يؤكد الكاتب والطبيب ميلود يبرير أنّ انتشار فيروس كورونا اختبار حقيقي لنا على المستويات الإنسانية والاقتصادية والسياسية والتنظيمية، و ينتهي في تشخيصه لانعكاسات الوباء في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي إلى محدوديّة عقلنا الجمعيّ الذي يحتاج إلى إصلاح.صاحب رواية «جنوب الملح» يرى فيما يحدث الآن مرحلة من مراحل تغيير بدأ قبل فترة، ويشدّد على أنّ الجزائر تحتاج إلى أصوات أصيلة تفكر بصوت مرتفع، وليس إلى من يردّدون ما يثيره فلاسفة ومفكرون في الضفة الأخرى. ميلود يبرير الذي يشتغل بمصلحة الطب العقلي بمستشفى فرانز فانون بالبليدة يكشف للنصر في هذا الحوار أنه يعمل رفقة «أوفياء» على استعادة فانون بتهيئة بيته كي ينطبق الاسم على المسمى.
lحاوره: سليم بوفنداسة
lكيف تقرأ ما يُحدثه الوباء في العالم، كطبيب وككاتب؟
إنّ ما يدعو إلى التأمّل في مواجهة هذه الجائحة، هو طرق استجابة الأنظمة الصحيّة وأنظمة الدول بشكل عام ومدى فعالية استجابتها، إنّ جزءا مهما من هذه الفعالية يتوقف على قدرة هذه الأنظمة على الاستباق،فقد حضّرت ألمانيا مثلا أكثر من خطّة لمواجهة هذا الفيروس قبل أسبوعين من اكتشاف أوّل حالة على أراضيها، وقد أثبتت الأرقام والاحصائيات التي نطالعها كلّ يوم نجاحها في التصدّي لهذه الأزمة، إنّها مثال عن الأنظمة الذكيّة التي تعتمد على العلماء وعلى مراكز البحث وعلى تقسيم الأدوار والمهام. وهذا ما ينقصنا نحن في الجزائر، لقد جرّبنا منذ مؤتمر الصومام كلّ الأولويات الممكنة لكننا أغفلنا أولويّة الأولويات، الضرورة الأولى وهي العلم والمعرفة وحواملها من مدارس وجامعات ومراكز بحث ومخابر ودور نشر، لقد إعتقد دائما السياسيون، على الأقل أؤلئك الذين حملوا أفكارا أو مشاريع تنمويّة، أنّ الجامعة والمدرسة والاعلام هي أدوات فقط أوهي تحصيل حاصل للمشروع السياسي والاقتصادي، أرى دائما مقتل المناضل محمد بوضياف وهو يردّد: «الأمم الأخرى باه فاتونا، فاتونا بالعلم ...» موتا يرمز لرفضنا للأوّلويات وهي الحريّة والشرعيّة والعلم والمعرفة.
أعتقد أيضا أنّ الوباء قد استولى على عقول الكثير من المحللين ومن المفكّرين إلى حدّ أنّهم جعلوا منه مسبقا سببا وحيدا ومباشرا لكلّ تحوّل ممكن في هذا العالم، إنّنا بهذا نكون قد أغفلنا تماما تلك التحولات الصغيرة والمتتالية التي نعيشها على الأقلّ منذ أحداث 11 سبتمبر وغزو أفغانستان، إنّ عالمنا هذا يتململ بلا شك منذ فترة طويلة، يغيّر وجوهه وتحالفاته وربّما خرائطه «ضمّ القرم إلى روسيا، تنازل مصر عن تيران وصنافير، الصراع على الحدود البحريّة في غرب البحر الأبيض المتوسط ...»، ما أريد قوله هو أنّ هناك حتميّة التغيير وأنّ الوباء لن يكون إلاّ مرحلة من مراحله، قد تكون الأخيرة قبل دخولنا إلى عالم جديد وقد تكون خطوة واسعة نحوه.
