أذهلت الجنازة التاريخية التي أقامها الشعب الجزائري لقائد الجيش الفريق أحمد قايد صالح، الكثير من المتتبعين داخل الجزائر وخارجها، الذين اكتشفوا حجم التقدير الشعبي للرجل و للمؤسسة العسكرية التي صمدت بكل قوة و شجاعة طيلة الأزمة السياسية التي كادت أن تعصف بأمن و استقرار البلاد، على مدى عام كامل تقريبا، وسط وضع دولي و إقليمي مليء بالنزاعات و التدخلات الأجنبية و الحروب الأهلية المدمرة.
قائد أمر بأن لا تطلق رصاصة واحدة على شعبه حتى لا تتكرر مأساة العشرية السوداء، و يخرج الحراك السلمي عن مساره، و شعب كان وفيا لخيار القيادة العسكرية و لم يكسر و لم يخرب و ظل ينشد السلم و الوحدة و يتطلع إلى جزائر جديدة تسودها العدالة و التقدم.
على مدى 10 أشهر من الأزمة لم يبق في الميدان إلا الجيش و الشعب بعد ان اختفت الطبقة السياسية و تراجع دورها، و لم تعد تملك ما تقدمه من حلول للازمة سوى انتظار ما تسفر عنه الأحداث.
و من النادر في الحالة العربية بل وفي مختلف انحاء العالم ألا تطلق رصاصة واحدة على الحشود المليونية التي تخرج إلى الشوارع، و تغلق الطرقات لطرد الحكام و تغيير النظام، لكن هذا حدث فعلا بالجزائر هذه المرة في سابقة تاريخية متفردة ربما لن يعيدها الزمن مرة أخرى.
لأول مرة بالجزائر يتفق الشعب و الجيش على تسيير الأزمة بهدوء و سلمية و تلاحم منقطع النظير تحت شعار «جيش الشعب خاوة خاوة» حتى يستقر الوضع و تصل سفينة التغيير بالجزائر الجديدة إلى بر الأمان، و تتجاوز الأمواج العاتية التي كانت تهدد بإغراقها عندما تفاقمت الأوضاع و تصاعدت حمى التدخلات الأجنبية، و الهجمات الإعلامية المغرضة.
و لأول مرة في تاريخ الجزائر يخوض الجيش الشعبي الوطني معركة حاسمة على عدة جبهات خطيرة و معقدة، التصدي للهجمات الإعلامية بكل أشكالها، المحافظة على سلمية الحراك، محاصرة رموز الفساد و التضييق عليهم، و حماية الحدود من الخطر الكبير الذي تشكله الجماعات الإرهابية المسلحة، و الأزمات الأمنية المتفاقمة بدول الجوار، و تسيير الأزمة وفق الدستور إلى غاية انتخاب رئيس جديد للبلاد.
و في بداية الأزمة لم يكن من السهل على الشعب الجزائري تفهم مواقف قيادة القوات المسلحة و توجهاتها، لكن و مع مرور الزمن بدأت الأمور تتضح بجلاء و بدأت خارطة الطريق التي وضعها الجيش تسري بين المواطنين و تكسب مزيدا من المصداقية، كلما تحققت نتيجة على الأرض و كلما سقط هدف من الأهداف المعادية التي ظلت في مرمى القوات المسلحة في انتظار التوقيت المناسب.
وكان أيضا من الصعب على قيادة لجيش الوطني الشعبي إحراز تقدم مشجع على الجبهة الشعبية الساخنة المتأججة والمفتوحة على كل الاحتمالات، بعد أن أصبحت عرضة للهجمات الإعلامية المدمرة، و مؤامرات داخلية و خارجية لم تتوقف منذ بداية الحراك الشعبي يوم 22 فبراير 2019، لكن احترافية الجيش الجزائري و عمقه المتوغل وسط الطبقات الشعبية البسيطة مكنها من تجاوز المكائد و الكمائن الموضوعة في كل مكان، و قد لعب قائد الجيش الفقيد أحمد قايد صالح دورا كبير في تفكيك الألغام و فك الحصار الذي كانت تريد قوى داخلية و أجنبية فرضه على القوات المسلحة، بالعمل على إحداث الانقسام بين الشعب و الجيش من خلال شعارات مغرضة لم تختف طيلة أشهر الحراك.
ومع مرور الزمن تكشفت كل المخططات الدنيئة و توطدت العلاقة بين الشعب الجيش، و بدا التناغم واضحا جليا منذ الإعلان عن الانتخابات الرئاسية التي جرت في 12 ديسمبر 2019، حيث تراجعت حدة الرفض الشعبي لدور الجيش في تسيير الأزمة و إيجاد الحلول، و صارت ثنائية الجيش و الشعب متناسقة متناغمة إلى يوم انتخاب رئيس جديد للبلاد، و إلى يوم رحيل قائد الجيش الفريق أحمد قايد صالح الذي شيع إلى مثواه الأخير في جنازة شعبية مليونية خرافية لم يسبق ان حظي بها قائد عسكري .
و لم يكن من السهل على أفراد القوات الأمنية بكل فروعها تطبيق أوامر ضبط النفس الصادرة إليها من القيادة العليا، عندما كانت هذه القوات تتعرض للاعتداء بساحات الحراك، و هي تملك من القوة و الأسباب التي تمكنها من سحق المسيرات الشعبية قبل ان تتوسع و تتعاظم حتى تصبح مليونية تثير اندهاش العالم.
ولرد الجميل للقائد الذي لم يطلق الرصاص على شعبه انتقلت مليونية الحراك الشعبي من كل الولايات لتشييع جنازة قائد الجيش، و توجيه رسالة قوية إلى الخارج، تجدد العهد مع المؤسسة العسكرية بأنه لا خوف على الوطن عندما يكون الشعب و الجيش في خندق واحد لمواجهة عدو مشترك و تحقيق هدف واحد هو استقرار البلاد و التوجه نحو مستقبل جديد يعيد الأمل للشعب الذي احتضن جيشه و حمى ظهره و دفع به إلى مزيد من التطور و الاحتراف لمواجهة التحديات و المخاطر الإقليمية المتفاقمة.
فريد.غ