحنان و السند، و أصبحت كريشة في مهب الرياح . مباشرة بعد وفاتها منعني أبي و إخوتي من الدراسة، و حتموا علي المكوث في البيت، وسط المشاكل والاتهامات ،عشت معهم سنتين في الجحيم . تصوروا لقد سمعت أبي و هو في التسعين من عمره، يقول بأنني لست ابنته ،و يتهم أمي المتوفية في عرضها ، لم أتحمل كل ذلك و قررت أن أترك البيت دون رجعة. في المركز،وجدت الأمان و سمحوا لي بمتابعة دراستي و وفروا لي كل احتياجاتي. أريد البقاء هنا لأواصل تعليمي و أعمل لأبني مستقبلي بعيدا عن أهلي”.
و أنت تقترب من المركز الكائن بطريق المشتلة، قرب ملعب الشهيد حملاوي بقسنطينة ، تتراءى لك لوحة كبيرة بمدخله كتب عليها «مركز أخصائي لرعاية الأحداث»، لكن إذا سألت عنه موظفيه و النزيلات به ،و كذا مسؤولي و عمال مديرية النشاط الاجتماعي و التضامن التابع لها ،أو اطلعت على مراسلات و بعض الوثائق الإدارية ،فستجد أنه يحمل تسمية «مركز إعادة التربية بنات»، فلم نجد بدا من الإستفسار من مدير المركز ذي الإسمين.السيد عبد الغاني توفيق أوضح بأن تسمية المركز الحقيقية و الرسمية هي مركز إعادة التربية بنات، لكن هذه التسمية ترمز في أذهان الكثيرين للسجن ،لهذا و مراعاة للحالة النفسية لنزيلاته من الفتيات القاصرات و ذويهن و لتجنب نظرة المجتمع القاسية تم تعليق لافتة مركز أخصائي لرعاية الأحداث.لاحظنا بأن المركز يتربع على مساحة مترامية الأطراف و لا يحمل خصائص المؤسسة العقابية أو السجن و لا توجد به أسوار أو زنزانات، فهو يضم إلى جانب مبنى الإدارة و مكاتب أعضاء الفرقة المتعددة الاختصاصات ،مراقد و غرف عادية للنزيلات و كذا ورشات و قاعات للنشاطات الترفيهية و الفنية و الرياضية و مساحات خضراء شاسعة ،و أبوابه مفتوحة على المحيط . أما طاقته الاستيعابية حاليا بين و 65 و 70 بنتا ،في حين يجري ترميم الجناح الثاني بالمركز ،و له نفس القدرة الإستيعابية.
و لدى زيارتنا لورشتي الإعلام الآلي و الطبخ ،لاحظنا بأن الجدران مزينة برسومات فنية جميلة، كما علقت مجلة حائطية كبيرة أمام مكتب المربي الرئيسي و تتضمن عدة مقالات كتبتها النزيلات مدعمة بالصور و الرسومات، تتناول عدة مواضيع تلخص معاناتهن من قسوة الأهل و المجتمع، و آراءهن حول بعض الآفات الاجتماعية كالتدخين و المخدرات و جنوح الأحداث و الوقاية من بعض الأمراض.كما يصدر المركز بأقلام نزيلاته مجلة دورية متنوعة .
و الجدير بالذكر أن جذور المركز تمتد إلى سنة 1956،حيث كان يطلق عليه مركز الملاحظة بدار الحبس بقسنطينة و من 1963إلى 1966 أصبح يعرف بتسمية المركز الاختصاصي لإعادة التربية باردو.و تم تحويله من 1966 إلى غاية 1972 إلى نهج الدكتور كالماط. و من 1972 إلى غاية اليوم و هو موجود بطريق المشتلة قرب ملعب الشهيد حملاوي.
علما بأن المركز كان قبل الاستقلال تحت وصاية وزارة العدل و بعد الاستقلال أصبح تحت وصاية العديد من الوزارات،و آخرها وزارة التضامن و الأسرة و قضايا المرأة.
