عسكريان متقاعدان يؤسسان مملكة الورود بعين رقادة جنوب قالمة
بإحدى زوايا بلدة عين رقادة الصغيرة جنوب قالمة، قرر برهان سهتال و صديقه عادل طريفة بناء مشتلة صغيرة للأزهار و نباتات الزينة، وسط بيئة ريفية أقرب إلى الصحراء يزورها الاخضرار في كل سنة مرة، ثم يختفي عندما تبدأ حقول القمح الشهيرة في النضج و التحول إلى البياض و السواد، قبل موعد الحصاد.
صديقان كأنهما توأمان تعلما فنون البستنة في صفوف الجيش الوطني الشعبي و تابعا تقنيات التصفيف و الغرس بحدائق العاصمة و حصلا على كثير من المعلومات حول أصناف الزهور و نباتات الزينة من مطالعة المجلات و زيارة مواقع الإنترنت التي تعنى بهندسة الحدائق، فتكون لديهما رصيد من المعارف و زاد شغفهما و حبهما لكل أخضر جميل يبعث الراحة و الاطمئنان في النفوس و يضفي السعادة على البيوت و يحيل الشوارع و الأزقة إلى فضاءات جميلة تسر الناظرين.
كانت يوميات التقاعد لديهما ثقيلة، طويلة و مملة، فقررا تغيير الواقع و إطلاق مشروع مشتلة الزهور من العدم، كانت لديهما فقط المعرفة و الإرادة و كان عليهما أن يخوضا تجربة صعبة وسط بيئة قاحلة و مجتمع لا يعير اهتماما للورود التي تنمو وسط قطع من الجبس و الطين و البلاستيك و تحت بيوت شفافة تنتج أجود و أغرب أنواع الورد و النباتات القادمة من وراء البحر.
صار الحلم حقيقة شيئا فشيئا، و أعلن الصديقان “التوأمان” عن ميلاد مملكة الأزهار و نباتات الزينة بعين رقادة البعيدة عن مظاهر الحضارة و التمدن، فبها يوجد مجتمع زراعي و رعوي يخوض صراعا مريرا مع الطبيعة من أجل البقاء.
كان الرهان في البداية صعبا، يقول برهان سهتال، 38 سنة، و هو نفس عمر صديقه عادل أيضا “كانت لدينا المعارف الكافية و الأفكار الجاهزة للتطبيق و ما كان ينقصنا هو قطعة أرض و مياه و بعض الوسائل البسيطة و بذور لأصناف مختلفة من الأزهار و نباتات الزينة، هذا فقط ما كان ينقصنا لوضع حجر الأساس لمشروع صغير، سيتحول إلى حدث كبير بعين رقادة و يأتي إليه الناس من كل مكان”.
قبل أربعة أشهر لم تكن هنا حديقة ساحرة، و لم يكن هنا بئر تتدفق منه المياه العذبة بلا توقف، الإرادة وحدها التي حققت كل هذا و صارت مملكة الورود بعين رقادة على كل لسان، يأتيها هواة النرجس و الياسمين من كل فج عميق للشراء، و أحيانا بدافع الفضول لرؤية عجائب الهندسة الخضراء و أشكال نادرة من عالم الطبيعة المليء بالأسرار.
في غضون 4 أشهر، تفتح الورد و تشكلت كائنات غريبة من نباتات الزينة الثمينة و حان موعد الافتتاح و مواجهة الواقع الصعب، واقع السوق و التسويق الذي قهر كبرى الشركات و وضعها على حافة الإفلاس، و كان على الصديقين العاشقين للورد و الجمال الطبيعي الساحر، أن يواجها هذا الواقع و يبحثا عن عشاق الزهور و هندسة الحدائق و نباتات الزينة بكل الوسائل الممكنة، حتى يذيع صيت المشتلة الصغيرة و تصير على كل لسان.
يقول برهان للنصر “ كانت البداية مع نساء عين رقادة اللائي صنعن المفاجأة و أقبلن بشغف على شراء الورد و نباتات الزينة، لإضفاء البهجة و السعادة على بيوتهن، ثم التحق بهن الرجال و الشباب و صارت المشتلة قبلة لسكان البلدة الريفية الهادئة و بلغت أخبارها إلى خارج عين رقادة ، ثم إلى خارج إقليم الولاية، بعد الاستعانة بمواقع التواصل الاجتماعي التي يديرها شباب عين رقادة ببراعة و اقتدار، و أصبح نشاطنا منتشرا على نطاق واسع و زاد عدد الزبائن و الزوار، لقد تحقق حلمنا و نحن نفكر في توسيع المشروع لإنتاج أزهار الأعراس و المناسبات و أشجار الزينة و إطلاق نشاط الديكور و تجهيز سيارات العرسان، ربما يتوسع نشاطنا قريبا و نحول عين رقادة إلى مملكة حقيقية للورود، عندما تصبح هذه الهواية تقليدا في كل منازل بلدتنا الصغيرة”.
و ينفق برهان و صديقه عادل المال الكثير لشراء البذور و أنواع من التربة لغرس أزهار و نباتات لكل فصل من فصول السنة الأربعة، فهناك أزهار الربيع و أزهار الصيف و أزهار الخريف و الشتاء و نباتات الظل و الضوء، و هناك أيضا أشكال و مجسمات بديعة من الكائنات الخضراء مصطفة في نظام بديع داخل الحديقة الساحرة التي جمعت أصنافا محلية و أخرى من وراء البحر، كلفت برهان و عادل المال و الجهد المضني لجعلها تنمو هنا في بيئة عين رقادة و تأتي أكلها و تصير كائنا جميلا يضاهي كائنات أشهر الحدائق العالمية.
لم تعد عين رقادة مملكة للقمح و رعاة الغنم فقط، كما كانت منذ أمد بعيد، هي اليوم تستعد لميلاد قطب للورود و جيل جديد من الشباب يبعث الأمل من العدم و يؤسس لمستقبل واعد، تمتزج فيه حقول القمح و المراعي بحقول الورد القادم من وراء البحر، ليستوطن الأرض الطيبة التي تعطي خيراتها بسخاء و بلا حساب.
فريد.غ