جمعة جغلال.. جامعة تاريخ الأوراس
عرفت نهاية سنة 2016، رحيل الباحثة في علم الاجتماع ابنة الأوراس جمعة جغلال، تاركة وراءها إرثا كبيرا من الكتب والوثائق والمخطوطات والمراجع التاريخية النادرة؛ التي اقتفت آثارها في جمعها على مدار أزيد من 25 سنة في فرنسا، من خلال اقتنائها لكل مرجع له صلة بتاريخ الجزائر والأوراس بصفة خاصة، وقد ظلت الفقيدة متمسكة بهويتها الأمازيغية مدافعة عنها ومتشبعة بروح الوطنية وهي التي هاجرت طفلة صغيرة إلى فرنسا، ولم تمنع الغربة ابنة دوار أنسيغة بعمق الأوراس في خنشلة من التشبث بهويتها، وهو ما يجمع عليه رفاق دربها وكل من يعرفها حتى أنها أوصت بدفنها بعد موتها بمسقط رأسها خنشلة إلى جانب قبر ابنها.
أعدَ الملف: يـاسين عبوبو
الكاتب والإعلامي ربيعي مباركي صديق الراحلة
دافعت في المهجر عن الجزائر المستهدفة من التيارات الفرنسية المتطرفة
قال ربيعي مباركي، بأن جمعة جغلال كانت من بين المثقفين الجزائريين بالمهجر الذين دافعوا بشدة عن الجزائر المستهدفة من التيارات الفرنسية المتطرفة، وأكد الكاتب الإعلامي المهتم بالتراث والثقافة الأمازيغية وهو أحد الأصدقاء المقربين من الراحلة جمعة جغلال، بأن أبحاث المرحومة واهتماماتها لم تكن مقتصرة على التاريخ والتراث الأمازيغي لمنطقة الأوراس فحسب؛ بل مست كل ما يتعلق بتاريخ الجزائر، وكانت ترفض أولئك المتعصبين على حساب وحدة الوطن، وأكد ربيعي، بأن الراحلة ابنة دوار أنسيغة بخنشلة ظلت متمسكة بجذورها وهويتها رغم مفارقتها للوطن، وهي في الخامسة من العمر مرجعا ذلك لكونها نشأت في أسرة ثورية ومحافظة حتى وهي في الخارج.
ويقول ربيعي، بأن جمعة جغلال كانت المرأة المناضلة والمثقفة بامتياز كونها كانت على اطلاع على كافة الديانات بحكم أنها نشأت وتكونت في فرنسا فكانت على احتكاك بمحيطها الخارجي هناك، وفي الوقت نفسه كانت محافظة على أصالتها الأمازيغية، وأوضح صديق الراحلة، بأن التكوين الدراسي لجمعة في العلوم الاجتماعية والمكتبية واهتمامها بالتاريخ الجزائري، جعلها تهتم بدراسة الحياة الاجتماعية للمهاجرين الجزائريين بفرنسا، وكانت دائمة البحث في تاريخ الجزائر رفقة الباحث عمار نقادي الذي كانت تربطها به علاقة صداقة وطيدة في المهجر وكان هاجسهما اقتفاء آثار تاريخ الجزائر. واضاف، بأن هاجس جمعة في اقتفاء آثار كل ما تعلق بتاريخ الجزائر عبر مختلف مراحله وخاصة أثناء الحقبة الاستعمارية الفرنسية والثورة التحريرية جعلها تسخر كل وقتها بعد أن قضت أزيد من 25 سنة في جمع الكتب ومختلف المراجع والمذكرات والصور البريدية ما حول مسكنها بباريس إلى مكتبة ضخمة مشيرا لحيازتها على أزيد من 20 ألف مرجع تاريخي عن الجزائر منه ما هو نادر بعد أن اشترته عبر المزادات على غرار مذكرات وكراس خاص بالشهيد سي الحواس مدون بخط يده ويحمل الكراس تنظيم الناحية التاريخية السادسة اشترته من أحد أبناء الحركى.