وتتمثل مهمة طاقم المركز المتعدد الاختصاصات الذي يضم 3 مربيين رئيسيين و 6 مربيين و 3 أخصائيات نفسانيات و 8 مؤطرين و مختصين اثنين(02 )في الإعلام الآلي ، و مساعدة اجتماعية واحدة في التكفل بالأحداث الجانحات و المعرضات لأخطار مادية
و معنوية.
أوضح مدير المركز عبد الغاني توفيق، بأن الإدارة و الفريق المتعدد التخصصات يتعامل مع النزيلات باعتبارهن ضحايا مجتمع و قاصرات بحاجة إلى مساعدة لإعادة إدماجهن في الوسط العائلي و الاجتماعي، و هو الهدف من التكفل بهن و يتحقق، حسبه، بنسبة 60 بالمائة من الحالات.و أضاف المسؤول بأن كل حالة بالمركز تختلف عن الأخرى، من حيث خصائصها و مشاكلها ،فهناك المصابات بأمراض أو اضطرابات نفسية و المدمنات على المؤثرات العقلية و المهلوسات أو التدخين و هناك من تستهويهن السرقة ،كما توجد ضحايا العنف و التفكك الأسري و الاعتداءات الجنسية و زنا المحارم و غيرها ،مشيرا إلى أن معظم النزيلات تم إحضارهن إلى المركز ، لأنهن في خطر معنوي ،و عددهن أكثر بكثير من الجانحات،و يتم ذلك بناء على أمر قضائي،أو بتكليف شخصي مؤقت أو نهائي . الدولة تخصص ميزانية كافية للمركز ،كما أكد محدثنا ،كما تبادر بعض الجمعيات من حين لآخر بتقديم مساعدات للمركز. و يعتقد بأن الجمعيات من المفروض أن تتقرب أكثر من هذه الشريحة من الفتيات، و تدعم مساعي فريق المركز من أجل تحضيرهن للاندماج في المجتمع، خاصة و أن المركز يفتح لهن أبواب التعلم و التكوين، عبر ورشات محو الأمية و إعادة التأهيل و الإعلام الآلي و الخياطة و الطبخ، و ينظم لهن رحلات ترفيهية من حين لآخر.و استطرد قائلا ،بأن عدد النزيلات القاصرات متغير و يختلف من يوم إلى آخر، فقد يتم تحويل بعضهن إلى مراكز أخرى قريبة من مقر سكن ذويهم ،أو يدمجن في الوسط العائلي ، و يصل أحيانا عددهن إلى أكثر من 200 نزيلة سنويا في حين بلغ في العام الفارط 102 نزيلة ، من مختلف ولايات شرق و غرب و وسط البلاد ، وتلزم جميعهن بالنظام الداخلي للمركز و من أهم بنوده حظر التدخين و اللباس المحتشم و عدم الخروج من المركز إلا للدراسة إذا تعلق الأمر بالمتمدرسات، ويرخص قاضي الأحداث للآباء و الأمهات زيارة بناتهن من حين لآخر.و شرح المدير بأنه لدى إحضار الفتاة القاصر إلى المركز بأمر من قاضي الأحداث ، توجه مباشرة إلى مصلحة الاستقبال و التوجيه، حيث يتكفل المربي الرئيسي بفتح ملف خاص بها يضم عدة معلومات و وثائق و تقارير قضائية و إدارية و اجتماعية و صحية و نفسية ،يحضرها فريق المركز، كل حسب تخصصه.و الخطوة الثانية تتمثل في توجيه النزيلة إلى قسم الملاحظة لمراقبة سلوكاتها و الكشف عن جوانب من شخصيتها و انشغالاتها. و في المرحلة الثالثة توجه القاصر إلى قسم إعادة التربية و في المرحلة الرابعة توجه إلى قسم الإعداد للخروج من المركز و الإدماج في الحياة الاجتماعية. و أشار من جهة أخرى، إلى أن فريق المركز على اتصال بقاضي الأحداث من أجل تنسيق العمل، موضحا بأنه من المفروض أن يستقبل المركز القاصرات اللائي تتراوح أعمارهن بين 14 و 18 عاما، و من تصل أعمارهن إلى 19 عاما دون التمكن من إدماجهن في كنف أسرهن ،يعتبرن من الحالات الطارئة، و يتم تنظيم اجتماع مع قاضي الأحداث لدراستها كل ثلاثة أشهر،لأنهن غير مسموح ببقائهن بالمركز لمدة أطول، حيث يتم توجيههن في الغالب إلى مراكز خاصة بضحايا العنف .
