كاسترو كان قارئا شغوفا وصديقا للكتاب أيضا
سبق بعض المثقفين في الأيام القليلة الماضية السياسيين في التأكيد على معارضتهم لنظام زعيم الثورة الكوبية الراحل، فيدال كاسترو، من خلال انتقادات وجهوها إلى النظام الكوبي في تصريحات مختلفة لوسائل إعلام، حتى أن كلام البعض منهم جاء مناقضا لآراء سياسيين، كان متوقعا منهم القيام بدور المُهاجم. لكن علاقة كاسترو بالكتّاب والفنانين ليست جديدة، فقد سحرت الثورة الكوبية عددا من كبار المثقفين العالميين الذين عاصروها، حتى تحوّلت هافانا إلى مزار لفنانين وكتّاب وسينمائيين في الستينيات، بعد سقوط نظام باتيستا.
إعداد: سامي حباطي
ورغم أن العديد من الكتّاب، أداروا ظهورهم لفيدال كاسترو وصاروا من أشد منتقدي النظام الذي أقامه، لكن مجموعة منهم ظلت محافظة على احترامها لليدر ماكسيمو، رغم ما تأتي به بعض الأطروحات، حول استغلال فيدال للكتّاب من أجل الترويج لنفسه ونظامه. وقد وضعوا ماركيز على رأس قائمة المتهمين بهذا الأمر، بعدما حافظ على صداقة طيبة مع كاسترو إلى غاية وفاته منذ سنتين، على الرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهت له في هذا الخصوص، و وصلت إلى حد مناصبته العداء من طرف البعض.
كاسترو و ماركيز: صداقة لم تسقطها الانتقادات
لا تزال علاقة الصداقة التي ربطت الكاتب الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز بالزعيم الكوبي فيدال كاسترو محل العديد من التساؤلات بعد رحيل الرجلين عن هذا العالم، فقد استمرت في صمت ولم تؤثر فيها التعليقات الكثيرة والانتقادات المختلفة، التي مست بشكل أكبر صاحب رواية مئة عام من العزلة، وقد شكّل رفض ماركيز التوقيع على رسالة مفتوحة إلى كاسترو ضد نظام حكمه في كوبا، وجهتها مجموعة من الكتّاب في سنة 1971، ومن ضمنهم الحائز على جائزة نوبل للآداب ماريو فارغاس يوسا، أهم دليل على دعمه لصديقه الثوري.
وذكر غابو بأن أغلب الدردشات بينه وبين الزعيم الكوبي الراحل تدور حول السياسة والأدب، وقد قال في فيلم وثائقي حول كاسترو: "إنني أرسل مسوّدة أي عمل أكتبه إلى كاسترو قبل أن أنشره. فهو مثل الناشر بالنسبة لي، ويرشدني إلى الهفوات والتناقضات في كتاباتي، التي يغفل عنها المحترفون، فهو صارم جدا ويقرأ طيلة الوقت، وفي الرحلات الطويلة بالسيارة يظل المصباح الداخلي المعلق بسقف المركبة مضاء ويستمر فيدال في المطالعة طوال الليل"، ليضيف بالتصريح بأن علاقته بكاسترو توطدت عن طريق الكتب.
وفي سنة 1982، شحن كاسترو 1500 زجاجة من النبيذ الكوبي إلى ستوكهولم تعبيرا عن فرحه بتتويج صديقه الكولومبي بجائزة نوبل للآداب، كما منح بعد ذلك لماركيز منزلا في أحد الأحياء الراقية بالعاصمة الكوبية هافانا، بحسب ما جاء في كتاب ألفه الباحثان أنخيل ايستيبان وستيفاني بانيتشيللي، حول علاقة الصداقة بين كاسترو وماركيز، اللذان قالا بأنه كان من أوائل المدافعين عن الثورة الكوبية.
ونشأت الصداقة بين كاسترو وماركيز بالصدفة، عندما التقيا سنة 1948، في مظاهرة في كولومبيا احتجاجا على مجازر الحكومة ضد الفلاحين، على هامش مؤتمر لطلبة أمريكا اللاتينية نُظم آنذاك في كولومبيا، بحسب ما ورد في مقال لكاسترو كتبه سنة 2002.
