دعا رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة إلى «بناء منظومة ثقافية قائمة على الهوية الوطنية الواحدة بمختلف أبعادها» قائلا أن «الثقافة المجدية هي الدرع الذي يقي شبابنا من التطرف، هاته الآفة المقيتة التي تنتقل من بلد إلى آخر و من زمن إلى زمن»، مؤكدا أن الجزائر لن «تتوانى في محاربة التطرف باستخدام سلاح المعرفة و التنوير للقضاء على أسبابه و مكوناته».
رئيس الجمهورية في رسالته التي قرأها وزير الثقافة عز الدين ميهوبي أمس بقسنطينة في اختتام تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية أكد أنه «من حق الجزائريات و الجزائريين بل و من واجبهم أن يعتزوا بكون الدستور قد كرس الحق في التحصيل المعرفي بأن جعله حقا مضمونا يتساوى فيه أبناء الشعب كلهم»، مضيفا «علينا أن نعمل من أجل الخروج بالمعرفة و الثقافة من طور الإستهلاك إلى طور الإبداع و الإنتاج لكي تسهما في التنمية الاقتصادية».
و أشار رئيس الجمهورية «أن تجسيد الحق في المعرفة يدفعنا بقوة إلى الاضطلاع بمسؤوليتنا المتمثلة في وقاية المجتمع الجزائري من إنتاج ثقافة كراهية الغير و ثقافة زرع الرعب و ثقافة التزمت و ثقافة الموت و تحصينه من أخطارها»، و نبه الرئيس بوتفليقة في رسالته أن الثقافة نتاج ديناميكية اجتماعية تبدأ بالتعليم في المؤسسات التربوية عبر مختلف الأطوار لتبلغ مؤسسات البحث العلمي و الإبتكار المتجدد، مشيرا إلى ضرورة التناسق بين الشارع و المؤسسات الدينية و دور الشباب و دور الثقافة و المسارح و السينما و التلفزيون ووسائل الإعلام و غيرها من المرافق في خلق و إنتاج تلك الحركية الثقافية الأصيلة التي تحصن المجتمع و تحمي الأجيال القادمة.
وأهاب الرئيس بوتفليقة بكل الجزائريين و الجزائريات لكي يحضروا جيل الغد الذي سيكمل مسيرة جيل الكفاح التحرري و جهد جيل بناة الجزائر المستقلة، جيل الغد الذي يسهر بالعلم و الثقافة على تعزيز استقلالنا الاقتصادي و المساهمة في رفع مشعل حضارتنا العربية الإسلامية في العالم و ضمان مكانة أرقى للجزائر عقدا بعد عقد.
رئيس الجمهورية في رسالته أشاد بخصال و مناقب رائد النهضة الإمام عبد الحميد بن باديس الصنهاجي و قال في رسالته أنه «أدرك حاجة الجزائري للعلم كحاجته إلى الهواء النقي و عرف أن الحرية ليست كلمة يتلفظ بها هذا و ذاك، و إنما هي غنيمة كفاح مرير طويل يرتكز على العلم و المعرفة قبل أن يعتمد على السلاح. و هكذا سبق صليل القلم أزيز الرصاص» يقول رئيس الجمهورية في رسالته.
