تزخر قصور ومباني ومساجد الجزائر، بعدد كبير من بلاط الزليج الذي يؤرخ لقدم هذه الحرفة في البلاد، فهو شاهد على علاقة الجزائر بغيرها من البلدان الإسلامية و الأوروبية خاصة في الفترة العثمانية، ورغم محاولات السطو، إلا أنه خصوصيته التراثية و جماله المتفرد، صك أمان يثبت في كل مرة أصليته و انتماءه، لأن كل تفصيل يتحدث لغة الفن و الأصالة ويحكي عن عناصر جمالية تتقاسمها العديد من الحرف في بلادنا.
وقد كشفت خلال الأشهر الماضية وزيرة الثقافة والفنون، صورية مولوجي، عن إعداد الجزائر لملف خاص حول «فن الزخرفة المعمارية – الزليج»، تمهيدا لإدراجه، ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلم «اليونيسكو».
* الباحث في الآثار الإسلامية محمد الطيب عقاب
المعاضيد مهد الحرفة الأول
بحسب الباحث في الآثار الإسلامية، محمد الطيب عقاب، فإن تسمية الزليج ترجع إلى الحرفي الفخاري الذي يعرف ببلقاسم زليجي الأندلسي، الذي هاجر إلى تونس منذ العهد العثماني في القرن السادس عشر ميلادي و تمركز في مدينة نابل المشهورة بصناعة الخزف، وأضاف المتحدث أن حرفة الزليج ازدهرت جدا في الجزائر خلال العهد العثماني أي منذ القرن السابع عشر ميلادي، إلا أن أول ظهور حقيقي لها يعود إلى القرن 11 وتحديدا في قلعة بني حماد «المسيلة»، أين يمكن أن نجد تسمية الخزفيات ذات الطلاء المعدني وهي قليلة جدا موجودة في الحضارة الحمادية، المعروفة في أحواض مدينة المسيلة وبالضبط في بلدية المعاضيد.
ويطلق مصطلح الزليج بحسبه، على تلك القطع الخزفية متعددة الأشكال و الألوان، التي يتم تجميعها حسب مخططات دقيقة حيث تشكل لوحات زخرفيه جميلة ذات تصاميم هندسية، نباتية أو كتابية، تستعمل بشكل أساسي لتبليط الأرضيات و كسوة الأجزاء السفلية للجدران، وفي حالات نادرة لكسوة الأعمدة و العقود وحتى عند أعتاب الأبواب وبداية السلالم.
ويعتمد الزليج في تصاميمه أساسا على الأشكال الهندسية المتنوعة، أكثرها شيوعا تلك التي يركز في رسمها على المربع المنجم، وتستعمل أشكاله البسيطة لتبليط الأرضيات، بينما تستعمل الأشكال المعقدة لكسوة الجدران، أما التصاميم النباتية فهي قليلة و توظف أساسا لكسوة محيط نافورات المياه.
وقال الباحث، بأن هناك العديد من الشواهد الأثرية الدالة على أن أصل الزليج المنتشر في المغرب العربي ظهر في الأول في الجزائر، وازدهر إبان الحضارة الحمادية، وقد بدأ بالمقرمسات، وهي قطع مصبوغة بطلاء معدني أخضر، في جزئها الظاهر إلى الخارج، أما الجزء الأخر المغمور في الجدار فيكون غير واضح للعيان، ويبقي على حالته الطبيعية أي عبارة عن فخار.
مشيرا إلى أن الطلاء مركب من عدة معادن، كالأخضر الزرعي المستمد من معدن النحاس، ومن معادن أخرى تنتج هذا اللون الغامق جدا في المقرمسات.
تنوع يعكس عبقرية الصناعة المحلية
وأضاف المتحدث، بأن المساحات المنشرحة للدولة الحمادية المعروفة بقصورها الشامخة تتوفر على عدة نماذج من الزليج، أهمها المربعات الخزفية ذات الطلاء الأزرق الكوبانتي الفاتح، و أنواع أخرى من النجيمات، التي تزينت بها جدران الغرف الموجودة في قصور الدولة الحمادية، وهي المكتشفة منذ الاستعمار وخاصة قصر المنار، وقصر البحر.
