هل بإمكان السوسيولوجيا أن تُواكب آثار ما بعد أزمة كورونا وما يمكن أن تترسب عنها/ومنها في ذهنية ونفسية الإنسان بِمَا فيه الإنسان الجزائري، وما دور السوسيولوجيا في الأزمات، بِمَا فيها أزمات الأوبئة. ولماذا كانت دائما غائبة عن مقاربة مثل هذه الأزمات؟ ولماذا لا توجد دراسات تنظيرية في ميدان السوسيولوجيا أو مساهمات تُؤسس لسوسيولوجيا الصحة والأوبئة، وكذا سوسولوجيا العلاقة بين المرض والمجتمع أو بين الإنسان والأوبئة. أم أنّ التنظير لهذه العلاقة سوسيولوجيًا لم يكن من اِهتمامات السوسيولوجيا والسوسيولوجي لأنّها ترتبط مثلا بأزمنة متباعدة وبأزمات قليلة الحدوث. أيضا ما الّذي يمكن الاِنتباه له أو ملاحظته على المستوى السوسيولوجي في غمرة الوباء العالمي «كورونا». وكيف يمكن للفاعلين والباحثين في حقل العلوم الاِجتماعية إعادة صياغة مقاربات سوسيولوجية تُساهم في بلورة وعي جماعي يُؤسس لمجتمع يتعامل مع الأوبئة بطرق عقلانية يكون فيها شريكًا في مواجهة الأزمات. وهذا ما يُؤكد من جهة أخرى مدى ضرورة الحاجة لسوسيولوجيا الصحة كعِلم يُنَّظِر لدور الوعي والثقافة في مواجهة الأوبئة.
حول هذا الشأن «السوسيولوجيا والأوبئة»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد مع مجموعة من الدكاترة والباحثين الأكاديميين المختصين في عِلم الاجتماع.
- يوسف بوزار/ أستاذ وباحث في عِلم الاِجتماع –جامعة البليدة 02 : ممارسات خاطئة في المجتمع كشفتها كورونا تعتبر مجالا خصبًا للدراسة والتشخيص السوسيولوجي
يعيش سكان العالم تحت وطأة تبعات جائحة كورونا التي اِنعكست سلبًا على جميع الأصعدة السياسية والاِقتصادية والاِجتماعية، وأدخلت العالم في معركة للسيطرة على هذا الفيروس الّذي يشهد اِنتشارا متزايدا عبر العالم، ويحصد الكثير من الأرواح في ظل عدم وجود دواء ناجع للقضاء عليه، ولا تاريخ مُفترض لزواله، هذا الغموض جعل سكان العالم يعيشون حالة من الريبة والترقب، خصوصًا بعد فرض أغلب دول العالم الحجر الصحي على مواطنيها، وهو ما تسبب في فقدان الكثير منهم لمصدر رزقهم، إضافة إلى تغير جذري لنمط حياتهم، وما زاد الوضع سوءا خصوصًا بالنسبة للدول التي تعتمد في اِقتصادها على الريع البترولي هو تهاوي أسعار برميل النفط بشكلٍ غير مسبوق، وهو ما زاد المشهد أكثر ضبابية وإثارة للقلق لدى شعوب هذه الدول.
