نجحت القمة السابعة لرؤساء دول وحكومات منتدى الدول المصدرة للغاز المنعقدة، أول أمس بالجزائر، في رسم معالم مستقبل هذه المادة الطاقوية الحيوية في ظل الظروف الجيوسياسية الدولية الراهنة و كثرة الحديث عن الانتقال الطاقوي، كما وفقت في كسر مغالطات عديدة تحاول قوى معينة الترويج لها في السنوات الأخيرة عن الغاز.
و قد نجحت قمة الغاز بالجزائر في خلق توافق جماعي لدول المنتدى حول العديد من المسائل الإستراتيجية والهامة لمستقبل صناعة وتطوير وتجارة الغاز، بعيدا عن أي ضغوط مهما كان نوعها ومصدرها.
وفي هذا الإطار عبرت قمة الجزائر بكل وضوح عن الحقوق المشروعة والسيادية المطلقة والدائمة للدول المنتجة على مواردها من الغاز، رافضة بذلك أي إملاءات محتملة أو تدخلات ممكنة في المستقبل في هذا الحق.
و من الأشياء المهمة التي رسختها قمة الجزائر حول الغاز تأكيد أعضاء دول المنتدى عن إرادتهم الجماعية في الدفاع عن الغاز كمادة طاقوية حيوية وحق الدول والشعوب التي تمتلكها في استعمالها لدفع التنمية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة.
ومن المغالطات الكبيرة التي دحضتها قمة الجزائر تلك الآراء التي تروج بأن الغاز مادة ملوثة للبيئة وغير نظيفة وأنه يجب التخلص منه كمصدر للطاقة في سنوات قليلة والاتجاه نحو ما يسمى الطاقات الجديدة، وهذا الاتجاه الذي تروج له دول كبرى غربية في قمم المناخ يرمي في الواقع إلى حرمان الدول المنتجة للغاز من هذه الثروة الحيوية ومن عائداتها المالية، و هي تحاول طبقا لذلك فرض إتاوات على المنتجين ووضعهم في مأزق حقيقي كي لا تتطور صناعة الغاز في العالم، علما أن الدول الأوروبية التي تضررت من نقص الغاز الروسي بعد اندلاع النزاع الروسي- الأوكراني، لجأت إلى استيراد الغاز من الولايات المتحدة الأمريكية وبأسعار مضاعفة وعاد البعض منها إلى الطاقات الأحفورية التقليدية على غرار الفحم وهو من الطاقات الملوثة جدا للبيئة.
وعليه أكدت قمة الجزائر أن الغاز الطبيعي صديق للبيئة وله مساهمات معتبرة في مواجهة التحديات التي يفرضها تغير المناخ، وله أهمية كبرى في تحقيق انتقالات طاقوية عادلة ومنصفة ومنتظمة وشاملة ومستدامة.
وفي نفس النقطة أكدت قمة الجزائر أن الغاز وعلى عكس ما تروج له بعض الأطراف لا يمكن التخلي عنه في سنوات أو عقود قليلة بل هو من الطاقات التي سترافق التحول الطاقوي ويبقى من الطاقات المستعملة طيلة العقد الحالي وربما إلى أبعد من ذلك حسب العديد من الخبراء، وهو ما يعاكس تلك المغالطات التي تحاول دول لها أهداف مخفية ترويجها بأن الغاز سينتهي استعماله في حدود سنة 2050 وبعد هذا التاريخ يتم التحول إلى الطاقات المتجددة، بل أن بعض الخبراء يؤكدون أن الطاقات المتجددة هذه لن يكون بإمكانها تلبية حاجات سكان الأرض من الطاقة إلا بنسب قليلة، و أن الغاز سيكون مادة طاقوية ترافق التحول الطاقوي نحو الطاقات المتجددة في الفترة الانتقالية ويستمر في ذلك إلى ما بعد ذلك.
ومن هذا المنطلق شددت قمة الجزائر السابعة لمنتدى الدول المصدرة للغاز على عدة نقاط مهمة في تطوير صناعة وتجارة الغاز مستقبلا، وهي البحث العلمي و السعي لاستعمال أحدث التكنولوجيات في هذا المجال لضمان درجة عالية من نقاوة هذه الصناعة في إطار حماية البيئة، والابتكار لتقوية الدور الهام للغاز الطبيعي في تحسين الولوج إلى الطاقة والحد من الفقر الطاقوي.