ويدل كل ذلك التنوع الثري الموجود في أحواض هذه المساحات حسبه، على عبقرية الصناعة الملحية، سواء تعلق الأمر بالقطع التي تكسو جدران الغرف السفلية في القصور، أو التي تربط بين علو وسقف الغرف، أو في المساحات المستوية للقصور كالأرضيات وهي نماذج كثيرة جدا.
وقال الباحث، بأن أهم الخزفيات التي عثر عليها في قصر الدولة الحمادية هي بعض القناني والبلاسم العلاجية التي تعتبر من الخزفيات الأساسية المتطورة والموجودة كثيرا في تلك الفترة، وهي مطلية بالبريق المعدني أي باللون الذهبي اللماع الذي يعتبر من المعادن الأساسية الذهبية التي كانت تطلى بها هذه الأدوات وغيرها.
يبقى المهم والملفت للنظر بحسبه، هو أن هذه الرسومات ذات الملامح الأسيوية تعود إلى التأثيرات التي سادت في العالم الإسلامي في ذلك الوقت، وهو ما يوحي بتوسع التجارة المشرقية نحو الغرب الإسلامي ولكن هذا لا ينفي كما قال، بأن الأثريات التي عثرت عليها في الكثير من المدن الإسلامية كثيرة ومتنوعة ومختلفة، ففي مدينة سطيف مثلا وجدت بعض القناني المطلية بالبريق المعدني باللون الذهبي، وذلك الحال في مدينة تلمسان التي وجد بها مصنع للصناعة الخزفية.
منتج متميز بألوانه ورسوماته
ويرى الأستاذ محمد الطيب عقاب، الباحث في تاريخ الآثار الإسلامية، بأن ثراء الأثريات وتنوعها دليل على تطور صناعة الفخار في المدن الإسلامية الجزائرية الكبيرة على غرار تلمسان و مستغانم و قسنطينة، فعاصمة الشرق، تعتبر لوحة تراثية كبيرة وجدت بين تفاصيلها عدة نماذج من الخزف المطلي بمختلف الألوان وخاصة اللون الذهبي و الأخضر الزرعي.
وأضاف، بأن الملامح البشرية تغيب عن زخرفة الزليج الجزائري عموما، و أن أكثر الأشكال استعمالا هي الخطوط الدائرية و بعض الأطباق النجمية، التي ظهرت في الدولة العبيدية في تلمسان، حيث تطورت هذه الصناعة إلى نماذج متعددة وبألوان مختلفة، أين نلاحظ الفسيفساء اللونية، وهي أساسا من الخزفيات التي يمكن أن نعتبرها رائعة من روائع الحضارة الإسلامية بمدينة تلمسان. وتعد المدرسة التشفينية، التي هدمتها الإدارة الفرنسية حينما احتلت مدينة تلمسان بحجة توسعة الشوارع وإقامة بعض المراكز التجارية، وما إلى ذلك من التبريريات، من أشهر العمائر التي شيدها سلاطين بني زيان في حاضرة ملكهم تلمسان كما يضيف المتحدث، فإلى جانب كونها منارة للعلوم، فقد كانت نموذجا مميزا للمستوى الراقي الذي يعكس تطور صناعة الزليج آنذاك.وقال الباحث، بأن الشواهد الحية على قدم حرفة الزليج في الجزائر، توجد في البقايا الأثرية التي عثر عليها من الحضارة الحمادية، وبمدينة تلمسان، في حين لم توجد خلال عهد المرابطين شواهد كثيرة وقوية عن أثر الزليج.
وأضاف المؤرخ، أن صناعة الزليج تطورت أكثر في تلمسان، في العهد الزياني، وحافظت على السمات الأساسية للحضارة الإسلامية وهي الخطوط الملتوية والدائرية القائمة على الفن المرئي في التماثل والتناظر والتشبيكات الموجودة في المربعات الخزفية.
لا توجد اختلافات إقليمية في تقنيات صناعة الزليج
وأوضح عقاب، أنه لا توجد اختلافات إقليمية في تقنيات صناعة الزليج الجزائري، لأنها صبغت بالعناصر المعروفة في الحضارة الإسلامية، ولذلك نجد في الدولة الزيانية بمدينة تلمسان مثلا، جميع العناصر المعروفة في الزليج موجودة في الحضارة الإسلامية القائمة أساسا على اللفائف الدائرية والخطوط المستديرة، والأغصان وغيرها من عناصر مملكة النبات.
