مدن ديهـيــا تخـتفـي تحـت أطنــان مـن الأتربــة بخـنشلــة
تحت أطنان الأتربة المترامية على سهول ولاية خنشلة، تختفي مدن يمتد عمرها إلى حوالي ألفي سنة أو أكثر وتعود لحقب مختلفة. وشكلت المدن المذكورة في مرحلة حاسمة من تاريخ الجزائر آخر معقل للمقاومة في شمال إفريقيا، بعد أن وحدتها القائدة الأمازيغية ديهيا، المُلقبة بالكاهنة، تحت لواء دولة واحدة استمر وجودها لسنوات قبل أن تسقط. ولم يبق من دولة الكاهنة اليوم إلا مجموعة من الأحجار المُطلة من تحت الأرض كأعلام تشير إلى أن ما تحتها أعظم شأنا، في انتظار من يوليها الاهتمام ويقوم بحفريات لاستخراجها وإعادة اكتشافها.
النصر قامت بروبورتاج داخل حدود ما يعتقد بأنها كانت دولة الكاهنة قبل أكثر من 13 قرنا، انطلاقا من مدينة أثرية غير معروفة تسمى حاليا بهنشير مرير إلى غاية عاصمتها ومركز القيادة بغاي.
وصلنا إلى وسط مدينة خنشلة حوالي الساعة العاشرة صباحا، حيث التقينا بمُرشدينا الأستاذ محمد الصالح أونيسي، المختص في تاريخ الأوراس وصاحب معجم للغة الأمازيغية، والأستاذ مسعود قجوف المهتم بالتراث المادي واللامادي، لكن الأخير اقترح علينا أن ننطلق في رحلتنا إلى بغاي من إحدى المدن التي كانت تابعة لها لكنها اليوم مجهولة بعد أن غمرتها الأتربة على مر التاريخ. نزلنا عند رغبته، حيث توجهنا من وسط المدينة واتخذنا الطريق الوطني رقم ثمانين المؤدي إلى منطقة فكيرينة، قبل أن نسلك المنعرج الأول على اليمين نحو حمام الكنيف، متبعين التوجيهات التي يقدمها لنا مرشدانا. بعد مسافة حوالي الكيلومترين أخبرانا بأننا وصلنا.
لم تبد لنا في البداية أية معالم أثار عند ترجلنا من المركبة، باستثناء بعض الأحجار القائمة على الأرض والمترامية فوق أرضية شاسعة ومستوية على ضفتي المسلك المؤدي إلى الحمام المذكور، لكن الأستاذين قادانا إليها سيرا على الأقدام، لنجد أنفسنا نقف فوق مدينة كاملة تبعث على الشعور بالانبهار. وقال الأستاذ قجوف إن المكان يُسمى “عبثا” في الوقت الحالي بـ”هنشير مرير”، لكنه يُدعى في الحقيقة فورييس، وهي كلمة أمازيغية مركبة من “فور” التي تعني المكان و”ييس” التي تعني الحصان، في حين تسمى باللاتينية “كازانغريدا”. وشدد المعني على أن تسمية فورييس هي التي أطلقت عليها في عهد الكاهنة، بعد أن جعلتها مقرا لتربية الخيول الخاصة بجندها وصناعة العتاد الحربي الخاص بكتائب الفرسان.
ولاحظنا في الموقع انتشارا لقطع الأواني الفخارية، على غرار فوهات الجرار والمقابض المستعملة في الجرار الكبيرة، لكن محدثينا تأسفا بشدة وهما يرياننا مجموعة كبيرة من الحفر المفتوحة بالقرب من الأحجار، حيث أوضحا لنا بأن لصوص الآثار هم من تسببوا بها خلال بحثهم عن القطع النقدية التي تعود إلى العهد الروماني أو ما بعده من أجل نهبها، مشيرين إلى أنهم يستعملون في حفرهم كاشف المعادن وينبشون الأرض عشوائيا في أي نقطة يرن فيها الجهاز.
