.
عبد الحفيظ بن جلولي
فجأةً تتلوّن المدينة بالخوف، لستُ أدري كيف هي أصباغه، لكنّها تُشبه اليد وهي تمسك بفرشاة وتطلي شيئًا ما، جداراً ربّما أو دولاب أو سيارة. صارت المدينة تشبه الفراغ، لكنّ بعض الذين مازالوا يتحرّكون فيها، إنّما يفعلون ذلك لأجل أن يُوهموا أنفسهم بأنّ لا شيء يحدث يستدعي الخوف، مع ذلك هم يرتدون الكمامات والقفازات، ويتجوّلون راكبين السيارات أو الدرّاجات أو يستعملون أرجلهم، القطار11 « Train11 »، كما نتنذّر حينما تتعذّر سيارات الأجرة أو يتجاهلنا أحدهم ممن نعرفهم ويمتلك سيارة.
فضاء المدينة وهو يعيش رعب كرورنا، لم ينزو كلّية، صحيح أنّ الصيدليات المُجبرة على الدّوام جعلت كلّ ما في إمكانها من أدوات فاصلاً بينها وبين الزّبون، فاصل سوف يواصل إن شاء الله، وصحيح أيضا أنّ الأيدي لم تعد لها رعشة الصّباح القارصة، حيث يلسعها البرد فينكمش الجلد أو يُلاشيها الدّفء فتكتسب لونًا إنسانيًا، غاب هذا الطقس اليدوي، وحلّ محلّه لونٌ، كأنّه ملمح لون الموت وهو يكتسح فورة الدم في عروق الجسد فيرديه أصفراً مائلاً إلى الزرقة، تلك هي ألوان اليد بعد أن غطّتها القفازات الطبية، أحيانًا، نُبل الطب يًحيلنا إلى مغاسل الموتى أين يتدفّق الماء لا ليقود إلى الحياة ولكن ليسوّي طريقا نديًا نحو القبر.
يمرّ الناس على قلّتهم في معظم خرائط المُدن، بعضهم يحمل فوق عينيه خوف من المارّة، لعله يعرف أحدهم، يتهيّب أوّل الأمر أن يُبسط يده للسلام، ثم لا يلبث أن يقمع مدّها، فتمتد إليه اليد من هناك، حينها يقع في حرج، ثم يسير قليلا ليقرّر بينه وبين نفسه بأن يُرسل يده للسلام، فيواجَه بالإشارة من الجهة الأخرى، ليقع في حرج أكبر، ويُقرّر أخيرا أن يلج أقرب صيدلية ليقتني زوج قفاز وكمامة، يقف عند الحاجز بينه وبين المحاسب، يثبّت ناظريه في الكمامة على منتصف وجه الصيدلي السفلي، طالبًا كمامة وزوج قفاز، يُفاجأ باِبتسامة خفيفة تُداري عجزا كبيرا، بعدها يسمع: معذرة لم يموّنوننا بعد. يتساءل عن الكم الهائل المُستورد من المادّة المُعلن عنه في وسائل الإعلام أو عن تلك الكمّيات التي يتم تصنيعها في البيوت ومن قِبل الجمعيات لتُمنح مجانًا، تنحبس الاِبتسامة في وجهه مُديراً ظهره مُقبِلاً على الباب الّذي دخل منه لعلّ يكون فيه المخرج من أزمة الكورونا.
مازالت المدينة لم تُعلن خوفها الكامل والنّاتج عن حذر من الوباء المُرعب، لقد أصبحت أحاديث النّاس تلوك أعوص المعلومات الطبية فيما يتعلق بالوقاية، والجميع صار خبيرا بمفاهيم الوباء والوقاية والكوب الساخن الّذي يقضي على كوفيد 19 إذا سكن حلق الفرد. اُستهلكت الأخبار المتداولة المتعلقة بالوباء حتى لكأنّها غدت فكاهة، وأصبح التحدث عن الوباء كما النكتة، لأنّ المُتكلم يعرف أنّه لا يمكن أن يُحيط بالوباء في دقائقه، وفي نفس الوقت هو يعي أنّ المُتلقي يعرف مثله أو أفضل منه، لكن كلاهما لا يمكن أن يقف على القواعد الطبية المُؤسّسة والناظمة والحاكمة لحقيقة الوباء، فيستأنس كلاهما بحديث الآخر ليفترقان وفي رأس كلّ منهما يدور سؤال: ماذا لو أخطأتُ في تقديم المعلومة؟ يسيرُ كلّ منهما خطوة أو خطوتين ليلتقي صديقًا آخر يستفيض في سردية أخرى للمرض وطُرق الوقاية منه وآخر أخبار «الكلوروكين» وديدْيي راوولت.
تعود المدينة آخر المطاف قابعة في أسئلة الوعي على صفحة جريدة أو جدار صفحة من صفحات التواصل الاِجتماعي أو تواصل هاتفي بين فردين تجمعهما صداقة أو قرابة: هل فعلاً نعيش حداثة القرن الـ21؟ لقد كشفت وبائية الكورونا هشاشة الوضع العالمي، فليس هناك فرق بين فرد العالم الأوّل وفرد العالم الثالث، فالدول تتبادل سرقات المواد الطبية العازلة، الجميع أثبت اِستخفافه واِستهزائه بظرف ليس أشدّ منه خطورة في كلّ العصور، والجميع أثبت إفلاسه في مواجهة الوباء، فلا أنظمة صحّية جاهزة لهكذا ظرف مفاجئ، ولا أنظمة اِجتماعية مُنشَّئة لتتواءم تربيتها مع الوضع الراهن للعالم، فبعض مظاهر الوقاية في بعض مُدن القرية الصغيرة كانت للتمويه أو للتظاهر فقط، لأنّه ليس الوعي بخطورة المرض هو الّذي يحرّك الناس، يبدو لي أنّ جماعية المشاركة في مهرجان الوقاية هو ما يدفع البعض إلى التخفي وكأنّ العالم يعيش حفلة تنكرية، الفرح أحيانا يأتي من هذه الجماعية العفوية التي يُفاجئها طارئ ما يُخضع الكافة لقوانينه، فتبدو المجموعة الاِجتماعية وكأنّها تتحرّك ضمن حالة مسرحية، مجهولٌ اللاعب بخيوطها، فتغلب عليها العفوية لأنّ مصدر الحركة يدير الخشبة في غموض تام مِمَا يُحرّك الإثارة والاِنفعالية، ومن ثمّة الاِعتياد على الوضع، فيسود الاِستخفاف ويصبح الوضع على خطورته مجرّد حالة لهو تستهوي من يُجيدون التنكر في ليالي الهالوين البهيجة المُرعبة.