وأضاف المتحدث، أنه في العهد العثماني تغيرت طبيعة صناعة مربعات الزليج، حيث شاع توظيف المربعات الخزفية المستقدمة من العالم الأوربي من إسبانيا وجنوب إيطاليا، وكلها مؤشرات تدل بحسبه، على قوة الجهاز البحري خلال العهد العثماني في الجزائر بصفة عامة. لذلك نجد في مراجع المربعات الخزفية لأحد جنرالات فرنسا، إشارة إلى أنواع تنسب إلى أسبانيا و هولندا وإيطاليا، فيما وضعت علامة استفهام على بعض النماذج، التي تعود في الأصل للحضارة الحمادية و ما وجد في مدينتي قسنطينة والجزائر.
وأشار المتحدث، إلى أن الزليج بمثابة وثيقة حية شاهدة على تعدد علاقات الجزائر مع بلدان إسلامية و أوروبية خاصة في الفترة العثمانية.
تطور كيمياء الألوان في الجزائر
وقال الباحث، بأن صناعة الزليج باستخدام كيمياء الألوان كانت متطورة قديما بالجزائر، بدليل المعطيات الأثرية المتوفرة و التي تجيب عن كل الأسئلة تقريبا، وتؤكد أن صناعة الزليج كانت متطورة في حواضر كبرى معروفة مثل تلمسان و المسيلة، كما انتقلت فيما بعد إلى بجاية ولكن الإسبان استطاعوا مع الأسف الشديد أن يمحوا أثر كل الصناعات الموجودة في بجاية .
وأضاف، بأن الجزائر لم تكن غائبة عن الركب الحضاري الإسلامي خاصة في مجال عالم الخزفيات المبرنقة، أو ذات الطلاء المعدني مثلها مثل العالم الإسلامي ومدنه المتطورة، وإن كانت هذه الصناعة قليلة الانتشار ومحصورة في مدينتي قلعة بني حماد و تلمسان التي استمرت مصانعها إلى غاية العهد العثماني.
وأوضح، أن الجدل القائم حول أصل الزليج، سببه أن أحد السفراء الفرنسيين الذي ألف كتابين فاخرين أسماه التقاليد في العمارة المغاربية، وركز كثيرا على الزليج، لأن الحرفيين في بلدان المغرب العربي لم يتوقفوا عن إنتاجه إلى يومنا هذا، عكس الجزائر التي أنف مجتمعها عن استخدامه في تزيين منازلهم ما جعل الحرفيين يبتعدون عن هذه الصنعة.وقال المتحدث، أن الجزائر أنتجت خلال القرن 11، نماذج متنوعة من الزليج الفاخر، سافرت إلى المدن الإسلامية الأخرى كما كانت السباقة في المغرب العربي إلى استحداث أجدد وأجمل نماذج الزليج.
* المختص في فن الزخرفة الإسلامية و الزليج أحمد بوعانم
زليجنا انعكاس للثقافة و ثراء التاريخ
اعتبر المختص في فن الزخرفة الإسلامية و الزليج، أحمد بوعانم، بأن الزليج الجزائري يعد جزءا مهما من التراث الثقافي والتاريخي للجزائر، حيث يمثل تقنية فنية تقليدية تنقلنا إلى عمق الحرفية والإبداع في الفنون اليدوية، كما يتميز بجمالية فريدة وألوان متنوعة تعبر عن تراث الجزائر الذي ينعكس في العمارة التقليدية والديكورات الداخلية والمعابد التاريخية.
كما يعد شاهدا أيضا حسبه، على عمق الحضارة الإسلامية والفترات التاريخية المختلفة التي مرت بها الجزائر، حيث استُخدم في تزيين المساجد والأماكن العامة منذ قرون طويلة، بفضل تقنياته المتقدمة وجماليته الفريدة، مشيرا إلى أن وجوده يمتد إلى فترة الفتوحات الإسلامية و وقد وجد أقدمه حتى الآن في قلعة بني حماد. وذكر الحرفي، بأن هناك 3 مدارس يستلهم منها الحرفيون في صناعة الزليج، وهي مدرسة قلعة بني حماد، مدرسة تلمسان، ومدرسة النصارية، مؤكدا بأن هناك تشابها كبيرا بينها في الأشكال الهندسية.
