بدأت رواية «حماقة ماركيز» منشورات ضفاف والاِختلاف، للروائي العراقي «عواد علي» بالفقرة السردية التالية: «مضت ثلاث وعشرون سنة على اِختفاء جثته. حدث ذلك، على وجه التحديد، في السنة السادسة للحرب، لكنّي اِعتدت على رؤيته في الحلم مرّة كلّ عام، وفي ليلة اِستشهاده الثالث عشر من شباط/ فبراير، وأتذكّره كلّما وقعت عيناي على كِتاب ماركيز» (ص09).
لونيس بن علي/ناقد أدبي
تتمركز الرواية في واقعة اِختفاء جثة سليمان البدر، الّذي قُتل في إحدى المعارك التي خاضها الجنود العراقيون ضدّ القوات الإيرانية، ليعود إلى الحياة، على نحو مُلتبس أثار الكثير من الغرابة طيلة أطوار الرواية، بعد ثلاث وعشرين عامًا من اِختفائه.
من هو سلمان البدر؟ شخصية إشكالية وغرائبية في الوقت نفسه، يعشق أدب الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، حدّ الهوس به، فهو إلى حدٍ ما يُشبه شخصية الدون كيشوت التي كانت ترى العالم من خلال كُتب الملاحم والفروسية، فسلمان هو الآخر كان يرى العالم من خلال العوالم السحرية لروايات ماركيز، فقد كان حلمه الكبير في حياته هو أن يكتب رواية يُحاكي فيها أسلوب صاحب مائة عام من العزلة.
سيروي القصة العجيبة لسلمان صديقه مراد الّذي كان رفيقًا له في الجيش، والّذي كان هو الآخر مولعًا بروايات الإيطالي ألبرتو مورافيا. وهنا أسجل هذه الملاحظة المهمة وهي أنّ شخصيات هذه الرواية مهوسة بالآداب العالمية، إذ تجد في الروايات العظيمة متنفسًا لها في زمن الحرب، تمنحها عالمًا موازيًا من المتعة والمعرفة.
سردية الأحلام الغريبة
تقوم الرواية على بنية الحلم؛ الحلم الّذي رآه مراد بعد ثلاث وعشرين سنة من رحيل صديقه سلمان البدر. أتساءل: ما هي وظيفة الحلم في هذه الرواية؟ وكيف يُمكن تفسيره في علاقته بأحداثها؟
هل للحلم معنى؟ هو السؤال الّذي شغل المحللين النفسانيين، وعلى رأسهم سيغموند فرويد، ولو أنّ الحديث عن (معنى) للحلم يفتح مسالكا عديدة للتفسير: ألا يعني ذلك أنّ هناك إمكانية فهم الأحلام بِمَا هي خطابات مُبهمة، تتشكل من رموز مشفرة؟ أليس تحصيل (الفهم) دعوة إلى القول بإمكانية إنتاج تفسير عقلاني لخطاب غير عقلاني؟
لقد اِهتم فرويد بالبحث عن مصدر الأحلام (من أين تأتي؟ ومِمَا تتشكل مادتها الأولية؟ وكيف يمكن تفسيرها؟). لا يُرجع فرويد أحلامنا إلى تلك الرغبات القريبة أو الحالية التي تنبثق من أحداث اليومي والراهني، بل كان منهجه هو البحث عن تلك المصادر في أعماق اللاشعور، والتي تتصل جوهرياً بحياة الطفولة الأولى (طفولة الفرد/طفولة الإنسانية).
وقد توصّل من خلال اِستنباطه لظاهرة النكوص إلى إدراك مفاهيم القوّة، أي ما له علاقة بسلطة: الإلغاء/التحريم/الكبت. إذ اُعتبر الحلم هو بمثابة (خيال الرغبة)، كما أنّه هو (تعبير/ سرد) الرغبة.
إنّ تفسير الحلم هو الاِنتقال من ظاهر الحلم (شكله) إلى باطنه. وبتعبيرٍ آخر، هو نقل أصل المعنى إلى محل آخر. غير أنّ العملية لا تتم بهذه البساطة، فباِعتبار الحلم هو إنجاز رغبة مكبوتة، فهذا حسب فرويد يتفرع إلى مستويين من الإنجاز: إنجاز المعنى (اِفتراض أنّ الحلم يقول شيئًا ما) وإنجاز القوّة وهو أنّ الحلم يُخضِع شكل الحلم لقوّة الكبت، فيمارس عليه التحريف والتشويه. وهنا يأتي دور الرقابة، التي هي كما كتب بول ريكور «هي التعبير عن سلطة، عن سلطة سياسية على نحو أكثر دقة، سلطة سياسية تمارس فعلها ضدّ المعارضة إذ تصيبها في حقها في التعبير».