أمام هذا الوضع الراهن يظهر لنا جليًا الدور المُهم للباحثين والمُختصين في عِلم الاِجتماع خاصة فرع سوسيولوجيا الصحة والمرض لدراسة تجليات جائحة كورونا، على المستوى الاِجتماعي، ومحاولة تشخيص وفهم تفاعل الأفراد في ظل هذا الوباء، فخوف البشر من الإصابة بالمرض والموت وتعلقهم بالحياة يجعلهم يُقْدِمون على أنماط من السلوك تتميز بالأنانية والفردانية، وخير مثال على ذلك تهافت المواطنين على اِقتناء المواد الغذائية وتكديسها في منازلهم أكثر من حاجاتهم، والتي ربّما يُرمى الكثير منها بسبب تلفها، حارمين بذلك مواطنين آخرين من هذه السلع، وهذه صورة واضحة وجلية للأنانية، وما يُثير الاِنتباه في وطننا العربي ومنه المجتمع الجزائري هو عدم اِحترام قواعد السلامة المُوصى بها خاصة ما تعلق منها باِحترام مواقيت الحجر الصحي، وكذا مسافة الأمان بين المواطنين خارج منازلهم، فبالرغم من عِلم أغلبهم بذلك إلاّ أنّنا نشاهد «طوابير» طويلة لا تُحترم فيها قواعد السلامة الصحية، كلّ هذا من أجل الظفر بأنواع معينة من المواد الاِستهلاكية، مُتغافلين بذلك عن خطر الإصابة بهذا الفيروس، وما يترتب عليه، فبالرغم من طمأنة المسؤولين الجزائريين على اِختلاف رُتبهم بأنّ المواد الاِستهلاكية متوفرة، وأنّ الوضع مُتحكمٌ فيه، إلاّ أنّ ذلك لم يُغير من نمطية سلوكيات أفراد المجتمع، وذلك راجع لأزمة الثقة بين الشعب ومسؤوليه، وهذا ما يجعل أفراد المجتمع الجزائري يتصرفون وفق ما تمليه عليه أهواؤهم، كما تجدر الإشارة إلى نقطة أخرى اِستفحلت في مجتمعنا وهي ظاهرة العنف المنزلي، فبالرغم من غياب إحصائيات حولها إلاّ أنّ ظروف الحجر الصحي في المنازل التي تتميز أغلبها بعدم توفر سُبل الراحة والعيش الكريم سواء من حيث المساحة أو من حيث التجهيزات، كلّ هذا يُؤثر سلبًا على نفسية الفرد ويجعله أكثر إحباطًا وفي حالة من التوتر والقلق بسبب هذا الوضع المُستجد الّذي لم يتعوّد عليه، وهو ما يجعله أكثر إقبالاً على القيام بسلوكيات عنيفة لأتفه الأسباب، تنفيسًا عن غضبه، فيذهب ضحيةً لهذا الغضب بعض أفراد العائلة الزوجة مثلا أو الأبناء...
كشفت لنا جائحة كورونا العديد من المُمارسات الخاطئة لدى أفراد المجتمع تُعتبر مجالاً خصبًا للدراسة والتشخيص من قِبل الباحثين في ميدان عِلم الاِجتماع، من أجل فهم وتقويم هذه السلوكيات ومحاولة تغيير الذهنيات خصوصًا في فترة الأزمات والتي من بينها الأوبئة، وهذا لا يتحقق على أرض الواقع إلاّ من خلال إعطاء اِهتمام أكبر بالباحثين في هذا المجال ودعم دراساتهم وبحوثهم.
- عبد الحليم مهورباشة/ أستاذ محاضر –جامعة سطيف2 : الأزمة أبانت من زاوية سوسيولوجية عن مؤشرات تدل على تحوّلات في الوعي الجمعي
لأوّل مرّة في تاريخ الجزائر المستقلة، تعرف أزمة وبائية نفذت إليها من البوابة العالمية، تختلف عن الأزمات والكوارث الطبيعية السابقة، كزلزال الأصنام، وفيضانات باب الواد، وزلزال بومرداس، حيث مست كلّ كارثة رقعة جغرافية محدودة، وكانت زمنيًا تنتهي بعد بضعة أيّام، رغم أنّ آثارها الاِجتماعية قد تمتد لسنوات، لكن كانت هذه الكوارث الفُجائية لا تمنح الفرصة للفاعلين السياسيين لاِتخاذ التدابير اللازمة لمواجهتها، لكن إدارة آثارها الاِجتماعية والاِقتصادية كانت ممكنة في غالب الأحيان. بينما كارثة أو جائحة كورونا، فإنّها جغرافيًا مست كلّ الجغرافيا الوطنية، وزمنيًا بحسب خُبراء الصحة لا أُفق زمني لنهايتها، ولا يسلم منها فرد أو جماعة أو مجتمع محلي، فكلّ فرد مُعرض اِحتماليًا للإصابة بهذا الوباء الفيروسي، فسارعت الدولة لاِتخاذ إجراءات الحجر الصحي، تجسيداً لمبدأ التباعد الاِجتماعي بين الأفراد، إلاّ أنّ هذا المبدأ القائم على قطع العلاقات الاِجتماعية المباشرة بين الأفراد داخل المجتمع، يترتب عليه قطع العلاقات المهينة والوظيفية، وتعطيل الحياة الاِجتماعية والاِقتصادية بأكملها، وهنا، بدأت تتدحرج الجائحة من ظاهرة صحية باِمتياز إلى ظاهرة سوسيولوجية، تبدو لنا كمراقبين اِجتماعيين أنّها بدأت تتولد عنها بعض الآثار الاِجتماعية والاِقتصادية.