وأضاف بوعانم، أن الزليج يعتبر مادة خزفية، وليس رخامية يمر على عدة مراحل بداية من استخراج الطين كصلصال، أو كمادة أولية ثم طحنه، ووضعه في خزانات لكي يتحلل بواسطة المياه، ثم يتم عجنه وتصفيته و تركه مدة زمنية معتبرة، بعد ذلك يتم إخراجه من الخزانات وتشكيله كمربعات وتركه في الشمس حتى ينشف وتخرج منه كميات الماء، ثم إدخاله في الفرن ليتعرض لعملية الحرق الأولى، بعد ذلك يتم صبغه و تعريضه لدرجات حرارة عالية تصل إلى 800 درجة، ثم يتم إخراجه وتقطيعه قطع صغيرة.
تزايد الطلب على الزليج
وأضاف المتحدث، بأنه كحرفي يحاول إحياء هذه الصنعة من جديد، نظرا لعودة استخدام الزليج بشكل واسع وتزايد الطلب على استعمالهما في الحياة اليومية داخل المنازل، لذلك قام بالبحث عن المواد الأولية التي يحتاجها و جهز فرنا خاصا للعمل وفق المعايير المطلوبة لإنتاج أجود الأنواه.
وأشار الحرفي، إلى أن طلبات الزبائن على مربعات الزليج، تختلف من شخص إلى أخر، فهناك من يريد طاولة زليج لوضعها في غرفة الاستقبال، ومن يطلبه لتزيين جدران المنزل والحديقة، وآخرون يفضلون تجميع قطع مختلفة في شكل إطار لتعليقه في الغرف.
وأضاف المتحدث، بأن هناك عددا كبيرا من الحرفيين الذين ذهبوا بعيدا في صناعة الزليج، وأبدعت أناملهم قطعا فنية جميلة، سافرت إلى خارج الوطن.
وقال، بأنه يحضر لإحياء معارض ودورات تكوينية في الزليج لمواطنين لفوائده الكبيرة اقتصاديا وأهميته ثقافيا وقيمته الجمالية ، مشددا على ضرورة الاهتمام بهذه الصنعة والمحافظة عليها، لأنها تراث قيم تعزز بالابتكار في هذا المجال.
وأوضح، أن إحياء حرفة الزليج له أهمية كبيرة لعدة أسباب منها المحافظة على التراث الثقافي، ودعم الاقتصاد المحلي من خلال توفير فرص عمل للحرفيين والفنانين والمواهب المحلية، وكذا تكييف تقنيات صناعته بما يتناسب مع متطلبات العصر وتلبية احتياجات الزبائن. وقال إن استخدامه في تزيين البيوت أمر شائع في بلادنا وثقافة تمتد إلى قصر المشور، وسيدي بومدين و المدرسة التشفينية، وحتى في المساجد كمسجد سيدي بلحسن، ناهيك عن استخدامه في الحمامات وبعض المعالم الكبيرة التي تم تدميرها من طرف الاستعمار الفرنسي، وبقي من أثارها القليل.
دلالات ألوان الزليج التلمساني
وأشار في سياق منفصل، إلى أن ألوان الزليج التلمساني مثلا، مختلفة عن الأنواع الأخرى، لأن لها دلالات كثيرة، حيث يرمز الأزرق إلى لون السماء والبحر، وإلى رايات المملكة الزيانية، والأبيض إلى السلام، فيما يرمز البني إلى أسوار تلمسان، التي كانت تسمى مدينة الأسوار، أما الأسود فيشير إلى ظلمة الليل والنجوم.
وأكد محدثنا، أن تاريخ الزليج في الجزائر مر بعدة مراحل خصوصا خلال العهد الحمادي سنة 1005، و مرحلة بناء قلعة بني حماد، أين وصل هذا الفن إلى ذروته في الدقة والاحترافية حيث كشفت الحفريات عن استخدامه في تبليط الأرضيات والجدران وشبابيك النوافذ، وقال بأن الأبحاث، ذكرت مرور الزليج من قلعة بني حماد إلى تلمسان وبعد ذلك إلى الأندلس، أين طور، وعاد مرة أخرى مع المرابطين الذين جلبوا معهم عدة معماريين ومهندسين من الأندلس، ليصل أخيرا إلى المغرب الأقصى.
لينة دلول