في بلادنا 40 مليون مدربا ، ونحن بحاجة إلى لاعبين فقط
ليست نهاية العالم أن تخسر الجزائر تنظيم كأس أفريقيا . أو تنظيم أي تظاهرة مماثلة . دول لها خبرة وإمكانيات ونفوذ أكبر من الجزائر خسرت إستحقاقات ربما أهم وأكثر من تنظيم كأس إفريقيا ( دون التقليل من شأن هذه التظاهرة الأخيرة طبعا ) كالتنافس على تنظيم كأس العالم أو تنظيم الألعاب الأولمبية ، أو حتى تجمعات دولية أخرى غير الرياضة ، ومع ذلك لم يتصرف إعلامها وسياسيوها و " شارعها " على النحو الذي نشهده اليوم من حملات وإنتقادات وتهجم وإستصغار للمشرفين على ملف ترشح الجزائر لإحتضان وتنظيم كأس أفريقيا للأمم 2017 ، بل وتحميل شخص بعينه مسؤولية الفشل في الفوز بتنظيم الدورة . المثير أن هذا الشخص بعينه كان " شوشو " ومدللا وممجدا من طرف هذه الوسائل الإعلامية نفسها ، على أنه الأكفأ والأجدر والأقوى والوحيد الذي يصنع مجد المنتخب الوطني وتطور كرة القدم الجزائرية ؟ .
إن رغبتنا وشغفنا الشديد وحلمنا في الفوز بشرف التنظيم لا يعطينا الحق في التشنج والغضب والإنحراف أو في فقدان أعصابنا ورباطة جأشنا ، أو في التجريح والخروج عن الأعراف والإتهامات العشوائية والجزافية للذين حرمونا من هذا الحلم وهذه الرغبة عمدا أو لسبب لا نعلمه ( سواء عن حق أو زورا وتحيزا ) . هذه الشتائم والإتهامات التي لم يقدم أصحابها دليلا واحدا قد تتسبب لنا في عقوبات نحن في غنى عنها ولسنا بحاجة إلى فتح جبهة ضد الكاف من أجل دورة لكأس إفريقيا . ثم أن تترشح أو تقدم ملف ترشح لا يعني بالضرورة أنك الفائز مسبقا . للأسف أننا مازلنا بإستمرار نتصرف بنفس الأخطاء ولا أقول القناعات ، على أننا الأجدر والأفضل والأقوى والأولى من غيرنا من الشعوب . هذه الأنفة والإعتقاد ليس عيبا في أصله . وأن يكون شعورنا على هذا النحو من الإحساس مشروع ، لكن أن يتعدى ذلك ليصبح قناعة نحاول فرضها ، وإجبار الآخرين على قبولها فهذا هو عين الخطإ الذي كثيرا ما بات يسبب لبلادنا متاعب في عديد المحافل واللقاءات. ووراء مواقف معادية ومناوئة لنا في أكثر من ملف ومناسبة قارية أو دولية . أن ننظر بهذا الشكل والتصرف يعطي الشعور للآخرين وكأننا نتعامل معهم بإستعلاء أو أوصياء ، أو كأننا أفضل وأجدر أوأحق منهم . والمنطق المألوف هو أن تعامل الناس على " حد عقولهم". والحكمة أن تتصرف بحسب الظروف والإمكانيات المتوفرة .