تدفع الفئات الهشّة صحيًا ثمن هذه الجائحة الوبائية بحسب خُبراء الأوبئة، وستدفع الفئات الهشة اِجتماعيًا ضريبة هذا التحوّل الاِجتماعي الّذي فرضته الجائحة على المجتمع الجزائري، سيكون أوّل ضحاياها الفئات الاِجتماعية التي تشتغل في القطاع الاِقتصادي غير الرسمي، وهي فئات تعيش على هوامش الاِقتصاد الرسمي. وكذلك ستدفع الثمن الفئات الاِجتماعية التي تشتغل في قطاع الخدمات، التي أُجبرت على التوقف عن ممارسة أنشطتها بسب تدابير الحجر الصحي، قطاع النقل نموذجًا، وكذلك من الفئات الاِجتماعية التي ستُعقد الجائحة من أوضاعها الاِجتماعية البروليتاريا الرثة، وهي تلك الفئات التي تعتمد في معيشها على رحلة العمل اليومي، لذلك نعتقد أنّ هذه الفئات الاِجتماعية ستنظم إلى الطبقة الاِجتماعية الفقيرة، وستتوسع دائرة الفقر، خاصة على مستوى المُدن والمراكز الحضرية.
كشفت هذه الجائحة الصحية عن ظواهر اِيجابية، كظاهرة التضامن الاِجتماعي بين مختلف الأفراد والجماعات الاِجتماعية في السياق الجزائري، حيث لاحظنا كيف قدمت جمعيات المجتمع المدني ومؤسساته أطنانا من المساعدات الغذائية والطبية، مِمَا يشي بأنّه هناك مخزونًا قيميًا، يمكن التعويل عليه في التخفيف من حدة الآثار الاِجتماعية لجائحة كورونا، ومن جهة أخرى، لاحظنا ظواهر سلبية، كظاهرة الاِحتكار والمضاربة، وظاهرة الاِستهتار بقواعد الحجر الصحي من قِبل بعض الفئات الاِجتماعية، حيث تغلب هذه الفئات مصالحها الفردية ورغباتها البيولوجية الآنية، ما يسهم في نشر العدوى، ما يعني تعميق الأزمة الاِجتماعية وإطالة زمنها، وهنا، يُطرح سؤالٌ آخر حول مسألة الوعي الصحي لدى الفرد الجزائري، ولماذا لا يلتزم بالقواعد الصحية؟ هل الأمر يتعلق بغياب التنشئة الاِجتماعية على مثل هذه القواعد الصحية؟ أم يتعلق بضعف مؤسسات الضبط الاِجتماعي الرسمي؟ أم يرتبط بالصراع بين المصالح الفردية والمصالح الجماعية داخل الفضاء العمومي؟ تحتاج هذه الأسئلة أن نجيب عليها من خلال إجراء دراسات سوسيولوجية ميدانية.
في الأخير، أبانت هذه الأزمة الصحية من زاوية سوسيولوجية عن مؤشرات تدلل على تحوّلات في الوعي الجمعي تجاه بعض القضايا والظواهر، فأوّل هذه المؤشرات، مؤشر وجاهة النُّخب الطبية، فتشكل وعيًا لدى مختلف الأفراد حول ضرورة إعادة النظر في المكانة الاِجتماعية للمشتغلين في المؤسسات الصحية. ويتمثل المُؤشر الثاني في الوعي الجمعي بتفكك المنظومة الرمزية داخل المجتمع الجزائري، وأثرها السلبي على توجيه الأفراد في زمن الجائحة، لذلك ترميم هذه المنظومة الرمزية التي ظلت تبدو من وجهة نظر الحداثيين تقليدية، بات ضروريًا لفعاليتها الإجرائية في أزمنة الأزمات، دون أن يعني ذلك العودة إلى ممارسات الهيمنة الثقافية والإقصاء الاِجتماعي. والمُؤشر الثالث، الوعي الجماعي بأنّ مسألة التغيير الاِجتماعي والسياسي أعقد مِمَا تتصوره بعض النُّخب الثقافية والسياسية، وتحتاج إلى مكابدات تربوية والى مشاريع فكرية توعية، وليست مسألة شِعارات نرفعها في المسيرات والمظاهرات.