ثم التأكيد على الأهمية الحاسمة للحفاظ على المنشآت الغازية الطبيعية الحساسة بما في ذلك البنى التحتية العابرة للحدود لضمان موثوقية هذه المنشآت وقابلية صمودها وهو ما يضمن بالتالي توفر هذه المادة، وأيضا تعزيز التعاون الدولي لحماية هذه المنشآت من الكوارث الطبيعية ولكن أيضا من التخريب المتعمد للإنسان.
وأكدت القمة في جانب متصل على رفضها المطلق وإدانتها لجميع القيود الاقتصادية والعقوبات أحادية الجانب دون الموافقة المسبقة لمجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، و أحسن مثال على مثل هذه العقوبات والقيود أحادية الجانب تلك التي فرضتها الدول الغربية على الغاز الروسي بعد اندلاع النزاع في أوكرانيا.
كما رفضت أيضا تطبيق القوانين والتنظيمات الوطنية خارج الحدود ضد الدول الأعضاء في المنتدى، حيث تلجأ بعض الدول الغربية إلى فرض قوانين داخلية على الغاز المستورد من دول المنتدى، كما رفضوا أيضا تسقيف الغاز كما تريد بذلك دول غربية أو إقحام قضايا سياسية في أسعاره أو تجارته. وتحاول بعض الدول الأوربية والغربية المستهلكة منذ مدة فرض سياسة العقود قصيرة الأجل لخدمة مصالحها الخاصة بدل العقود طويلة الأمد المعتمدة منذ عقود بين الدول المنتجة والمستهلكة.
في مقابل هذه اللاءات أبدت قمة الجزائر مرونة واضحة مع جميع الأطراف والمنظمات المعنية بتطوير صناعة وتجارة الغاز في العالم وعبرت بوضوح عن استعدادها لحوار قوي وهادف ودائم بين المنتجين والمستهلكين والأطراف المعنية الأخرى لضمان العرض والطلب وتعزيز استقرار سوق الغاز في العالم والدفاع من أجل أن تكون أسواق الغاز متفتحة وشفافة.
والخلاصة أن قمة الجزائر حول الغاز نجحت على صعيد أول، في خلق توافق وإجماع بين دول المنتدى حول أهمية الدفاع عن مصالحها بكل قوة، وهي الدول التي تنتج ما يصل إلى 40 بالمائة من الغاز في العالم وتملك 70 بالمائة من احتياطات العالم من الغاز، وبالتالي لها كلمتها في هذا المجال.
ونجحت في المقام الثاني في إيصال رسائل واضحة للجميع مفادها أولا أن الغاز طاقة ومادة حيوية مهمة ومن حق الدول التي تتوفر عليها استغلالها لضمان التنمية الاقتصادية والاجتماعية لشعوبها.
ثانيا أن الغاز الطبيعي مادة نظيفة وصديقة للبيئة ولا يمكن قبول مبررات حماية المناخ لحرمان الدول التي تملكه من استغلاله، كما أنه مرافق للتحول الطاقوي ومستمر إلى ما بعد ذلك.
وفي المقام الثالث لا يمكن قبول الشروط التي تحاول الدول الغربية بالخصوص فرضها على الغاز على غرار العقوبات أحادية الجانب، و التطبيق أحادي الجانب للقوانين الداخلية، و تسقيف الأسعار و التدخلات السياسية المصطعنة في صناعته و تجارته.
ورابعا التأكيد على إبقاء باب الحوار مفتوحا بين المنتجين والمستهلكين، والتأكيد على دعم وإسناد مكانة المنتدى في العالم، وعلى ضرورة الاستثمار بقوة في هذه المادة الطاقوية الحيوية، مقدمة ضمانات مؤكدة بشأن تأمين إمدادات السوق من هذه المادة.
وتبقى الإشارة إلى أن منتدى الدول المصدرة للغاز هو مجرد منتدى وليس منظمة، فهو إطار للتشاور والتعاون والتنسيق، وإذا كان قد توصل إلى توافق حول التوصيات التي خرج بها فذلك يعتبر في حد ذاته نجاحا كبيرا، ويبقى تنفيذ ذلك متوقف على إرادة أعضائه.
أما الجزائر فقد نجحت في تنظيم هذه القمة في هذه الظروف الجيوسياسية العالمية التي يعرفها الجميع، ونجحت في خلق توافق تام وإجماع واضح بين دول المنتدى حول مجموعة من الأهداف، وبالتالي تكون قمة الجزائر قد رسمت خارطة طريق ومسار مستقبل الغاز في العالم، ذلك أن مضمون بيان الجزائر فيه من الشجاعة والجرأة ما يحسب لهذه القمة.
إلياس -ب