وتوجد بالمكان بئر عميقة لا مياه فيها بعد أن ردم أسفلها بالتراب والحجارة، لكن محدثينا أكدا لنا بأن عمرها يصل إلى ألفي عام، كما أن الأخاديد المحفورة على جوانب حجارتها العلوية الضخمة جراء استعمال الحبال دليل على أنها استُغلت لمئات السنين، بحسبهما.
أما على الضفة الأخرى من مدينة فورييس، فوجدنا آثار أعمدة أسطوانية ما زالت شامخة، وغير بعيد عنها بحوالي بضعة أمتار يوجد حجران موضوعان بشكل عمودي ومتقاربان، حيث أخبرنا الأستاذ قجوف بأنه من المرجح جدا أن تكون الكاتدرائية، فيما يمثل الحجران ما تبقى من البوابة، كما تظهر بمحاذاتها أحجار مرتبة على شكل مستطيل، من الممكن أنه يمثل المنتدى، بحسب نفس المصدر، في حين غمرت الأتربة ما تبقى من المدينة ولم نتمكن إلا من رؤية بعض الحجارة المترامية بشكل عشوائي، من بينها جزء من قناة حجرية استعملت في جلب المياه من منبع طبيعي بواد قريب.
ولاحظنا بأن أرضية الضفة التي تضم الكاتدرائية طرية جدا، حيث قال مرافقنا إن بعض المواطنين استغلوها في الفلاحة خلال السنوات الماضية، قبل أن تقوم السلطات المحلية بمنعهم، لكن المعنيين أكدا على أنه لم يتم الاعتناء كما يجب بالموقع، الذي ينبغي أن تتم على مستواه حفريات كبيرة من أجل إعادة استخراج مدينة فورييس، حيث اعتبراها “عظيمة” ومعروفة لدى الباحثين لكنها مخفية تحت الأرض، على غرار تيديس بقسنطينة التي اكتُشفت بفضل شخص هاو كان يعمل في قطاع المحافظة على الغابات.
وانتقد الأستاذ قجوف شق طريق المركبات الحالي الذي سرنا عليه، فوق الموقع ما أدى إلى تخريب جزء مهم منه. وقد أرانا الأستاذ أونيسي حجارة ضخمة كانت تستعمل لعصر النبيذ، بالإضافة إلى جزء آخر من معصرة للزيتون، حُفرت بها دائرة تنتهي إلى خط مستقيم يقود الزيت إلى حافة الصخرة ليجمع في إناء، فالنشاط الأساسي لسكان المنطقة، بحسبه، كان الفلاحة. غادرنا فورييس ونحن نلتفت إلى الخلف لنلتقط في أذهاننا ما استطعنا من صور تخيلية عن حياة البشر في المدينة يوم كانت آهلة بالرومان، ثم البربر وهم يحضرون خيولهم للدفاع عن أرضهم ويعملون من أجل الحفاظ على حياتهم.
وقررنا المرور بحمام الكنيف، لكننا توقفنا قبل ذلك على الطريق بجانب مرتفع صخري يضم مئات القبور التي تعود إلى مرحلة ما قبل التاريخ ويدعى بالأمازيغية بـ”ثاغروث” وتعني الكتف، للشبه المُسجل بينه وبين هذا الجزء من جسم الإنسان كما رآه أصحاب التسمية. وبدا لنا الموقع عند النظر إليه من حافة الطريق صخورا ضخمة ملتصقة بظهر الجبل، بحيث أن أرواح المدفونين تحته تنتظر قيامه من مكانه ليرتفع بها إلى السماء.