كاسترو يصغي لقرع أجراس هيمنغواي
ويعتبر إرنست هيمنغواي واحدا من الكتاب الذين ارتبطت أسماؤهم بفيدال كاسترو، رغم أن الكاتب الأمريكي غادر كوبا دون رجعة سنة 1960، بعدما كتب فيها رواية "الشيخ والبحر"، التي تعتبر واحدة من أشهر أعماله الأدبية وعاش بها مدة طويلة، كما أنها السنة التي وصل فيها زعيم الثورة الكوبية إلى الحكم وأطاح بنظام باتيستا. وقد ذكر الصحفي الأرجنتيني جاكوبو تيمرمان في مقال له، بأن هيمي لم يلتق بفيدال إلا مرة واحدة سنة 1960 في مسابقة لصيد الأسماك نظمت على شرف الكاتب الأمريكي، فاز بها الزعيم الكوبي، ولم يتبادلا إلا بضعة كلمات عن المسابقة، مع أن وسائل الإعلام التي حضرت لتغطية الحدث التقطت كما كبيرا من الصور لهما، واشتهرت فيما بعد. وذهب الكثير من المحللين الغربيين إلى القول بأن هيمنغواي لم يكن صديق كاسترو في يوم من الأيام، رغم أن الأخير لم يخف إعجابه برواية "لمن تقرع الأجراس"، وقال إنه قرأها يوم كان ضمن صفوف المتمردين على باتيستا، كما وصفها بالرواية التي تسافر بقارئها إلى اسبانيا بدايات القرن الماضي، ليعيش الحرب الأهلية ومرارتها، التي امتدت لعدة سنوات انقسم فيها الشعب الاسباني إلى الجمهوريين والقوميين، الذين فازوا على الجمهوريين في النهاية بقيادة الجنرال فرانكو، وكان ذلك بداية عهد دكتاتوريته".
ولم يبد هيمنغواي أي تأييد صريح لفيدال كاسترو خلال المدة التي قاربت السنتين من مغادرته لكوبا، وقبل انتحاره، لكنه استمر في انتقاد باتسيتا وسياساته ووصل بذلك إلى حد الشتم. وقد حولت الحكومة الكوبية منزل الكاتب الأمريكي القريب من العاصمة هافانا إلى متحف يحمل اسمه، ويحتوي إلى اليوم على الكثير من الأشياء الخاصة به، على غرار الراقنة التي كان يستعملها للكتابة والآلاف من الكتب والصور والرسائل الخاصة به، بعدما تنازل ورثته عنها لصالح الحكومة الكوبية، التي تولي البيت اهتماما منفردا.
سارتر صديق كاسترو في حجه الثاني إلى كوبا
وتمثل صورة الثنائي جون بول سارتر وسيمون دي بوفوار مع عراب الثورة الكوبية، الذي لا يغادر السيجار فمه إلا قليلا، واحدة من أشهر اللقطات التي علقت في أذهان أجيال مختلفة، منذ سنة 1960 تاريخ التقاطها في زيارة للفرنسيين، اللذين صادقا ثورات الضعفاء في مختلف بقاع العالم، إلى كوبا ما بعد باتيستا والهيمنة الأمريكية عليها، تلتها بعد العودة إلى فرنسا سلسلة من 16 مقالا، بعنوان "إعصار فوق السكر"، بقلم الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر في صحيفة "فرانس سوار"، ووصف فيها هافانا، وتحدث عن الثورة الكوبية وطبيعة الحياة داخل البلد، وإعجابه بالثوار.
ولكن سارتر أبدى معارضته لنظام الزعيم الكوبي، عندما شارك رفقة 60 أديبا في التوقيع على رسالة الاستنكار الموجهة إلى كاسترو سنة 1971، والتي نشرت على صفحات جريدة لوموند، وهي نفس الرسالة التي رفض ماركيز التوقيع عليها، بعد اعتقال الكاتب الكوبي ألبيرتو باديلا، وإجباره على النقد الذاتي العلني ضد أفكاره، إثر انتقادات وجهها إلى حكومة هافانا. وقد قال كاسترو في إحدى خطاباته "إن الفن يجب أن يكون في خدمة الثورة"، ويقصد الثورة الكوبية.
أما المفكر الفرنسي ريجيس دوبري، فقد أكد خلال السنة الجارية في تصريح إعلامي له، بأنه "لا يزال وفيا لفيدال الذي عرفه" ويقصد في رحلته الأولى إلى كوبا سنة 1965، قبل أن يغيّر الكثير من مواقفه حول النظام الكاستراوي، بعد العلاقة الوطيدة التي ربطته به و بالثورة الكوبية، ولهيبها الذي امتد إلى دول شقيقة من أمريكا اللاتينية، لدرجة أنه واجه الحكم بالإعدام في بوليفيا، عندما التحق بالتشي وألقي القبض عليه. ولم يخف المفكر حينها إعجابه بالثورة الكوبية وبشخصية زعيمها.
ولم يحظ الشاعر التشيلي بابلو نيرودا بكثير من الإعجاب من فيدال كاسترو، رغم ولائه العلني الواضح للشيوعية، والقصائد التي كتبها في مدحه، فقد رفض كاسترو استقباله، ولم تطأ قدمه بعد ذلك الأراضي الكوبية طيلة حياته، لكن كوبا تحولت إلى محج للأدباء والفنانين والسينمائيين خلال فجر النظام الجديد الذي وضعه كاسترو بعد نجاح الثورة التي قادها.