وأوضح صديق الراحلة بأن جمعة كانت تتمتع بذكاء حاد بحيث لم تكن تشتري الكتب والمخطوطات المتعلقة بتاريخ الجزائر إلا وكانت قد اطلعت على محتواها الأمر الذي جعل ذاكرتها عبارة عن مكتبة بحيث تحفظ كل العناوين ومحتويات ما تحوزه من كتب ومراجع ومخطوطات داخل مكتبتها، وأشار ربيعي إلى تسخيرها لما تحوزه في مكتبتها لكافة الطلبة والباحثين الجزائريين الراغبين في إجراء البحوث فلم تكن تبخل من يطرق بابها وكانت تعيل وتساعد كل محتاج أيضا سواء تعلق الأمر بالمراجع البحثية أو حتى ماديا، وهنا أكد محدثنا على الجانب الإنساني الذي كانت تتمتع به جمعة من أخلاق فاضلة وقيم إنسانية مترسخة في طبع الشخص الأوراسي الذي لا يعرف الحيلة ويمشي على سليقته وهنا راح محدثنا يستذكر عدة مواقف إنسانية للراحلة مؤكدا بأنها كانت تبكي لبكاء الطفل الصغير.
وأشار الكاتب الإعلامي ربيعي إلى أن تمسك جغلال بهويتها الأمازيغية وبحثها في تاريخ الأوراس جعلها تتعرف على الباحثة الفرنسية الأنثربولوجية الشهيرة جارمان تيان التي بحثت في منطقة الأوراس أثناء الاستعمار الفرنسي بالجزائر وأصبحت مقربة منها ما مكنها من الحصول على وثائق وصور نادرة لمنطقة الأوراس، مضيفا بأن صداقتها كانت حميمية مع الباحثة الفرنسية قبل أن ترحل الأخيرة قبلها.
الهادي بوراس رئيس جمعية ثامزغا أوراس فوروم باتنة
حلمها كان تحويل مكتبتها إلى الجزائر
أوضح الهادي بوراس أحد أصدقاء الراحلة المرحومة جمعة جغلال وهو رئيس جمعية ثامزغا أوراس فوروم باتنة؛ بأن الجمعية خصصت برنامج الاحتفالات بيناير لتكريم الراحلة جمعة جغلال إلى جانب عمار نقادي وحمودة حيزية وشخصيات أخرى من المناضلين والباحثين في التراث والثقافة الأمازيغية والتاريخ الجزائري حتى يتم التعريف بتلك الشخصيات للأجيال الصاعدة وكي تبقى أسماؤهم خالدة و شخصياتهم أمثلة يقتدى بها.
ويتذكر الهادي بوراس مواقف كثيرة عن جمعة التي عرفها واحتك بها في فرنسا خلال سنوات التسعينات من القرن الماضي، وأكد بأن حلمها إلى جانب المناضل والباحث في التراث والثقافة الأمازيغية عمار نقادي هو تحويل مكتسباتهما من كتب ومراجع أفنيا عمراهما في جمعها بالخارج إلى بلدهما الجزائر حتى يستفيد منها الطلبة والباحثون في تاريخ الجزائر، وأضاف بأن جمعة وفي السنوات الأخيرة قبل وفاتها وبسبب معانتها مع المرض كانت قد ألحت على تحقيق حلمها موصية رفاقها بعد أن فوضت كل من صادق خبري وصالح لغرور بالتكفل بمسألة تحويل كل ما تحتويه مكتبتها من كتب ومراجع ومخطوطات وصور على جامعتي باتنة وخنشلة.
وتأسف رئيس جمعية ثامزغا أوراس فوروم لتأخر عملية تحويل كتب جمعة جغلال وكذا عمار نقادي على الجزائر رغم موافقة وزارتي الثقافة والخارجية بعد أن ظل الغموض حسبه يكتنفها مؤكدا تلقيها وعود لتحويل مراجعها ومخطوطاتها على جامعتي باتنة وخنشلة والأرشيف الوطني، مشيرا لمبادرة طلبة باحثين مقيمين بأوروبا بعملية الترقيم الالكتروني لجزء مما تحتويه مكتبة جمعة قبل وفاتها ، وأشار الهادي بوراس لاحتواء مكتبة جمعة جغلال لوحدها على أزيد من ثلاثة آلاف مرجع ومكتبة عمار نقادي على أزيد من ألفي مرجع حول تاريخ الجزائر بصفة عامة ومنطقة الأوراس بصفة خاصة.