من المؤكّد أنّ تأثيرات هذه الجائحة لن تكون هي نفسها وبنفس القدر في كلّ البلدان، ولهذا تحديدا نحتاج إلى أصوات أصيلة في الجزائر كي تُفكّر بصوت مرتفع في ما نحن فيه وفي مآلاتنا، وتحاول أن تجيبنا عن الأسئلة التي نعيد طرحها مع كلّ تجربة تاريخيّة نعيشها :أيّ صوت سيكون لنا في هذا العالم الجديد؟ كيف السبيل كي لا نخطئ مرّة أخرى فهم العالم والانفتاح عليه؟ هل سنفهم حقا درس الكورونا المؤلم وهو أنّ الأمر لا يتعلّق أبدا بكارثة أو بأزمة صحيّة مفاجئة فحسب بل باختبار حقيقي لنا على المستويات الانسانيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والتنظيمية؟
lتعمل في مدينة البليدة المغلقة بسبب الفيروس، كيف يتعايش الطبيب مع الروائي في هذا الوضع الذي يستفزّهما معا؟
لقد انتزع منّا هذا الفيروس لوهلة أسماءنا ومهننا وخصائصنا الثقافيّة والاجتماعيّة، صرنا مجرّد أشخاص بسطاء نفكّر في ثنائية واحدة هي الموت أوالبقاء، أو ربّما ارتقينا إلى انسانيتنا الأولى، وصار كلّ شيء فجأة واضحا وبسيطا أمام تهديد الموت المفاجئ والسريع.
أمّا البطء الذي يحدثه الحظر العام، فيجعلك تنفصل فجأة عن المدينة، عن صخبها وعن سرعتها وعن ضرورتها بالنسبة لكَ كشخص.
إنّ المسافة مع الآخرين، التي فرضها الفيروس، زيادة ونقصا، ولا أقصد هنا المسافة الفيزيائية قصرا، تجعلك ترى وتقيّم أيضا تلك المسافات التي وضعتها أنت مع نفسك، مع الضروري ومع شبيهه.
lرغم المكانة التي يحتلها الطبيب في المجتمع الجزائري، إلاّ أنّ صوته غير مسموع في الفضاء العام، كيف تفسر هذا الوضع؟ وهل تعتقد أنّ هذا الوباء سيشيع ثقافة طبيّة بين الناس؟
أعتقد أنّ الفضاء العام هو مسألة اشكالية في الجزائر، لأسباب عديدة منها انتماء الجزائري المنقوص الى «المدينة» الموروثة عن المستعمر وأيضا طبيعة النظم السياسية التي توالت على الجزائر، والتي تحكّمت في الفضاء العامّ ولم تُساهم في نشر وتشجيع المواطنين على الانتماء إليه والمساهمة فيه، كما أنّ هناك اشكالية أخرى وهي إشكالية تكوّن/تكوين النخب بصفّة عامّة في الجزائر خلال العشرين سنة الأخيرة بشكل خاص، لقد فُصلت خلال هذه المدّة الجامعة عن جسد المدينة الهشّ عبر بناء مركبات ضخمة لا ميزة لها ولا شكل ولا هويّة، فقدت خلالها الجامعة الجزائرية هويّتها التي كانت تبحث عنها، هنا يرتسمُ أمامنا الشبه الكبير بين مشروع «جامعة لكلّ ولاية» ومشروع التصنيع الضخم الذي تبنّته النخب الاقتصاديّة والسياسيّة نهاية ستينات القرن الماضي والذي انتهى إلى مأساة حقيقية «وهنا نتبيّن أيضا غياب التراكم ومعاودة الأخطاء بتنويعات مختلفة». لقد أصبحت هذه الجامعات، المنقطعة عن الشارع وعن المدينة، التي انتفخت فيها هيئات التدريس فجأة، تنتج أعدادا كبيرة من ذوي الشهادات الذين لم يفدهم مرورهم الجامعي لا في تطوير ألسنتهم ولاملكات عقولهم.