ولم يكن التحرك فوق الحجارة الملساء سهلا في البداية، لكن عند وصولنا إلى نقطة أعلى لاحظنا بأنها مستوية نسبيا وعلى حافتها صفت مجموعة من الصخور في شكل خط مستقيم، فيما فرشت أخرى على الأرضية كنوع من البلاط الذي يمكن السير فوقه من أجل المرور عبر القبور. وشرح لنا الأستاذ أونيسي العناصر التي يتألف منها كل قبر، حيث يتم استخراج صخرة كبيرة تدعى بـ”الطاولة” وتوضع بشكل أفقي على حجرين آخرين يمثلان قائمتيها، في حين يتم سد الجهة الخلفية منها والأمامية بلوح حجري يدعى بـ”البوابة”، لكن المعني عزا اختفاء بوابات الكثير من القبور في الموقع إلى الأشخاص الذين نزعوها لاعتقادهم بإمكانية إيجاد كنوز بداخلها.
ونبه مرافقنا الثاني بأن بوابة الدولمن تكون دائما مقابلة لجهة شروق الشمس، لأن بشر تلك الفترة كانوا يعتقدون بأن الشمس هي المانحة للحياة، ولاحظنا فعلا بأن جميع القبور مرتبة بحيث تتجه صوب نقطة واحدة. وأضاف بأن استخراج الطاولة الحجرية الضخمة كان يتم من خلال إشعال النار في أسفلها وإقحام أداة حادة بها ما يجعلها تتشقق، حيث تبرُزُ إلى اليوم آثار سواد على الكثير منها. وأشار محدثنا إلى أن القبور لم تكن فردية، حيث توجد الكبيرة منها التي صُممت ليدفن تحتها أكثر من عشرة أشخاص بينما تحمل الأخرى عددا أقل.
وتشد طقوس تقديم الذبيحة البشرية لروح الميت الاهتمام، حيث تظهر فوق كثير من الألواح الحجرية التي مازالت تصارع الزمن، آثار أخاديد محفورة لا تختلف كثيرا عن الشكل المحفور على معاصر الزيتون بمدينة فورييس، حيث يظهر شكل دائري ينتهي إلى مسار مستقيم، كان ينساب عبره دم الذبيحة ليجمع في إناء ويوضع بجانب عظام الميت التي تُرتب في وضع جنيني، اعتقادا بفكرة أنه لبعث الميت يجب أن يتوفر دم بشري. وأفاد الأستاذ قجوف بأن مجتمعات ما قبل التاريخ التي كانت تعيش في منطقة تامزغة إلى غاية أوروبا حيث توجد قبور مماثلة، آمنت بفكرة البعث ما بعد الموت في وقت ما. وتطرح هذه الملاحظات الكثير من التساؤلات عن سبب التشابه مع ما هو موجود في أوروبا.
وتعرضت الكثير من البناءات الجنائزية العائدة لما قبل التاريخ إلى التخريب والتحطيم، كما أنها عرضة لإهمال كبير حيث لا توجد أية لافتة لتدل الزوار على اسم الموقع أو تاريخه أو أهمية ما يوجد فيه من آثار، في حين توجد أكثر من عشرة أنواع من النباتات بالمكان على غرار نبتة “تاسلغة” المستعملة في العلاج. وقال مرشدانا إنه من الممكن أن القبور تعود إلى أكثر من ستة آلاف سنة، وهي ما يمثل الهوية الحقيقية للشعب الجزائري، بالإضافة إلى كل ما جاء بعدها، فالآثار بحسبهما، متراكمة فوق بعضها بحسب الحقب التاريخية المختلفة التي عرفتها المنطقة.
وواصلنا سيرنا نحو حمام الكنيف البخاري، وقد كان مستعملا منذ عهد الرومان كما استغله الأمازيغ، قبل أن تعيد السلطات الاستعمارية ترميمه منذ أزيد من قرن، حيث ادعى المستعمرون بأنهم من قاموا باكتشافه متجاهلين أنه كان مستخدما من طرف الجزائريين منذ العهد الروماني. وأخبرنا الأستاذ قجوف بأن الحمام عبارة عن صخرة بركانية يتصاعد منها بخار ساخن وقوي، وهو مقصد المواطنين الذين يعانون من مشاكل في المفاصل.