واعتبر الهادي بوراس بأن حب جمعة لمنطقة الأوراس وتمسكها بهويتها الأمازيغية ووطنها الجزائر رغم هجرتها نحو فرنسا وهي طفلة صغيرة أمر طبيعي بحكم انتمائها لأسرة ثورية كون والدها كان مناضلا في فرنسا في صفوف الأفلان ونشأتها داخل أسرة محافظة على قيم وتقاليد سكان الأوراس، وقال بأنها ظلت تزور الجزائر من فترة لأخرى بعد الاستقلال، وأكد بدوره رئيس جمعية ثامزغا على كرم جمعة وفتحها لأبوابها للراغبين في الاستفادة من مكتبتها تنوريهم بالمراجع عن تاريخ الجزائر سواء تعلق الأمر بجزائريين أو أجانب مشيرا لمدها يد العون لباحثين جزائريين وأجانب على غرار جمعية أصدقاء الثورة التحريرية بإيطاليا الذين أجروا بحثا حول ثورة أوراس النمامشة.
مالك بوجلال دكتور في لسانيات الأمازيغية بجامعة باتنة 01
لم تبخل على الطلبة الجزائريين بالمراجع و الوثائق
أكد الدكتور مالك بوجلال المختص في لسانيات الأمازيغية بجامعة باتنة 01 وهو أحد الأصدقاء والمقربين من الفقيدة جمعة جغلال، بأن اهتمام المرحومة بتاريخ الجزائر وتحديدا في الحقبة الاستعمارية الفرنسية للجزائر والثورة التحريرية نابع من حبها لوطنها وإدراكها بشكل جيد لأهمية التاريخ في التواصل بين الأجيال ما جعلها تكرس حياتها في البحث عن الحقائق بجمع المراجع والكتب ومختلف الوثائق والصور للتوثيق لتلك الحقبة ومن ثم تنوير الأجيال المتصاعدة بالتاريخ الجزائري. ووصف بوجلال جمعة بالمرأة العظيمة التي فقدت الجزائر بوفاتها مناضلة وطنية غيورة على وطنها وهويتها الأمازيغية، وذكر الدكتور بأن الراحلة وقفت بجانبه خلال تواجده بفرنسا وكانت لا تبخل على كل الطلبة والباحثين بمراجعها من الكتب التي كانت تشتريها بحُر مالها حتى شكلت في منزلها مكتبة ضخمة، وقال الباحث الأكاديمي في لسانيات اللغة الأمازيغية بأن جمعة جغلال وناهيك عن الجانب العلمي والثقافي الذي كانت تتمتع به من خلال اهتمامها الواسع والكبير بتاريخ بلدها الجزائر فهي ذات قلب واسع وحنون وقال بأنها كانت محبة لكل الناس.
رشيد حماتو صحفي مهتم بالتاريخ والتراث الأمازيغي ورفيق الراحلة
اهتــــماماتها تــــجاوزت اللغــــة إلى المـــوروث
أكد الصحفي رشيد حماتو، وهو أحد رفاق الراحلة جمعة جغلال،بأن الفقيدة يجب استذكارها مستقبلا وعدم نسيانها، من أجل دراسة أفكارها الرامية للحفاظ على الذاكرة الوطنية والتشبث بالهوية الأمازيغية، وهو ما اعتبره أحسن تخليد لذكراها، وقال الصحفي رشيد حماتو المهتم بالتاريخ والموروث الأمازيغي بشمال إفريقيا، بأن جمعة التي كان قريبا منها، كانت شخصيتها تعكس المرأة الأوراسية القوية الشخصية،ولم يخف رشيد اختلافه في بعض الآراء مع جمعة في عدة قضايا كان يخوض معها النقاشات، غير أنه كان يتفق معها في الأهداف الرامية للحفاظ على الذاكرة التاريخية الوطنية والهوية الأمازيغية.