خلقت هذه الوفرة اذن، وفرة في أعداد الأطباء أيضا، الذين ألقيَ بهم في مستشفيات ليس لها في الغالب من وظيفتها إلا الإسم، للعمل تحت ظروف مهنية واجتماعيّة صعبة، ومع انقلاب القيم وانتشار وتجذّر القيم الماديّة في مجتمعنا، أعطت هذه الظروف محصّلة نهائية وهي تراجع قيمة مهنة الطبّ وممارسيها، وقد زادت الطين بلّة حملات الاعلام المُشوّهة لها. والنتيجة أنّنا وصلنا إلى مرحلة لم يعد المواطن فيها يثق بما يقدّمه له هذا النظام الصحي المتهالك، ثم وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها المواطن يبحث بدأب عن طب بديل وعن شفاء بديل وعن تفسير بديل للمرض غير التفسير «العلمي» الذي تقترحه المؤسسة الصحيّة.
إنّ أصعب شيء الآن هو اعادة بناء الثقة في النظام الصحيّ وفي الأنظمة الأخرى، إعادة الثقة هذه تتطلّب وقتا وإصلاحا عميقا، هذا هو الطريق الوحيد للمساهمة في نشر الثقافة الصحيّة، عبر البناء والاصلاح وايجاد حوامل وقنوات لهذه الثقافة الصحيّة وهذا ما نفتقده في وقتنا الحالي، فلا النخب المسيّرة تملك رؤية أو مشروعا ولا ظروف العمل والتنظيم والتكوين في المستشفيات مقبولة ولا نرى إعلاما محترفا مرافقا.
lهل ترى أنّ البشريّة ستصغي إلى العلماء بعد انقشاع «غمّة»كورونا، أم أنّها لن تتعلّم وستنسى كالعادة؟
لا أملك الاطلاع الكافي لأقدّم جوابا وافيا عن سؤالك، لكنّي أعتقد أنّ أحد المشاكل التي يواجهها العلماء هو تمويل بحوثهم، فالدول والشركات العظمى تموّل أبحاثا كثيرة لكنّها في الغالب أبحاث لإيجاد حلول لمشاكلها أو أخرى في مجال التطبيقات العمليّة للعلم أي التكنولوجيا، ربّما سيكون حظ البحوث العلميّة من التمويل أكثر، إن استفاد الممولون من درس الكورونا طبعا، ربّما سيموّلون حينها بحوثا لا يرون بالضرورة فائدتها.
أمّا في الجزائر فعلينا أولا أن نعرّف العلم ونعطيه قيمته ونقيم سلطانه، فمن غير المعقول في الجزائرألا تكون هناك سلطة للعلم، لا أقصد هنا السلطة العينيّة مثل مؤسسات البحث فقط، ومن غير المعقول أيضا أن لا نعرف ولا نستطيع التمييز بين العلم والاختراع وبين الشعوذة والإدّعاء، إنّ ما شاهدناه في القنوات التلفزيونيّة وعلى شبكات التواصل الاجتماعي خلال هذه الأزمة كشف محدّدات عقلنا الجمعي الذي يحتاج إلى اصلاح حقيقي.
lبيّن الوباء أنّ العالم يّدار بطريقة سيئة، هل تعتقد أنّ هذا الفيروس سيفتح عهدا جديدا في التاريخ ؟
ربّما، بالنسبة لنا كلّ ما حدث في عالمنا العربي منذ احتلال العراق على الأقل هو دليل على أنّ العالم يُدار بطريقة سيئة، كما أنّ القضيّة الفلسطينية تظلّ ماثلة أمامنا دائما كدليل على أنّ العالم يُدار حقا بظلم وبسوء كبيرين.