ودخلنا إلى الجزء المخصص للرجال، فوجدنا العديد من الأشخاص نصف عراة يجلسون فوق مقعد دائري تحته ثقب يتصاعد منه بخار قوي، لكننا لاحظنا أن الكثير منهم يجلبون معهم المياه الباردة، وهو ما لا ينصح به بحسب محدثنا، حيث يكفي البخار فقط، في حين لم نتمكن من المكوث طويلا لشعورنا بالاختناق.
وأفاد حارس الحمام بأن المرفق أُغلق لمُدة من أجل عملية صيانة وأعيد فتحه، فيما فتح أحد المواطنين حماما بالمياه الساخنة بالقرب منه، بعدما اكتشف وجودها خلال ممارسته نشاط الفلاحة قبل عدة سنوات. ويعرف المكان حركية كبيرة من المواطنين القادمين من ولايات مختلفة للاستحمام واستغلال المياه الطبيعية لأغراض علاجية.
وتقدر المسافة الرابطة بين حمام الكنيف وبغاي بحوالي ثمانية كيلومترات قطعناها في أقل من عشرين دقيقة على مسلك مُعبد، حيث تراءت لنا من بعيد قطعة أرضية محاطة بسور كبير وتشبه المقبرة. عند وصولنا قابلتنا بوابة موصدة بالسلاسل والأقفال، ولم نجد في المكان أي شخص حتى نستطيع الدخول إلى مدينة بغاي الأثرية، عاصمة ديهيا ومقر قيادة جيشها. واقترح علينا مرشدانا بأن نتوجه إلى مقر بلدية بغاي لنطلب من رئيسها أن يأمر بفتح البوابة لنا، لكننا قمنا بجولة بسيطة حول الموقع قبل ذلك، ولاحظنا انتشار بعض الأحجار وعمود دائري قائم وسط أرض فارغة تقابل الطريق وقرية صغيرة تحيط بها بعض الحقول على الضفة الأخرى.
وأثناء مشينا نحو العمود الدائري، كنا ندوس بأقدامنا قطع الفخار الخاصة بأواني مختلفة تعود للحقب التاريخية التي مرت بالمكان، وهي ليست مختلفة عن الموجودة على مستوى مدينة فورييس. وتمكنا بعد أكثر من ساعة من الانتظار، من الدخول إلى المكان، حيث رحب بنا موظفو البلدية بحفاوة واتصلوا بالحارس الذي رحب بنا أيضا، ورافقنا خلال جولتنا في المدينة، منبها بأن الأفاعي تغزو الموقع خلال فترة الصيف ويصبح الدخول إليها شبه مستحيل.
وقال الحارس إنه توجد داخل المدينة مقبرة حديثة خاصة بسكان المنطقة الذين دفنوا أمواتهم بها، وقد لاحظنا بأن قبورهم محاطة بحجارة صغيرة بشكل دائري. وسألنا الحارس عما إذا كانت قد سُجلت محاولات لنهب المدينة من قبل، فابتسم وأجابنا بثقة: «لا أحد يستطيع المساس بالمكان لأن عليه «المانع». كل من يحاول الحفر يصير غبارا». وقد علمنا بأن الحارس يقصد بالمانع الجني، الذي يعتقد الباحثون عن الكنوز بأنه يتملك الأشياء الأثرية ذات القيمة الكبيرة ويمنع أيا كان من الوصول إليها وقد يسبب له الضرر، حيث يجب تلبية مجموعة من مطالبه التعجيزية من أجل الحصول على الكنز، من خلال طقوس سحرية.