أستحضر في هذا السياق ، ما قاله المدرب الوطني السابق حاليلوزيتش الذي ترك إنجازاته وبصماته ليس في مشوار المنتخب الوطني والكرة الجزائرية فحسب ولكن حتى لدى الجزائريين عموما خارج كرة القدم كشخصية نافذة وكفاءة متميزة ، حيث قال : " إنني وجدت في الجزائر 40 مليون مدربا مختصا في المنتخب الوطني ، بعضهم لا يعرف حتى قلب الهجوم من قلب الدفاع ، ومع ذلك ينتقد برنامج التحضيرات والخطة الهجومية أو الدفاعية التي نعدها في كل مقابلة " . تصريح ( الناخب الوطني السابق الذي نعتقد أنه أفضل مدرب أجنبي مر على رأس الفريق الوطني منذ الروسي المرحوم روغوف وتسبب أشباه الإعلاميين والمحللين والذين يدعون في العلم فلسفة في مغادرته ) ، يعبر عن مرارة حاليلوزيتش ودرجة الضغوط أوالتشويش الذي كان يعانيه من إنتقادات غير مؤسسة ولا علاقة لها بالرياضة وكرة القدم ومع ذلك يخوض أصحابها مع الخائضين ويقدمون النصائح والتحاليل وما يجب فعله ، وما لا يجب فعله دون أدنى تبريرات أوحجج علمية...؟. كما أن تصريح المدرب البوسني السابق ، يمكن أن يعمم تطبيقه على مختلف القطاعات وعلى مختلف درجات تولي المسؤوليات .
نحن الجزائريين نفهم في كل الأمور والقضايا . بل نعطي الإنطباع بأننا نفهم أكثر من غيرنا . وأن لنا في كل قضايا الدنيا والآخرة باع طويل . لا نستعسر شرح أو إعطاء تفسير لما قد يعجز عن فهمه كبار الفقهاء والعلماء والباحثين والأطباء الذين أفنوا حياتهم وأوقاتهم في طلب العلم والمعرفة ، ومع ذلك يرفضون وصفهم بالعلماء ، أو يقدمون أنفسهم على أنهم وسعوا ما في السماوات وما في الأرض . لكن في بلادنا فإن أبسط جزائري يمكنه أن يفسر لك لماذا تشرق الشمس من الشرق ولم تشرق من الغرب ؟ . وأسباب إختلاف الليل والنهار وعذاب القبر . وقد يعطيك بائع للنباتات والحشائش هكذا دون تردد أسباب السرطان ، رغم عجز العلماء والباحثين في التوصل إلى ذلك . أويسعى آخر لا يحمل من الشهادات غير شهادة الميلاد ، إلى إقناعك أيضا دون خجل بأنه يستطيع عن طريق " الرقية " أن يحولك من فقير إلى أغنى الأغنياء ( رغم أنه شخصيا لا يملك عشاء ليلة ) . ويقنعك بأنه يستطيع أن يخرج منك الجن الصغير والكبير . رغم أنه لم يستطع أن يخرج نفسه من الفقر أو التخلف والجهل . والمثير والمؤسف أن الناس يصدقون هذا ويتهافتون على المشعوذين والسحرة والدجالين ، ثم يقيمون الصلاة متناسين أنها تنهى عن هذه المعتقدات والإنحرافات . في بلادنا ألغيت كل القيم والحدود بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون . فأبسط مواطن ، حتى وإن لم يدخل مدرسة في حياته ، يحدثك دون خجل بأنه قادر على تسيير جامعة ، أو مؤسسة أو بلدية أو مستشفى ، أو حتى قيادة دولة ووزارة ،،،
أعود إلى بداية الموضوع لأتساءل : لماذا أقام الناس الدنيا ولم يقعدوها بسبب عدم إختيارنا لتنظيم كأس إفريقيا ؟ . هل هي نهاية العالم ؟ ، أم هل مصير الجزائر معلق بكأس إفريقيا إلى هذا الحد ؟ . لم أقرأ أو أستمع إلى رأي أو تحليل واحد لامس ما يجب أن يطرح وما يجب أن يقال .
لماذا نحن الجزائريين دون سوانا من شعوب المعمورة ، نقدم على الدوام أننا دائما مستهدفون ؟ . ربما ببساطة لأننا نربط إستحقاقاتنا دائما بمنطق الحرب . ومازال مقياسنا يرتبط بالماضي أكثر من تطلعنا إلى المستقبل . في المجال الرياضي على سبيل المثال لم نستطع في مرجعيتنا وأثناء الحديث عن إنتصاراتنا وإنجازاتنا تخطي منتخب 1982 . رغم أن ما تحقق مع حاليلوزيتش لم يتحقق من قبل أداء ونتائج وترتيبا دوليا وقاريا .