ثمّ ماذا سيكون الكوفيد 19 بالنسبة لنا كجزائريين؟ هل سيدفعنا إلى الانفتاح على الآخر والتفكير في مآلنا وفي جذور أزمتنا الحقيقيّة؟ أم أنّنا سنردد الأسئلة والفرضيات التي يتقاذفها الفلاسفة والمفكّرون في الضفّة الأخرى، عوض أن نكتسب تلك الحساسيّة وذلك النور الذي يمكننا من أن نرى به تاريخنا، واقعنا والطريق التي نسلك؟
lارتبطَ الطّب تاريخيا بالفلسفة، هل تعتقد أنّ الأطبّاء سيأخذون الكلمة ليفكّروا بصوت مسموع في مستقبل العالم؟
إنّه خبر سيء حقا أسمعه من حين لآخر، وهو أنّ الطب قد انفصل منذ زمن عن الفلسفة.
هل ستدفعنا هذه الأزمة إلى التفكير في ضرورة الفلسفة والعلوم الإنسانيّة؟ أتمنى ذلك رغم أنّي لا أتوقّعه.
أعتقد أنّنا لا نحتاج في هذه الأزمة إلى آلات التنفس الإصطناعي والكلوروكين والمُعقّمات فقط، إنّنا نحتاج أيضا إلى الأدب والفلسفة والموسيقى، إلى ما يدعونا إلى التفكير ويدفعنا إلى أن نجد كلمات لقلقنا وخوفنا وأملنا.
إنّ الشيء الوحيد الذي كان ممكنا أن يسمعه العالم من الأطباء، يكون قد قاله نيابة عنهم الكوفيد 19بصوت عال، وهو ضرورة صناعة أنظمة صحيّة جيّدة في كلّ بلد، هدفها صحّة المواطن البدنيّة والنفسيّة، فقد حدث اليوم أن وجدَ الحكّام والمسؤولون أنفسهم أمام ما قدمت أيديهم وسياساتهم بالأمس، لقد وجدوا مواطنين منهكين يعيشون وضعيّة نفسية واقتصادية وسياسية هشّة ولا تمكّنهم من التصرّف دائما بحكمة وبصبر.
أمّا الضروري الآن بالنسبة لنا نحن الجزائريون فهو في اعتقادي أن يكون تكوين الأطباء تكوينا نوعيا يضمّ ولو باختصار تاريخ الطب في العالم وتاريخه عند العرب والمسلمين، وتاريخه في الجزائر، كي يكون الطبيب قادرا على التفكير في الطب لاكتقنية فقط ولكن كحامل للتاريخ وللثقافة، ان استطعنا أن ننتج أطباء بهذا التفصيل وبتكوين معرفي/ تقنيّ جيّد فسنكون قد أنجزنا نصف مهمّة صناعة نظام صحي نفتخر به، هكذا نكون قد بدأنا في صنع هذا المستقبل حقا ولم نكن قد فكّرنا فيه فقط.
lما الذي يعنيه لك الانتساب إلى مؤسسة تحمل اسم فرانتز فانون في وقت نواجه فيه أكثـر من جائحة؟
آه،آه يا فرانتز فانون لو أمكنك أن ترى أيّ خراب وصلنا إليه، ليتهم يعرفون أيّها الجزائري دما وروحا كم أهملوك وأهملوا رسائلك.
إنّ أهم درس يقدّمه لنا فرانتز فانون هذا الطبيب الذي كان موعودا بمسار مهني قلّ مثيله، هو درس التضحية والشجاعة والوفاء لأفكاره ومبادئه، لقد أغفلنا في الجزائر فانون الطبيب والمفكر والمناضل، أغفلنا فانون الجزائري وأغفلنا أكثر من هذا فانون الانسان.
أنا جدّ فخور لأنّي أعمل في نفس الاختصاص وفي نفس المستشفى الذي عمل به في الجزائر بين 1953 و 1956، وأنا أكثر فخرا لأنّي أساهم رفقة أوفياء آخرين في تهيئة منزل فرانتز فانون داخل المستشفى لنعيده إليه، ليحيا بيننا مرّة أخرى، ويحدّثنا من جديد عن تحديّات الاستقلال.