على أرض بغاي لا تظهر آثار كثيرة، باستثناء الحجارة المتناثرة، على غرار عمودين دائريين كبيرين بأحد الأركان، أوضح لنا الأستاذ أونيسي، بأنه يشتبه في أن يكون الموقع الذي اتخذته الكاهنة قصرا لها ومقرا للقيادة، بالإضافة إلى أنواع مختلفة من الحجارة المصقولة الأخرى وبعض الحجارة التي حفر عليها تجويف مربع، لأنها كانت تستغل كأقفال ضخمة للبوابات، بحسب نفس المصدر. أما الأستاذ قجوف فشدد على أن الموقع لا يقل أهمية عن تيمقاد، وأنه تحت أطنان الأتربة التي تملأ الموقع توجد مدينة كاملة يجب استخراجها من الأرض من خلال حفريات كبيرة ومشروع جدي.
ولاحظنا بأن أرضية الموقع على شكل ربوة، يكون الواقف في منتصفها في وضع أعلى عن السور المحيط بالموقع بعدة أمتار، حيث نبه محدثانا بأن المستوى الحقيقي للمدينة هو مع السور، لكن الأتربة المتجمعة فوقها منذ ما يقارب 1500 سنة أدت إلى اختفائها تحتها. وأضاف محدثانا بأن استخراجها يتطلب استعمال معدات متطورة وانتهاج طرق علمية مدروسة لتجنب إلحاق أضرار بها، مشيرين إلى أن أفضل حل هو إدراجها ضمن تراث اليونيسكو لضمان تمويل للمشروع من طرفها، فهو يكلف أموالا كبيرة جدا، بحسبهما.
وذكر الأستاذ أونيسي بأن المدينة تعود إلى الحقبة الرومانية، ثم البيزنطية إلى غاية مجيء الوندال، الذين لم يهتموا بها كثيرا، فقطنها الأمازيغ إلى غاية وصول العرب المسلمين إلى شمال إفريقيا، أين اتخذتها ديهيا مركزا لقيادة المقاومة ومن خلالها كانت توجه الأوامر لباقي المدن التابعة لها.
ومازال تمثال الكاهنة قائما في وسط بلدية بغاي، حيث تم طلاؤه باللون الذهبي، بينما ورد في الحجر التعريفي الموضوع أسفله بأن اسمها ديهيا بنت ثابت، وهو ما اعتبره مرافقانا جهلا كبيرا بها، فهي، بحسبهما، أمازيغية وكانت تتحدث لغتها، ولا يمكن أن يكون اسم والدها ثابت، حيث قال الأستاذ قجوف إن بعض المصادر الأوروبية رجحت أن يكون اسم والدها ماتياس، وهو ما يُستبعد أيضا بحسب نفس المصدر. وقال الأستاذ قجوف إن الفرضية الأقرب أن يكون اسم والدها معطية، وهو من الأسماء الأمازيغية.
وتساءل بعض شباب البلدية لدى حديثنا إليهم عن ديانة ديهيا، حيث ردد بعضهم الأسطورة القائلة بأنها يهودية، لكن مرشدينا ردا عليهم بأن تسمية الكاهنة أطلقت عليها لأنها كانت قائدة وتمارس الكثير من الطقوس المتداولة في مجتمعها، فهي كانت بمثابة ما يسمى بـ»الشامان»، على حد تعبيره. وأضافا في شرح للشباب الذين تحدثنا إليهم، بأن هذه الطقوس ظلت متداولة في المجتمع الشاوي إلى سنوات قريبة، على غرار التوجه قبل السفر، إلى قارئة الطالع التي تقوم بإلقاء حفنة من القمح والشعير مع حلزون وتقرأ فيها مستقبل الشخص، حيث تسمى هذه الممارسة بـ»الثاغزة»، وهو نفس اسم إحدى بلديات ولاية أم البواقي.