صاحب أطول خطاب في تاريخ الأمم المتحدة
وتنعكس ثقافة كاسترو الواسعة في خطاباته المتميزة التي ألقاها في مناسبات مختلفة على الشعب الكوبي، أو على ثلة صغيرة من المستمعين، حيث غالبا ما كان يبدأ بالقول إنه لن يطيل الحديث، ليستمر أحد خطاباته لأربع ساعات ونصف، وهو يعتبر أطول خطاب لزعيم سياسي في أروقة الأمم المتحدة بحسب ما ذكرته الهيئة على موقعها، رغم أنه مسجل بأن الزعيم الراحل استهله بالقول "سنبذل جهدنا لنختصر الحديث بما يمليه علينا الواجب هنا، وسنتكلم ببطء حتى نسمح للمترجمين بأن يقوموا بعملهم بشكل جيد". ومن أشهر الجمل البليغة التي قالها أيضا: "رأس المال الأمبريالي مومس لن تغرينا".
في حين ألقى ذات يوم خطابا داخل كوبا استمر لسبع ساعات ونصف. وقد وصفه سارتر في مقالاته التي تلت زيارته الثانية لكوبا في الستين، بالرجل الذي لا يتعب ولا ينام، حتى أنه التقى به أحيانا قبيل الفجر، كما قال ريجيس دوبري عن خطاباته، بأن الليدر ماكسيمو يعبر دائما عن ضمير المتكلم بـ"نحن"، عوضا عن "أنا"، ووصفه بأنه يتحول إلى "صوت واحد بين خمسمائة ألف صمت".
وقد كان فيدال كاسترو يصف الولايات المتحدة بـ"الإمبراطورية"، حيث صمد أمامها طيلة عقود، انهارت خلالها الشيوعية في عقر دارها، وعاش سكان العالم تغيرات جوهرية، إلا كوبا التي ظلت محافظة على مواقفها إلى أن انتهى الأمر بعملاق العالم إلى الانحناء والعودة إلى فتح أبواب الحوار مع الزعيم الراحل، الذي قال "لقد عولموا الحصار علينا، فعلومنا حرب المقاومة عليهم". كما ألهمت عبارته "الشيوعية أو الموت، الوطن أو الموت، سننتصر"، الثوار ضد الاحتلال الاسباني في أمريكا اللاتينية، فكانوا يرددون، "الاستقلال أو الموت".
واعترف كاسترو، الذي درس الحقوق بجامعة هافانا، بأنه حشد ثقافته السياسية والأدبية من خلال مطالعاته عندما انتقل إلى الجامعة، حيث قال بأنه لم يكن قبل ذلك يملك من الوعي السياسي بما يدور حوله في بلده إلا الشيء القليل. وقد ساهمت السياسة التعليمية التي سنها في كوبا، بشكل كبير في القضاء على الأمية، التي نخرت المجتمع الكوبي الذي كان يتألف من أميين اثنين من أصل كل ثلاثة مواطنين في عهد باتيستا.
جدل متواصل بين مثقفين وسياسيين بعد رحيل الرفيق
ولم تضع مغادرة فيدال كاسترو عالم الأحياء حدا للجدل القائم بين شخصيات عديدة حول تأييده أو الوقوف ضده، حيث تلقى البعض منهم الخبر بالاتهامات والردود عبر وسائل الإعلام، على غرار ميشال أونفراي الذي أدان قيام زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي، جان لوك ميلونشو، بالتعبير عن حزنه لرحيل كاسترو، وامتداحه المنظومة الصحية التي أسسها الأخير في بلاده، لكن أونفراي رد عليه بالقول إنه التقى بجراحين خلال سفره إلى كوبا، مضطرين إلى قيادة سيارات أجرة خارج أوقات العمل، حتى يتمكنوا من تغطية حاجاتهم الضرورية لضمان حياة كريمة.
أما المفكر السلوفيني سلافوي جيجيك، فقد قال في تصريح لقناة روسيا اليوم، الناطقة باللغة الانجليزية، إن "كاسترو كان فعلا شخصية مؤثرة، لكن، ومع تقديم الاعتذار إلى أصدقائي اليساريين الذين قد ينزعجون قليلا من كلامي، ما هو الجديد الذي أنتجته كوبا في الممارسة الاجتماعية والثقافة والاقتصاد؟ الأمر الذي أزعجني فعلا عندما زرت كوبا منذ عشر سنوات لم يكن تدهور حقوق الإنسان بالبلد أو الوضع الاقتصادي، بقدر ما أقلقني هذا الجمود الذي تعيشه كوبا...".
س.ح