لكن فيما يبدو أصبح التنكر لإنجازات الآخرين سمة تميز سلوكاتنا نحن الجزائريين . وأصبح الجحود يطبع مواقفنا دون أدنى تذكر أو إستحضار لفضائل وتضحيات الآخرين . ثم لماذا نحن دائما نتصرف بمنطق يحمل صفة تقارب الألوهية على قياس " كن فيكون " ؟ . أي أننا دائما مستعجلون بشكل يحمل التسرع وليس السرعة ؟ .
فرنسا تقدمت ثلاث مرات بملف ترشح لتنظيم الألعاب الأولمبية ، ولم تتمكن من الفوز ولو مرة واحدة . ومع ذلك لم تتهم سلطاتها ومسؤولوها اللجنة الأولمبية بالتحايل أو بتهمة أخرى . فرنسا تحاول مجددا الظفر بتنظيم دورة للألعاب الأولمبية . رئيسة بلدية باريس أعطت موافقتها على دعم طلب تنظيم هذه الألعاب عام 2024 . وستقوم بتقديم طلب رسمي للجنة الأولمبية عام 2017 ، أي يقدم الطلب بعد عامين ، وتجري الألعاب بعد سبع سنوات . أردت أن أبرز وأبين الجدية في تقديم الملفات. مع أنه بإمكان فرنسا الغنية والقوية بإداراتها ومنشئاتها أن تختصر كل هذا الوقت . لكن التعامل مع كثير من الملفات والقضايا في بلادنا يتم كما أننا بصدد شرب قهوة .
نتخذ القرار ثم بعد ذلك نبحث إن كان صائبا أم لا ؟ وهل كان مفيدا أم لا ؟ . دراسة الجدوى في إسناد المشاريع في كثير من الأمور هي آخر إهتماماتنا . لأننا نهتم أكثر بالنتائج والشهرة ولغة الإنتصارات عن صيرورة الأشياء ومدى دوامها وصلابتها . يعني أن إهتمامنا ينصب عن ميلاد المشروع وليس عن نجاح مسعاه . فلا غرابة بعد ذلك أن تتكدس المشاريع على الورق وفي الرفوف أو ما بات يعرف بلغة الأرقام ، لكن لا نجد لها أثرا في الواقع أو على الأقل الجزء الأكبر منها . وكذلك القرارات . ومن ثمة لم يعد أمرا مجهولا أو إستثناء أن يحصل إجماع على أن المشكل ليس في سن القوانين ولكن في تطبيق تلك القوانين . آخر ما أثار الصحافة والإعلام قرار بن يونس في تحرير تجارة الخمور ، والذي أثار الشارع والإعلام ، قبل أن يقدم الوزير الأول على إلغائه . هذا يعني ببساطة سوء تقدير من جانب الوزير ومصالحه . وعدم القيام بما يجب القيام به قبل إتخاذ القرار من إستقصاء للرأي العام حتى لا يعطي الإنطباع على أن الحكومة غير منسجمة ( وهو ما ذهبت إليه بعض الصحف الصادرة أمس ) ، أو على الأقل تفاديا للحرج وإعطاء الشعور بالإرتجال والتسرع في إتخاذ قرارات بهذا الوقع والتبعات الإجتماعية . رغم أن المنطق التجاري والرغبة في الإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية ، وحتى الرغبة في التوجه السياحي تعطي مبررات كافية لوزير التجارة على أنه إتخذ ما يجب القيام به كوزير للتجارة في بلد يسير نحو تحرير إقتصاده في سياق إقتصاد دولي حر.