النفسانية المتخصصة في علم النفس العيادي عفاف دحماني، و هي عضوة في الفرقة المتعددة الاختصاصات التي تتكفل بنزيلات مركز إعادة التربية بنات بقسنطينة، أوضحت خلال لقائها بالنصر ،بأن النزيلات يشكلن فئتين، الفئة الأولى تتكون من حالات اجتماعية ،و الفئة الثانية عبارة عن فتيات جانحات.و أشارت إلى أن فريق المركز يضم أربع نفسانيات يخصصن حصص إصغاء ومتابعة نفسية للنزيلات، و يساعدهن على مساعدة أنفسهن ،من أجل تجاوز الصدمات العنيفة التي تعرضن لها أو الأزمات و الضغوط التي عشنها و المصالحة مع الذات و مع الأهل و المحيط . و شددت بأن أعمارهن تتراوح بين 14 و 18عاما ،أي أنهن يجتزن مرحلة خطيرة و حرجة من أعمارهن ، وهي المراهقة التي يطلق عليها المختصون سن العواصف و الاضطرابات، أو الولادة الثانية للإنسان، لأنها تؤثر على مجرى حياته كلها مستقبلا .
فمن أهم خصائص المراهقة تعرض المراهق أو المراهقة لمشاكل و صراعات متعددة ، ناجمة عن التغيرات في مظاهر النمو الفيزيولوجي ، الجسدي و الجنسي و النفسي و العقلي و الانفعالي و الاجتماعي. و هكذا نجد أن العديد من المراهقات ذوات الشخصيات الهشة المضطربة، اللائي لم يشبعن حاجاتهن إلى الحب و التقبل و الأمن و الاستقرار و التفهم من أوليائهن ، يستسلمن لرغبة جامحة في العصيان و التمرد والبحث عن الذات و السعي لتحقيقها على طريقتهن
فالتأثير السلبي للمراهقة ، قد يؤدي إلى جنوح بعض القاصرات، خاصة إذا تعرضن لظروف أسرية و اجتماعية صعبة ،على غرار سوء معاملة الوالدين و الإهمال و التفكك الأسري و الفقر و رفاق السوء.
و هذه الشريحة مستعصية لا تستجيب بسرعة للتكفل النفسي و التربوي و البيداغوجي و حتى العلاج بالنشاطات اليدوية الحرفية و الفنية. و من الصعب الوصول إلى نتائج إيجابية معها،عكس الحالات الاجتماعية الأخرى ،خاصة التي تلقت تنشئة اجتماعية سليمة ، فهي تتحسن بسرعة، و تنفتح على محيطها و تتكيف مع من حولها.و شددت النفسانية بأن الهدف من التكفل هو تحضير النزيلات القاصرات للاندماج مجددا في وسطهن العائلي و الاجتماعي،و تسليحهن بشهادة دراسية أو ديبلوم في حرفة معينة للاعتماد على أنفسهن في دخول الحياة المهنية.كما يبذل طاقم المركز قصارى جهده لإعادة المياه إلى مجاريها بين هؤلاء النزيلات و ذويهن، لكنه يصطدم في بعض الحالات بالرفض القاطع من الأهل.مشيرة إلى أن الحدث الذكر ، إذا اقترف مختلف أشكال الانحراف ، فإن ثقافة و عادات و تقاليد مجتمعنا المحافظ ،تحميه و تبرر أخطاءه و خطاياه ، لمجرد كونه «رجل» ،بينما أخطاء الفتيات و لو كن قاصرات ضحايا ظروف قاهرة ،لا تغتفر و تصنف في «طابو الشرف» ، و بدل احتضانهن و مساعدتهن على تجاوز محنهن و العودة إلى جادة الصواب، يهمشن و ينبذن و يتركن في الشوارع أو المراكز ، و أعربت عن أسفها لأن العديد من الأولياء مستقيلين من مسؤولية رعاية أبنائهم ، و ضمائرهم نائمة.