وأشار حماتو، إلى أن مفهوم الحفاظ على الهوية الأمازيغية عند جمعة جغلال، لا ينحصر في اللغة فحسب، وإنما يتجاوزها إلى كل ما هو موروث مادي ولامادي، ويتجسد مفهومها أيضا بالنسبة لها في البعد الحضاري للموروث الأمازيغي المتجذر في منطقة شمال إفريقيا منذ قرون خلت، مشيرا لإيمان جمعة في أن الهوية الأمازيغية، لطالما كانت مستمدة من حضارة ذات بعد متوسطي وإفريقي وهي بحاجة للبحث والحفاظ على موروثها، مضيفا، بأن جمعة كانت تؤمن بالأمازيغية التي هي امتداد لثورة مصطفى بن بولعيد وبن مهيدي ما جعلها تبحث عن كل ما له صلة بتاريخ الثورة التحريرية. الصحفي رشيد حماتو الذي عرف الراحلة بفرنسا،أكد تمسكها وحنينها الدائم لوطنها الجزائر وخاصة مسقط رأسها الأوراس، مشيرا إلى أن حنينها يظهر لمجرد أن تشم رائحة من الأوراس أو لون رمزيا له أولباسا تقليديا ولكل ما يرمز له، فكانت دمعتها سرعان ما تنهمر لمجرد شيء قد يذكرها بالأوراس، وهو السر وراء تقفيها لتاريخ وطنها بالخارج وسعيها للحفاظ على الذاكرة.
ويؤكد رشيد على أن جمعة، كانت مناضلة من دعاة تحرير المرأة، وهنا أشار إلى أن مفهوم الحرية عندها لم يكن يعني ذلك التحرر في اللباس أو في الشكليات أو المساس بالأخلاق، وإنما حريتها في مساعدة الرجل والوقوف بجانبه مثلما كانت المرأة الأوراسية تفعل في الماضي عندما تقف وتساعد الرجل في مشاق الحياة،ومما يتذكره رشيد من المواقف التي حزت في قلب جمعة لما سرد لها، هو مشاهدته لزوجة تقف وهي تصد بظهرها أمام موقف للحافلات بإحدى القرى في حين أن زوجها هو من يقف بصدره ليطلب توقف الحافلة، وهي مظاهر تعتبرها كبت لحرية المرأة في التعبير عن نفسها.
وخلص الصحفي المهتم بالتاريخ والتراث الأمازيغي بشمال إفريقيا بدعوته إلى ضرورة عدم نسيان جمعة، مؤكدا بأن أحسن تخليد لذكراها هو مواصلة السير على دربها في الحفاظ على الموروث الأمازيغي الذي هو تشبث بالهوية ودراسة أفكارها.
جمال قتالة إعلامي مقيم بمرسيليا صديق للفقيدة
كانت تحذر من استغلال الأمازيغية لتهديد استقرار و وحدة الجزائر
أكد الإعلامي، جمال قتالة أحد أصدقاء الراحلة جمعة جغلال، بأن الفقيدة طالما كانت تحذر المناضلين الغيورين على الهوية الأمازيغية، من الوقوع في مغبة الاستغلال المباشر أو غير المباشر للأمازيغية للمساس باستقرار ووحدة الجزائر، خاصة من طرف الصهاينة وأعداء الجزائر، مؤكدا أيضا بأن جمعة كانت متشبعة بالروح الوطنية حتى النخاع وكانت غيورة على الهوية الأمازيغية عاشقة للأوراس. يتذكر جمال قتالة المقيم حاليا بمرسيليا، مواقف عديدة تعكس وتبرز تمسك جمعة بجذورها وغيرتها على وطنيتها خلال أوقات أمضاها إلى جانبها بباريس، حيث أقامت بعد أن غادرت بيزانسو، ومن بين هذه المواقف أنها راحت توصيه بعدما أخبرها بأنه سيشارك في ملتقى واسع حول الأمازيغية بتونس من مغبة الوقوع في الاستغلال للمساس بوحدة الجزائر واستقرارها، وفي سياق متصل أشار جمال إلى اهتمامها بالتاريخ الوطني وتاريخ منطقة الأوراس على وجه الخصوص ما جعلها تقتني كل الإصدارات والكتب