جيران لا يعرفون بعضهم البعض و أسر متخندقة في البيوت
تتزايد وتيرة التباعد و التفكك الاجتماعي يوما بعد يوم، ليسيطر انعزال يصفه الأخصائيون بالمقلق، حتى أصبح الجيران لا يعرفون بعضهم، و يكتفي الغالبية منهم بإلقاء التحية دون الخوض في أمور بسيطة باتوا يرون فيها خصوصيات تمنع من الخروج ما وراء أسوار البيت، لغياب الثقة و خوف زائد من العلاقات خارج محيط العائلة، لتسقط العمل بأمثال شعبية و عادات الأجداد و حتى الأخذ بأحاديث نبوية توصي بجار أصبح أغرب من الغريب في زمن قلبت فيه الكثير من الآيات.
فالمتمعن في العلاقات الاجتماعية لا بد و أن يستوقفه الجفاء و القطيعة المسجلة في العلاقات فيما بين الجيران، الذين كانوا في وقت سابق أقرب من الأشقاء الذين يعيشون و كأنهم في بيت واحد بتلاشي جدران لا يرونها سوى حاجب لفترة النوم، غير أن كل ذلك قد تلاشى اليوم، ليرسم مجتمع جديد، حذف من قاموسه كلمة الجار، و ألغى العمل بالمقولة الشعبية «الجار قبل الدار»، و نسي وصايا جبريل عليه السلام لنبينا الكريم بهذا العنصر في المجتمع الذي قال عنه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم «حتى ظننت أنه سيورثه».
و يكفينا التقرب من العائلات الجزائرية، سواء كان أفرادها يقطنون عمارات أو بيوتا فردية، لنقف على حقيقة واقع يصفه كبار السن بالمؤلم، فالحاجة يمينة ذات الـ82 عاما، تقول بأن الفرق بين جورة زمان و جورة اليوم كالفرق بين السماء و الأرض، فالجفاء قد طغى على العلاقات، و بات النفور أكثر من التقارب، متسائلة عن الأسباب التي غيبت كل تلك القيم الجميلة التي ترى في أنها كانت من أهم العوامل التي ساهمت في إنجاح الثورة التحريرية، و قبلها في توثيق العلاقات فيما بين الجيران الذين كانوا يأكلون طعاما واحدا، و يأبى أحدهم إخفاء أي غرض عن الآخر، بل على العكس من ذلك، فالإستشارة و الفضفضة و حتى التحدث عن بعض الأسرار كانت من بين الأمور التي تزيد متانة هذه العلاقة الجميلة.
و ربما يشكل النمط العمراني الجديد، و الزحف نحو المدن الكبيرة التي رسمت عليها خارطة جديدة لتجمعات سكنية جديدة و كثيفة، تجمع مختلف الطبقات، الانتماءات و حتى الاختلاف الجغرافي، إحدى أهم العوامل التي ساهمت في اتساع الهوة فيما بين الجيران، إذ تنتقل يوميا مئات العائلات إلى سكنات جديدة، أنتجت نوعا من الخوف لدى العائلات من التقرب لبعضها، و جعلت كل واحد يغلق باب بيته الحديدي بإحكام، تفاديا لاحتكاكه بجار يقول السيد محمد ساكن بعمارة أنه لا يعرفه، و هذا عامل يدعوه للابتعاد عنه و الاكتفاء بإلقاء التحية لا غير.
السيدة وردة، التي تقطن أيضا بحي سكني من نمط التساهمي، تقول بأنها قررت عدم ربط علاقات بجيرانها الجدد، و الاكتفاء بعلاقاتها بجيرانها القدماء الذين ما تزال على تواصل معهم، فيما تروي سيدة أخرى حكايتها مع زوج منعها من التواصل مع الجيران الجدد لكثرة المشاكل التي باتت تنشأ بين الجيران، و نصحها بعدم فتح النافذة المجاورة لجيرانها لتفادي الحديث إلى أصحابه.
يشكل التباعد الاجتماعي فيما بين سكان الأحياء الراقية، كالتباعد الحاصل فيما بين البيوت بسبب تلك الحدائق التي تتجاور، فيما تتباعد الأسوار و الأرواح عن بعضها، فالمتنقل بين هذه الأحياء، لا بد و أن يلاحظ ذلك التباعد فيما بين سكانه، فالسيد شريف أحد سكان هذه الأحياء، يقول بأن كبر الحي و تباعد البيوت باعد بين العائلات، و ألغى العلاقات الجميلة فيما بين الجيران.