عضو الفرقة المتعددة الاختصاصات بالمركز، المربي الرئيسي، صالح غراس، تطرق من جهته إلى مشكلة صعوبة التواصل و التحاور مع أولياء النزيلات، فالكثير منهم، كما أكد، يرفضون الرد على اتصالات المساعدة الاجتماعية و بقية أعضاء الفريق، أو يغلقون هواتفهم.
و لا تتوفر ،كما أكد ،الوسائل اللازمة للتنقل مباشرة إلى مساكنهم بقرى و مدن بعيدة، من أجل التحدث إليهم و إقناعهم بتحمل مسؤولياتهم إزاء بناتهن و إرجاعهن إلى أحضانهم، فلا شيء، و لا أحد يمكن أن يعوض دفء الأسرة و حنان الوالدين،استخلص محدثنا.
المربي الرئيسي أوضح بأنه من النادر أن يزور الآباء أو الأمهات فلذات أكبادهم بالمركز،ما يزيد في صعوبات التكفل، و قال موجها كلامه لأولياء النزيلات:
« لا تفرطوا في بناتكم، ساعدونا لنتمكن من إنقاذهن، زياراتكم لهن أساس التكفل الناجح بهن، في انتظار استرجاعكم لهن و منحهن فرصة ثانية للاندماج في الأسرة و المجتمع. ديننا دين تسامح و غفران و محبة. كل إنسان خطاء و الله يغفر لنا أخطاءنا و خطايانا جميعا، فكيف لا تسامحون بناتكن القاصرات بدل الحكم عليهن بالضياع طوال العمر؟».
و أكد محدثنا بأن النزيلات يرغبن في العودة إلى ذويهن و بيوتهن، فالمركز رغم كل شيء وسط مغلق يكرس نظاما خاصا في استقبال و إقامة النزيلات و التكفل بهن، و لا يمكن أن يعوض المنزل و الأهل ،خاصة و أنه يستقبل الشريحة العمرية من 14 إلى 18عاما ،ومن النادر جدا تمديد الإقامة إلى سن 19 أو 20 عاما، إذا تعلق الأمر بطالبات جامعيات ، ذوات سلوك جيد.و بالتالي الخيار الأفضل هو المنزل العائلي، بدل البحث عن مكان في مراكز لإيواء ضحايا العنف .
غراس أضاف بأن من بين النزيلات توجد تلميذة في الطور المتوسط و أخرى في الطور الثانوي، تزاولان دراستهما بشكل منتظم،كما تخرجت أخرى من الجامعة قبل سنتين تقريبا، و تم الاحتفال بزفاف ثلاث نزيلات من قبل، مشيرا إلى أن نقص الإمكانيات و التأطير،يحتم على المركز عدم التفريق بين الفتيات من ضحايا وضعيات اجتماعية صعبة ذوات السلوك الجيد و الجانحات،مما يؤثر سلبيا على الفئة الأولى،لكن بالتكفل التربوي و النفسي تحاول فرقة المركز تقليص الأخطار.كما تأسف لأن بعض القاصرات اللائي يهربن من هذا المركز و يعدن إليه بمحض إرادتهن أو يعدهن إليه رجال الشرطة ،يعدن في الغالب منحرفات و صعبات المراس، مما يحتم إعادة التكفل بهن من الصفر.