النادرة التي تتطرق لتاريخ الأوراس. وأشار رفيق الراحلة إلى أن مسكن جمعة لم يعد يتسع لكتبها، بعد أن جمعت الآلاف منها ورصتها في طوابق في كل زاوية وركن من منزلها، وقال بأنها كانت تشتري الكتب من المكتبات وكذلك من باعة الطرقات الذين يحوزون النسخ النادرة، منوها بحنكة وذكاء جمعة، التي يتذكر أنها قالت له بأنها تهدف من شراء كل تلك الكتب حول تاريخ الأوراس حتى تصبح لها قيمة عندما تكون مجتمعة لديها خير من أن تفقد قيمتها عندما تكون منتشرة في أماكن متفرقة. وكشف جمال قتالة رفيق الراحلة، بأن جمعة كان لها حلم مشترك مع رفيقها عمار نقادي لإنجاز “دار أوراس للكتب” والمتمثل في مكان يجتمع فيه كل من يبحث عن تاريخ الأوراس، وهي الفكرة التي قال بأنها لم تتجسد بسبب اصطدام جمعة جغلال وعمار نقادي بعراقيل حالت دون تحقيق ذلك الحلم بمنطقة الأوراس، ويتذكر جمال أن جمعة كانت وراء مساعدة الكثيرين من الجزائريين في بحوثهم وإعانتهم، مشيرا لمساعدتها له لما تنقل من بلجيكا نحو فرنسا هي وعمار نقادي وفي ذات السياق، أشار أيضا لتشجيعها على كتابة التاريخ بعد أن كانت وراء صالح لغرور من أجل كتابة مذكرات حول الشهيد عباس لغرور.
وأشار الإعلامي جمال قتالة، إلى العلاقة الوطيدة التي نشأت بين جمعة والباحثة الفرنسية جيرمان تيان، التي كانت تعرف جيدا منطقة الأوراس خلال الحقبة الاستعمارية وقبل اندلاع الثورة التحريرية.
حارسة الهوية
رحلت ابنة الأوراس الباحثة في علم الاجتماع جمعة جغلال، شهر نوفمبر من السنة الماضية عن عمر ناهز 70 سنة، بعد أن أمضت جل حياتها في النضال من أجل الحفاظ على الذاكرة التاريخية لوطنها الجزائر وللأوراس بصفة خاصة، بعد أن راحت تقتفي آثار تاريخ بلدها بفرنسا، فكانت تجمع الكتب والشهادات، وكانت أمنيتها وحلمها في السنوات الأخيرة، بعد أن مرضت تحويل هبتها مما جمعته من كتب ومراجع تاريخية الى وطنها وتحديدا لجامعتي باتنة وخنشلة حتى يستفيد منه الطلبة الجزائريون.
شاءت الأقدار أن تنتقل جمعة جغلال وهي طفلة صغيرة لم تتجاوز الخامسة من العمر رفقة والدها إلى منطقة بيزانسو الفرنسية بعد أن أصبحت يتيمة الأم، ولم يقطع انتقال جمعة إلى فرنسا من دوار أنسيغة الذي ولدت به بخنشلة، صلتها بوطنها الأم الجزائر وبهويتها الأمازيغية، حيث ظلت متمسكة بتقاليد عائلتها وثقافتها بما فيها لغتها الأمازيغية، وكانت مدافعة ومناضلة عن مختلف ثوابت الهوية الجزائرية بما فيها الأمازيغية، ويُجمع كل من عرف جمعة بأن تمسكها بهويتها كان بسليقتها الطبيعية، فكانت شخصيتها انعكاس للمرأة الأوراسية الأصيلة المتمسكة بجذورها. وعُرف عن جمعة أيضا ناهيك عن كونها المرأة الباحثة المثقفة إنسانيتها من خلال طيبتها وأخلاقها العالية التي كانت تتميز بها، فكانت كما يؤكد من عرفوها وعاشوا معها على غرار صديقها ربيعي مباركي لا تعرف الكره أو الحقد، وقد دفع حب جمعة لوطنها الجزائر ومنطقة الأوراس بصفة خاصة، حيث مسقط رأسها إلى البحث عن كل ما يتحدث عن الجزائر في الخارج، فكانت تشتري ما تجده من كتب ووثائق وصور