- أسماء دناف/باحثة في عِلم الاِجتماع –جامعة سيدي بلعباس: لم نلحظ الدور الأساسي للسوسيولوجيا في فهم ديناميكية هذه الأزمة
إنّ السيرورة التاريخانية التي عرفها العالم ضمن نسقية تغيرية، مستمرة في مستوياتها الفيزيقية والفكرية والإنسانية. فلا شيء ثابت، فالمجتمعات الإنسانية خاضعة لحتمية التغير والتحول سواء كان لنتيجة محسوبة ضمن مشروع مجتمعي قائم، وإمّا لمسببات طارئة مُفاجئة خرجت عن السيطرة الإنسانية كما حدث في الآونة الأخيرة مع ظهور فيروس كورونا -كوفيد19- وهو فيروس أدخل العالم في حلقة جهنمية من اللااستقرار واللاأمن، حيث خلخلت الأنظمة القائمة فتمّ تعرية بعض المجتمعات وخاصة المتقدمة من مثاليتها الزائفة لواقعها بمبادئه المختلفة من جهة وإعادة النظر في المكونات المجسدة للمجتمع ومأسسته بالنسبة للمجتمعات المتخلفة، بين هذا وذلك نجد ملكة العقل تبحث عن الحقيقة محاولة فك الرموز المشفرة وخوض رحلة التنقيب والاِستكشاف العلمي ضمن مجالات وتخصصات متداخلة فيما بينها من أجل محاولة فهم مسببات هذا الفيروس مكوناته وتراكيبه وكيفية الحد منه ومخلفاته على الإنسانية، فبالرغم من أنّ الفيروس ذو طبيعة بيولوجية محضة من اِهتمامات عُلماء الطب والبيولوجيا وعِلم الأوبئة بالدرجة الأولى إلاّ أنّ إقصاء العلوم الاِجتماعية والإنسانية من محاولة فهم وتفسير أزمة كوفيد19 ومدى تقبل المجتمعات الإنسانية لفكرة المرض في حد ذاتها ومخلفاته عليها.
أمام جدلية هل الفيروس طبيعي أم مصطنع ومفتعل، سخرت الدول وخاصة المتقدمة كلّ الكوادر والنُّخب العلمية المُتخصصة في عِلم الوراثة والأوبئة من أجل التحقق في هوية الفيروس وتصعيد الفرضية المتضمنة أنّها لعبة سياسية وحرب بيولوجية تهدف إلى تحطيم اِقتصاديات دول وهيمنة أخرى على الصعيد العالمي، غير أنّنا لم نلحظ الدور الأساسي للسوسيولوجيا في فهم ديناميكية هذه الأزمة سواء تحدثنا عن السوسيولوجية الأوروبية أو العربية وخاصة في الجزائر. لنقف أمام لحظات تساؤلية لفهم واستكشاف أزمة السوسيولوجيا والواقع المأزوم فهل هذا الإقصاء للسوسيولوجيا ظل حبيس الدوغمائية في إعطاء الأولية للعلوم الدقيقة واعتبارها المُخلص للمجتمع من براثن التخلف والدفع به لمواكبة الحداثة الكونية؟ أم ثنائية [مرض/صحة] حصرا فقط على أهل الاِختصاص ولا يحق للسوسيولوجي ممارسة بحثه في هذا المجال؟ أم أنّ السوسيولوجيا في الجزائر لازالت في طريق البحث عن ذاتها ولم تتأسس حتّى في عمومياتها حتّى تصل للتخصص ضمن حقل المخاطر والأزمات؟
يرى ريمون بودون في كتابه ‹›أبحاث في النظرية العامة في العقلانية، العمل الاِجتماعي، والحس المشترك›› أنّه لا يوجد أي اِنقطاع بين المعرفة الطبيعية ومعرفة الإنسان والسبب هو أنّ الهدف الأساسي الّذي ترمي إليه العلوم الإنسانية وعلوم الطبيعة هو تفسير الظواهر التي لا ندرك أسباب وجودها تلقائيًا، فبظهور فيروس كورونا في الجزائر وارتفاع أعداد المصابين يوميًا يعيش المجتمع حالة من الخوف من الإصابة، وحالة من التوتر جراء الحجر الصحي.
لكن فقدان روح العقلنة في أبعادها الاِجتماعية والسيكولوجية حال بين ترسيخ الوعي الصحي، فيخترق المواطن القانون وفق مبدأ كلّ ممنوع مرغوب. هنا يكمن دور السوسيولوجي في فهم تمثلات المجتمع للمرض أوّلا، ثم شرح والتعريف بالفيروس بالتعاون مع أطباء [هنا نفتح قوسًا كبيرا في طرح اِستشكال أن يتقبل أن يُشكل الطبيب والسوسيولوجي ثنائية تكاملية في شرح الفيروس وهذا نتيجة ترسيخ أولوية العلوم الدقيقة وأهميتها القصوى وتهميش واحتقار العلوم الاِجتماعية من الجامعة إلى المهنة] بعدها طمأنة الفرد وشعوره بالأمان عن طريق توجيهات وطُرق الوقاية من العدوى هنا فقط يمكن الحديث عن الوعي الصحي للمجتمع، هذا من جهة، ومن جهة ثانية كيف نضع في مقررات جامعية في تخصص عِلم الاِجتماع مقياس عِلم اِجتماع المخاطر ونحن لم نستوعب بعد السوسيولوجيا في إطارها العام وليس لدينا اِستراتيجيات بعيدة المدى في مواجهة الأزمات المُفاجئة وليس البحث عن الحلول الظرفية الترقيعية التي تزيد من تأزم الواقع.