وقال محدثونا إنهم تلقوا وعودا طيلة السنوات السابقة بإعادة الاعتبار لمدينة الكاهنة واستخراجها من تحت الأرض، لكن دون جدوى، في حين اقترح عليهم البعض إنشاء جمعية للمطالبة بالأمر، لأن الشروع في عمليات حفر بالموقع سيوفر مناصب الشغل للكثير من أبناء البلدية، كما أن استغلال المكان بشكل جيد سيجلب السياح الأجانب والجزائريين وينعش الحركية الاقتصادية في البلدية، التي تعاني من الكثير من مشاكل انعدام التنمية.
الأستاذ محمد الصالح أونيسي
نسعى إلى إخراج الكاهنة من التاريخ الفلكلوري والمزيف
أفاد الباحث محمد الصالح أونيسي، بأن مجموعة من الظروف هي ما جعلت ديهيا تبرز كملكة على الأمازيغ في منطقة الأوراس، وعلى رأسها وصول المسلمين في القرن السابع عندما سقطت تونس، فتنبه الخليفة الأموي إلى الثراء الموجود في باقي مناطق شمال إفريقيا، مضيفا بأن أكسل حكم مدينة القيروان لمدة خمس سنوات بعدما قتل عقبة بن نافع في معركة تهودة ببسكرة سنة 683 م، وقد كان أول ملك أمازيغي يحكم في تونس بعد البيزنطيين، إلى أن عاد زهير بن قيس على رأس جيش جديد، فهزمه وقتله. وأضاف محدثنا بأن ديهيا بدأت بإعداد جيشها لمواجهة المسلمين بعد سقوط أكسل، مشيرا إلى أن بعض الأساطير تقول إنها أخبرتهم بأنها قد رأت جيشا قادما من الشرق. وقد تحققت نبوءتها، بحسب محدثنا، عندما أوفد الخليفة الأموي حسان بن نعمان على رأس جيش قوي بلغ مدينة قرطاج وقام بتهديمها وبناء تونس الحالية، لينتقل بعد ذلك إلى جبال الأوراس من أجل القضاء على آخر مركز للمقاومة، حيث قابلته بوادي نيني –القريب من بغاي- وخسر في المعركة ودفعته إلى التراجع بجيشه إلى غاية مدينة قابس بتونس. وقال نفس المصدر إن الكاهنة استغلت فترة تراجعه لإعادة تنظيم دولتها، لكن المسلمين عادوا بعد خمس سنوات تحت إمرة نفس القائد بجيش قوامه أربعون ألف جندي.
ونبه الأستاذ بأن مستشاري ديهيا أخبروها بأن المسلمين جاؤوا بجيش كبير لا يمكن مقاومته لكنها ردت عليهم بعبارة ما زالت متداولة بين النساء الشاويات في الأوراس إلى اليوم بالأمازيغية، وهي «هيكليغ رزاث أمتانت هيشتناث» وتعني «السير إلى الأمام والموت واحد». وتأسف محدثنا لكون اسم الكاهنة هو ما علق بالاستعمال اليوم، أكثر من اسمها الحقيقي ديهيا، الذي ما زال متداولا بشكل أقل. وقال نفس المصدر إنه يجب الرد على الكثير من الخرافات التي أُلصقت بالكاهنة، على غرار القول إنها ساحرة، مشيرا إلى أن ديانتها لا تهم بقدر أهمية مقاومتها واستبسالها في الدفاع عن أرضها، موضحا بأن شمال إفريقيا سقطت بموت ديهيا.
واعتبر محدثنا بأن موسيقى الرحابة، التي يعود عمرها إلى أزيد من ألفي عام، أداة يمكن من خلال تطبيق معايير البحث العلمي عليها، الوصولُ إلى فك الكثير من الألغاز التاريخية، مشددا على ضرورة الابتعاد عن الكتابة المُغرضة للتاريخ، وعلى وجوب كتابة تاريخ الجزائر من طرف الجزائريين، لتلافي الأخطاء التي وقع فيها من قبل الكثير من المؤرخين السابقين بسبب مُنطلقهم الإيديولوجي وأحكامهم المسبقة.
روبورتــاج: سـامي حباطــي/تصوير: شريف قليب