من حر مالها حيث كانت إطار شغلت عدة مناصب في عدة وزارات بالحكومة الفرنسية، ولم تكن تبخل الباحثين في الاطلاع والاستفادة مما تحوزه من مراجع عن تاريخ الجزائر بمكتبتها التي تضم حسب أصدقائها أزيد من ألفي عنوان ناهيك عن صور نادرة لمنطقة الأوراس تعود لبدايات القرن الماضي. يصف كل من يعرف الباحثة الجزائرية ابنة الأوراس الراحلة جمعة جغلال، بأنها ذاكرة حقيقية لمنطقة الأوراس هي ورفيقها المرحوم عمار نقادي كونهما سخرا حياتها في المهجر، في البحث وتقفي تاريخ الجزائر بجمع الكتب والمراجع، وهو ما مكن جمعة لوحدها من إنشاء مكتبة ضخمة تحصي أزيد من ألفي كتاب منها ما هو نادر لم يعد مسكنها بفرنسا يسعها. وناهيك عن اقتفاء الراحلة الباحثة جمعة جغلال لتاريخ الجزائر، وتحديدا تاريخ الحقبة الاستعمارية الفرنسية من خلال جمعها للكتب، ومختلف الوثائق فقد سمح لها بحثها أيضا من التعرف على باحثين ومؤرخين كانوا قد درسوا وبحثوا في فترة تواجد الاستعمار الفرنسي بالجزائر، ومن بين هؤلاء الباحثة الفرنسية في علم الاجتماع والأنثربولوجيا جيرمان تيان التي كانت متواجدة بمنطقة الأوراس خلال الحقبة الاستعمارية، وأتاحت فرصة تعرف واحتكاك جمعة بالباحثة الفرنسية من الحصول على صور بريدية نادرة لفترة الثلاثينيات من القرن الماضي تخص منطقة الأوراس وكيفية عيش السكان آنذاك.
ومكن احتكاك جمعة بالفرنسية جيرمان تيان من جمع أرشيف عن منطقة الأوراس، بالإضافة لجمعها لشهادات من مؤرخين آخرين ترغب في تسخيره لفائدة الباحثين للحفاظ على الذاكرة الجزائرية. كان حلم وأمنية الباحثة جمعة جغلال، أن تُحول كتبها التي جمعتها طيلة خمسة وعشرون سنة على الجزائر، وتحديدا إلى جامعتي خنشلة وباتنة حتى يستفيد منها الطلبة الجامعيون، كما أوصت الباحثة الجزائرية جمعة جغلال بعد أن أصيبت بمرض مزمن في السنوات الأخيرة، وبعد أن شعرت بأن الموت قد يداهمها في أي لحظة بأن تدفن إلى جانب ابنها الذي دفن بمقبرة خنشلة.
توفيت باحثة علم الاجتماع الجزائرية جمعة جغلال، وتم تطبيق وصيتها بدفنها في تراب وطنها حيث مسقط رأسها إلى جانب قبر ابنها بخنشلة، غير أنها فارقت الحياة دون أن ترى حلمها يتحقق بتحويل مكتبتها الى الجزائر رغم تفويضها لمقربين منها التكفل بالعملية حتى بعد وفاتها، حيث لايزال تحويل تلك المكتبة متوقفا رغم الاتصالات والإجراءات التي تمت حسب رفاق الراحلة، الذين أكدوا لقاء جمعة للممثل عن السفارة الفرنسية بالجزائر وكذا إجرائها لاتصالات مع مسؤولي وإطارات جامعتي باتنة وخنشلة. ويتأسف رفقاء درب الباحثة جمعة جغلال لتأخر عملية تحويل مكتبتها التاريخية إلى وطنها، مؤكدين القيام بالإجراءات اللازمة غير أنهم لم يفهموا أسباب التأخر خاصة وأن العملية حظيت بموافقة الجهات الوصية، وفي ذات السياق أوضح رئيس جامعة باتنة 01 لـ"النصر" بأن إدارته كانت قد بذلت مجهودات غير أنها اصطدمت بعراقيل تتعلق بفرض التعامل بالعملة الصعبة في تحويل الكتب وكذلك تعقيدات أخرى حسب ذات المسؤول مؤكدا بأن تحويل الكتب مسألة وقت.
يـاسين عبوبو