في حين تروي خالتي فاطمة، الواقع المرير الذي اصطدمت به لدى انتقالها لبيت في حي راق، متحسرة على ما وجدته من وحشة و ما افتقدته من دفئ ظل طوال عمرها كما تقول يزين حياتها و يجعل لها طعما، فحتى أبناؤها كما تروي لنا كانت جارتها تساعدها في تربيتهم، فهي من تتركهم عندها إذا كانت لديها مناسبة أو زيارة ما، علما أنهم يبيتون لديها في الكثير من الأحيان، أما اليوم فالخوف من الجار بات أكبر من الطمأنينة منه، و رسخ الكثيرون للعمل بمبدأ «أغلق باب دارك و بعد على جارك».
يتلمس المتعمق في علاقة الجورة عوامل كثيرة كانت الأهم في بناء علاقة متينة و دائمة، فدور المسجد و الإمام كما يقول عمي علي كان محوريا في القضية، إذ كانت صلاة الجماعة بمثابة همزة وصل و نقطة اجتماع يومية بين سكان الحي، الذين ينهون الصلاة بالسؤال عن بعضهم، و عن الغائب إن وجد، محاولين الاطمئنان عليه بحكم ما تربطهم من علاقات كانت أكثر من الأخوية، أما اليوم و باتساع التجمعات يضيف عمي علي، فقد غاب كل هذا، و أصبح كل من يصلي يسارع للخروج حتى لا يلتقي جاره أو أحد معارفه، فلا يسأل أحد عن آخر.
أما بالنسبة للشباب، فإن العوامل تختلف، و هم من استبدلوا كل هذا بشبكات التواصل الاجتماعي التي يرى الكثيرون بأنها زادت من عمق الهوة، و جعلت الجيران أكثر من الأغراب، إلا أنهم يعبرون عن أملهم في أن تلعب لجان الأحياء هذا الدور، للم شمل سكان الأحياء و جمعهم، و جعلهم على اطلاع بظروف كل واحد من السكان، الفقير منهم و المريض مثل السابق، في حين لا يعول آخرون على هذه المجموعة و يعتبرون بأن دورها مادي أكثر منه معنوي بالنظر لما يلاحظ اليوم بسحب تعبيرهم.
ترى الدكتورة في علم الاجتماع العيادي، معزوز بركو بوفولة، بأن تقهقر علاقة الجورة في المجتمع الجزائري ترجع بالدرجة الأولى إلى التغير الاجتماعي الذي يشهده العالم عموما، و الجزائر على وجه الخصوص على مستوى التهيكل الوظيفي، بالإضافة إلى التفكك الأسري و غياب النموذج داخل العائلة الواحدة.
كما تعتبر الأخصائية انهيار شبكة العلاقات الاجتماعية و النسق القيمي الذي كان يعمل على تماسك هذه العلاقات، من بين الأسباب المساهمة في غيابها، متحدثة في ذات السياق عما تعتبره إصابة للمجتمع الجزائري على مستوى ماكرو سوسيولوجي، بما يسمى الأتوميا اللامعيارية التي تعبر عن انهيار القيم التي تحكم تماسك المجتمع.
و تسلط الأخصائية الضوء على انتشار الآفات الإجتماعية المختلفة التي عجلت في انغلاق الأسر على نفسها و زيادة الحساسية للخوف من الآخر، بالإضافة لما لتأثير انتشار شبكات التواصل الاجتماعي التي جعلت العلاقات تأخذ تفضيل الطابع الافتراضي على الطابع الواقعي، كما تعدد العشرية السوداء و ما خلفته من آثار سلبية على المجتمع و نسقه العلائقي.
و للتمركز العمراني الكثيف في المدن خاصة، دور في جعل الحيز الحضري للأسر غائبا، مما كرس مبدأ الخوف من الجيرة كما تؤكده الدكتورة. و في انتظار إيجاد الحلقة المفقودة في العلاقة، يبقى التباعد و التنافر و كذا الخوف، السمة الغالبة في علاقة الجيران التي تتلاشى يوما بعد يوم.
إ.زياري