يتحوّل الحلم عند مراد إلى قصة يسردها علينا بجميع تفاصيلها الغرائبية، فهو بهذه العملية ينقل الحلم من حالته الخامة، إلى الحالة السردية، فيغدو –أي الحلم– إلى نص/قصة. وبعيدا عن الفكرة القائلة بأنّ للحلم أصول عميقة تضرب بجذورها في طفولة الإنسان، إلاّ أنّنا نلاحظ بأنّ حلم مراد استثمر في حادثة وقعت منذ 23 سنة. ربّما السؤال الّذي يمكن أن نطرحه هنا: لماذا تجسد سلمان في حلم مراد بعد كلّ هذه السنوات؟
فبعد ثلاث وعشرين سنة من موته بدأ شبح سلمان يزوره في أحلامه كلّ ليلة. لنكتشف سلمان عبر أحلام مراد التي بدت سريالية؛ ومن بين تلك الأحلام أنّه جلس ذات يوم على سطح بيته فإذا بصديقه يزوره حاملا معه مخطوط الرواية التي حلم أن يكتبها باللّغة الإسبانية لأجل أن يقرأها ماركيز.
لقد روى له سلمان في ذات الحلم أنّه اِلتقى بكاتبه المُفضّل بمنزله بحي دي بيدريغال بالمكسيك، وهناك أطلعه على مخطوطه الّذي أُعجب به. حضور الحلم في الرواية جعلها أقرب إلى الرؤية السحرية والغرائبية التي اِنسجمت مع رغبة سلمان في كتابة رواية تنتمي إلى الواقعية السحرية؛ فما عجز الواقع عن تحقيقه، حققه الحلم، وهو ما يُحيلنا إلى علاقة الرواية بالحلم كأحد مصادرها الإبداعية، كما أنّ أحلام الروائي لا تتحقق في الواقع، خاصة إذا كان هذا الواقع في حالة اضطراب بسبب الحرب وممزق بسبب تخلف بنيته الاِجتماعية.
«تتذكر أدق التفاصيل عن لقائك بماركيز وتنسى ما جرى لك في الحرب؟
قال بصوت متكدر: كان لقائي بماركيز حدثًا إنسانيًا سعيتُ إليه بنفسي، أمّا الحرب فقد دهمتني ببشاعتها وخطفتني من الحياة، وها هي تُشوش ذهني، ولا أستطيع أن أرتّب وقائعها في رأسي». (ص23)
الرحلة العجيبة لجثة سلمان
في حلمه سيروي مراد لسلمان حادثة اِختفاء جثته في تلك الليلة الماطرة والمشؤومة. فبعد أن سقطت الجثة من فوق حامل حقائب السيارة التي اِستأجرها، يضطر مراد إلى وضعها في المقاعد الخلفية، وعند وصوله إلى نقطة التفتيش نزل مع السائق لأجل إجراءات روتينية للحصول على وثائق العبور، وعند عودتهما وجدا بأنّ جثة سلمان اِختفت. وأمام هذه المشكلة، فكّر السائق في فكرة غريبة، والمتمثلة في سرقة جثة من مقبرة المدينة، ثمّ وضعها في التابوت، ثمّ الاِدعاء بأنّها جثة سلمان.
لقد نبهتني فكرة السائق إلى فكرة مهمة، وهي أنّ الجثة لا هوية لها، فعندما يموت الإنسان تسقط هويته، وقوميته، ويتحوّل إلى مجرّد كتلة صماء. بالنسبة للسائق، لا فرق بين جثة وأخرى، فطالما أنّ سلمان قد مات، فما الفرق إن دُفنت جثة رجل آخر مكان جثته؟
تتجلى من خلال أحلام مراد إحدى عناصر قراءة الرواية؛ فهناك حلمٌ غامض، حاول أن يُفكك رموزه لكنّه عجز، ويبدو أنّ ما تبقى من فصول الرواية سيكون ظلاً لهذا الحلم الغريب. ولا أتصوّر بأنّ القارئ سيكون في غنى عن طرح السؤال نفسه: ما الّذي يخفيه حلم مراد؟
ومن جهة أخرى، يجد القارئ نفسه أمام نصين: نص الرواية، ونص الحلم، لتتعقد مهمته التأويلية، أو بالأحرى تتضاعف طبقات النص بشكل يفتح القراءة على مستويات عِدة. أليس الحُلم كما قال فرويد هو عمل أدبي؟
«أفقتُ من النوم فجرا وأنا لا أزال تحت تأثير الحلم. شعرتُ بصداع يضربُ أسفل رأسي، مصحوبًا باِنقباضٍ في القلب. سكبتُ قليلا من الماء في قدح وابتلعت حبة مسكن، ورحت أفكر في محتوى الحلم، محاولا تفكيك رموزه، لكنّي لم أفلح. لا أدري كيف حكيتً لسلمان أنّه تكلم وهو ميت ثمّ اِختفت جثته، ولماذا لم يقدني إلى الحي الّذي تسكن فيه نورهان ونحن نذرع القلعة؟ يا له من حلم عجيب!» (ص43)
نورهان أو الحب في زمن الحرب
هي حبيبة سلمان، يبدأ الفصل الخاص بها باِتصال هاتفي من طرف شخص اِدعى لها بأنّه حبيبها سلمان. في البداية اِعتبرت المكالمة إحدى الخُدع التي يلتجئ إليها بعض المزعجين، غير أنّ المتصل قدم لها بعض الإشارات التي ستوحي بأنّ المتكلم هو حبيبها الّذي مات في الحرب منذ سنوات. اِنفتح السرد في فصل نورهان بمشهد حمل الكثير من الأسرار، هل يمكن أن يكون سلمان حي؟ وإن كان حيًا فلمن تلك الجثة التي حملها مراد إلى بلدة سلمان لدفنها؟
يتوقف السرد ليعود إلى الماضي، وتحديدا إلى بدايات العلاقة بين نورهان وسلمان. لم يكن اللقاء بينهما سهلاً، لهذا اِستبد على مشاعرها الخوف والقلق والاِنقباض؛ فالحب في زمن الحرب وفي مجتمع محافظ مثل المجتمع العراقي ليس إلاّ شكلاً من أشكال اللعنة. لقد اِخترقتها المشاعر المتناقضة، وهذا ما حاول الروائي التركيز عليه عند تقديمه لهذه الشخصية.