و أكد رئيس الجمهورية أن «الاحتفال بيوم العلم كل سنة لا يتوقف عند استذكار الرائد القدوة عبد الحميد بن باديس و رفاقه الأجلاء الذين نذروا حياتهم لخدمة وطنهم حين جعلوا من نشر العلم و المعرفة وسيلة للتحرر الفكري الذي بدونه ما كان في استطاعة الإنسان الجزائري أن يقوى على التخلص من نير الاستعمار»، داعيا إلى الوقوف للتمعن في مسيرته النضالية التي قامت على أرضية صلبة لكسب رهان الحداثة دون التفريط في تراثنا و أصالتنا» و عبر رئيس الجمهورية في رسالته أن يوم العلم عزيز على الجزائريين و الجزائريات الفخورين بما لهم من مساهمات فعالة في الفكر و العلم منذ عهد ابوليوس ابن مداوروش إلى الأمير عبد القادر و ابن باديس مذكرا بما سبق له و ان قاله في هذا المقام «»إن لهذه المدينة (قسنطينة) جاذبية لا تقاوم، فما يزال زائرها حين يفارقها في شوق وحنين إليها حتى يعود». وقد عدت إليها، كما تعرفون،مرات عديدة. لكأني بالعلم قد تحصن بمدينتكم هذه و استحصن بها، فما يبرحها إلا ليعود إليها،وما أظن أحدا فينا يتخيل أن العلم و قسنطينة سيفترقان في يوم من الأيام.و ذكر رئيس الجمهورية أن سنة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية كانت « حافلة بالعطاء الثقافي و الفضل في ذلك يعود إلى جميع من ساهم في إنجاحها من رجال ونساء، ونشطوا وأثروا بأعمالهم و عطاءاتهم فعالياتها، فكانوا بذلك أهلا للإكبار والتقدير. كما جعلت منها عاصمة للبلدان العربية قاطبة و عمقت الصلة و الإنتماء الطبيعي بين الإنسان الجزائري و أشقائه في الفضاء الأوسع الممتد في كلتا القارتين أفريقيا و آسيا.
و تطرقت رسالة رئيس الجمهورية إلى وضعية التعليم الذي كان مزدهرا قبل أن تغزو فرنسا الجزائر سنة 1830 و شهد على ذلك المؤرخون الغربيون النزهاء، لكن الأوضاع انقلبت رأسا على عقب، و تفشت الأمية بنهاية القرن التاسع عشر بفعل متعمد من الإستعمار الذي أدرك أن العلم و المعرفة عدوان له و لسياساته، لأن العلم هو الذي تقوم عليه كل حركة مجدية في البناء الإجتماعي و الحضاري، و لذلك عمد الاستعمار طيلة قرن و ربع قرن إلى تجهيل أبناء الشعب الجزائري و لم يتورع في هدم المدارس و الزوايا و الكتاتيب و المساجد و حرق المكتبات في جميع أنحاء الوطن، و لنا أبلغ مثال يقول رئيس الجمهورية في رسالته في الطريقة التي ختم بها الاستعمار احتلاله البغيض عندما أحرق مكتبة جامعة الجزائر في شهر أفريل 1962.و أضاف رئيس الجمهورية «أن الاستعمار لم يكتف بذلك، بل عمد إلى التضليل والاستخفاف بالعقول، وترويج الخرافات والأباطيل والأساطير»، حتى قيض الله ابن قسنطينة عبد الحميد بن باديس «لمواجهة المشروع الفرنسي التغريبي بأن حرص على تعليم الكبار والصغار،البنين والبنات، وفتح عيونهم بخطاب قد يتلخص كله في القولة البليغة التي خاطب بها الإنسان الجزائري: «لا حياة لك إلا بحياة شعبك وبلدك ودينك ولغتك, وكل ما هو جميل رائق من عادات وتقاليد, وإذا أردت أن تضمن الدوام والإستمرار لكل ذلك, فكن ابن عصرك مسايرا للزمن الذي تحيا فيه منسجما مع أسباب الحياة وسبل التعايش والسلوك المثالي في المجتمع».
و ختم رئيس الجمهورية رسالته قائلا أن الدولة الجزائرية ما فتئت منذ أن عادت إلى الوجود، تولي عنايتها لتربية النشء وتمكينه من نور العلم والمعرفة، إيمانا منها بأن الاستثمار في الإنسان هو الاستثمار الأضمن فائدة و الأبقى»، مشيرا إلى الرهانات الحالية المتعلقة بمجتمع المعلومات و حاجتنا إلى ولوجه متسلحين بمستويات عليا من التأهيل، لأن «اعتناق سلوكيات جديدة في العمل وإنتاج المعرفة، أصبحت أمورا لابد منها من حيث هي عوامل مؤثرة في تحديد التوازنات الجيوسياسية العالمية الجديدة»مثلما يؤكد رئيس الجمهورية.
ع.ش