لا أحد طرح سؤالا جديا في خلفيات قرارعدم منح تنظيم دورة كأس أفريقيا إلى الجزائر . وكعادتنا نحن الجزائريين كلما تعذر علينا جمع المعطيات أو فهم تفاصيل ما حدث ، نسارع إلى إيجاد مشجب نعلق عليه ما عجزنا عن إستيعابه وفهمه . مؤسف أن نلصق كل شيئ برئيس الفاف الحاج روراوة ونحمله مسؤولية عدم إختيار الجزائر لتنظيم كأس أفريقيا ؟ . وكأن الحاج روراوة بيده ملكوت السماوات والأرض ؟ وبيده الأمر والنهي ، وبيده كل فيدراليات إفريقيا ... من السذاجة الإعتقاد أن تنظيم كأس إفريقيا أو كأس العالم هو مجرد تجمع رياضي ، أو ملاعب وفنادق وجمهور ، أو مجرد عملية إنتخابية ؟ . أقول لم يتعامل الإعلام بما يجب فعله ، أي بإحتراف دقيق مع ما حدث فعلا في القاهرة . ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام الأزمة الخطيرة التي باتت تتخبط فيها الصحافة الجزائرية أي مشكل الكفاءة ونقص الإحتراف . الجميع إختار الفهم البسيط أو سطحيات الأمور بما في ذلك وزير الرياضة .
الصحافة الرياضية توقفت عند نكسة ما أسفر عنه الصندوق وفرز الأصوات . مع أن الصناديق في العادة ليست أكثر من عملية الكشف عما تم ترتيبه قبل وضع الأوراق نفسها في الصناديق . أي إعلان ما تم الإتفاق عليه قبل الإنتخابات ، سواء سرا أو علنا . لم يتحدث أحد عن تفاصيل دفاتر الشروط وملفات الترشح . ولم يتحدث أحد عما قدمه كل بلد في ملفه . رئيس الفاف نفسه لم يعط أي تفسير أو توضيح عن أسباب رفض ملف الجزائر وقبول ملف الغابون . ومع ذلك سارعت الصحافة الجزائرية ومحللو الفضائيات بل وحتى مسؤولون رسميون ( وزير الرياضة ) إلى إتهامات مباشرة لرئيس الكاف دون تقديم أدنى إثباتات أو أدلة . وهذا يدرج في باب القذف والإفتراء ، قد يكلف الجزائر عقوبات هي في غنى عنها . الذين يتحدثون عن الرشاوي والفساد ، عليهم أن يقدموا أدلة وبراهين وإثباتات أو أن يصمتوا ويسحبون إتهاماتهم . المسؤولون الجزائريون المباشرون وأعني تحديدا المكتب الفيدرالي ، الحاج روراوة وجماعته هم المخولون قبل غيرهم بإعطائنا تفاصيل ما حدث . وأن يشرحوا لنا الأسباب الحقيقية التي فوتت على الجزائر تنظيم كأس إفريقيا . هل فعلا إستوفى الملف الجزائري المقدم كل الشروط والضمانات المطلوبة ؟ . ثم يبينوا لنا إضافات ومميزات الملف الغابوني الذي مكنته من إنتزاع الفوز . الصحافة الجزائرية جيشت الرأي العام وأعطت الإنطباع بأن تنظيم كأس أفريقيا من تحصيل الحاصل أي أن إجتماع القاهرة ليس أكثر من ترسيم القرار . وقدمت تنظيم كأس إفريقيا وكأنه حق لا ينافسنا فيه أحد ؟ . تماما كما حدث في كأس إفريقيا السابقة بغينيا ، حيث رسخت قناعة على أن المنتخب الوطني هو الأقوى وذاهب إلى غينيا للفوز بكأس إفريقيا . ومن فاز بالكأس بعد ذلك معروف . مشكلتنا أننا مازلنا – للأسف – لم نستوعب التطورالكبير والمتسارع والتحولات التي يشهدها العالم من حولنا في كل المجالات . إلى غاية نهاية الثمانينات ألصقنا المجاعة في تعابيرنا الشعبية ومزاحنا بأثيوبيا ، لكن هذا البلد تخطى فقره وتخلفه . أثيوبيا مرتبة تنمويا عام 2014 ضمن البلدان السبعة الأوائل إفريقيا . وكذلك التشاد ورواندا .قلت في عدد الخميس الماضي إن كثرة الأموال لا تجعلك بلدا متقدما ، إذا لم تتحرر الذهنيات ويصحب ذلك تطور في الموارد البشرية وحسن التسيير ومكافحة الفساد وتنمية المعايير الحقيقية للإقتصاد ...