تلتقي بسلمان عاشق الأدب، صاحب الثقافة الواسعة، الّذي أبهرها باِطلاعه الواسع على الثقافات العالمية؛ فعندما حضر إلى بيت خالتها، بعد ترتيب دقيق للقاء، جلب معه علبة حلويات رُسم عليها رأس ميدوزا.
اِستغربت نورهان من غرابة الرأس المتوّج بثعابين كثيرة ومُرعبة، قبل أن يروي لها سلمان قصة هذه الشخصية الأسطورية المُرعبة التي كانت تحوّل كلّ من ينظر إليها إلى أصنام حجرية. ومع ذلك لم تتحمل النظر إلى ذلك الرأس، فهو يذكّرها بشراسة الحرب، فقد أعطت تأويلاً لرأس ميدوزا بأنّها الحرب التي تلتهم الشباب البريء دون رحمة.
نهاية الرواية... لماذا تسرّع الروائي؟
لم تكن نهاية الرواية موفقة، كانت متسرعة كأنّ الروائي اِستعجل نهايتها دون مراعاة أحداثها التي كانت تتنامى تصاعديًا نحو نهاية كان يمكن أن تكون أكثر تناسبًا مع طبيعة الأحداث وتطورها.
تقرر نورهان الذهاب للقاء الشخص الّذي يدعي أنّه سلمان، وإن كانت في طريقها وضعت جميع الاِحتمالات، فقد يكون ذلك الشخص يريد اِختطافها، أو المزاح معها. لكن صاحب الصوت لم يترك لها أي مكان للشكّ، فقد أخبرها بكلّ ما يجعلها تقطع الشكّ باليقين بأنّ ذلك الشخص ليس إلاّ سلمان. عند الحب، يمكن تجاوز مأزق السؤال: كيف يُمكن لرجل قضى نحبه منذ أكثر من عشرين سنة أن يعود إلى الحياة، ويتذكر حبيبته؟ هذا يعني أنّ الرواية أخفت عنا شيئًا ما.
كانت رحلة اللقاء محفوفة بالأسئلة، ومحفوفة بالهواجس والسيناريوهات المريبة، لكن قوّة الحب كانت تدفع بنورهان إلى المضي حيث المكان المُتفق عليه.
مراد نفسه تمالكته الدهشة وهو يسمع من اِبنة نورهان أنّ والدتها خرجت للقاء صديق قديم يُدعى سلمان البدر. كان ذلك بمثابة حقيقة مريعة. مريعة ليس لأنّ صديق العمر قد يكون على قيد الحياة، بل هي مريعة لأنّ مراد قد حمل جثة صديقه في تلك الليلة الماطرة. صحيح أنها اِختفت، واِختفاؤها شكّل حفرة عميقة داخل الرواية، ليترك القارئ معلقا على مشجب السؤال: كيف اِختفت الجثة؟ هل هناك من سرقها؟ هل يمكن أن تكون الحياة قد عادت إليها فجأة؟
سيعيش القارئ في الصفحات الأخيرة على الأعصاب، لأنّ الرواية لم تقدم أي تنازلات حول حقيقة المتصل، وحول حقيقة موت سلمان في المعركة.
لا أريد أن أفسد على القراء اِكتشاف نهاية الرواية، فمن حقهم أن يكتشفوها بأنفسهم، لكن من وجهة نظري لم تكن النهاية مُقنعة، بل اِنتابني شعور بأنّ الروائي قد تعجّل بإنهاء روايته على هذا الشكل. هل اِلتقت نورهان بسلمان؟ وهل عاد سلمان إلى الحياة فعلاً، أم أنّ أمرا قد وقع وقد أخفته الرواية لتكشف عنه في صفحاتها الأخيرة؟