فالحديث عن الكورونا أو ما بعد الكورونا يفتح مستجدات الاِستفهامات وخاصة ما تعلق بثنائية [الكوني/المحلي] في إعادة تموقع المجتمعات بمعايير خلفتها جائحة كوفيد19. والتأكيد على سؤال الخصوصية الّذي يعتبر محور التأسيس لعِلم الاِجتماع المحلي/الجزائري.
- كمال صلاي/باحث في عِلم الاِجتماع –جامعة وهران2 : حاجة إنسان مابعد كورونا إلى السوسيولوجيا كاِستهلال للوعي بالذات
أفرزت الأزمات والمخاطر العالمية التي اِجتاحت مختلف الدول والمجتمعات البشرية منذ فجر القرن الحادي والعشرين، عِدة اِرتدادات كونية ساهمت في خلخلة الأنظمة الكيانية والبنيوية، الباحثة عن نموذج الـego الجديد أو الإنسان الكامل، أين تضاربت بخصوصه فلسفات التدمير التقليدي لأنطولوجيا الذات براكسيسياً، في ظل ما كرسته أسئلة الأنوار حول كينونة الكائن الثقافي، وما تبعها من تغيرات فينومينولوجية مع رهانات الحداثة، وقضية المركزية الكوسمولوجية للعقل الغربي تحديداً، مِمَا عَجل بضرورة إحداث الوثبة النوعية، الناقدة لاِستشكالات العقلانية الأحادية العولمية، عبر اِستئناف التنقيب المعرفي في مدارات التنوع والتعدّد ومقتضيات المثاقفة والاِختلاف، والتي أذنت بالدخول التاريخي في وتيرة فكرانيات جديدة، طُرحت سجالاتها الإبستيمية والفكرية في ما يُسمى بـ»خطابات المابعد»، حيث أصبحت العقيدة الثقافية ضمن هكذا براديغم مُغاير، تشهد اِنحلالاً أكسيولوجياً وتفككاً اِجتماعياً، اِنسحب خلالها العديد من الفلاسفة وعُلماء الاِجتماعيات إلى إعلان نهاية الأخلاق وموت الإنسان، أين باتت قيم الفوضى، العبث، العدمية وما جاورها من باطولوجيات وجودية، تروم نحو التفكير في تجاوز حتمية الإنسان المجتمعية، والتي تعرض حيالها إلى كُبرى الإهانات التاريخية في الزمن المعاصر (الإهانة الكوسمولوجية والإهانة الفيزيولوجية والإهانة السيكولوجية)، اِنتهت رتابتها في الأخير إلى إعادة طرح سؤال الأنسنة من جدلية عودة الهويات الجماعية إلى تأسيسيات الحفر في فكرة العيش المشترك؟
في هذا السياق، اِكتسى الحراك الكوكبي الماثل في الظاهرة الوبائية لجائحة كورونا، عِدة أسئلة جديدة اِستنطقتْ صورة المنسي في الكينونة الإنسانية، بغية إنتاج التقارب العقلاني والوجداني بين الإنسان والآخر في عملية البحث عن البقاء الجماعي، ما شَكَلَ في متونه عودة المفاهيم الكلاسيكية والرواسب الثقافية إلى الاِنبعاث والإحياء، من خلال تموضع بنية الفرد في المرواز الاِجتماعي للمجتمع، لاسيما بعد الاِرتدادات المعرفية، التي أحدثها منطق اللامُتوقع واللامُفكر فيه في ثنايا الاِهتمام الدائم للفكر بمطارحات الحقيقة والواقع، وهو ما يدفعنا في هذا الصدد، إلى اِستشكال مكانة السوسيولوجيا وعلوم الإنسانيات في عالم متغير؟ بالقول: هل أصبح يقينياً التفكير في عِلم اِجتماع مُوائم يدرس مسألة المعاش بدلاً عن هلامية الواقع؟ حيث خلفت الفوضى الذهنية –بالمفهوم الكونتي- التي مست العقل المحلي على هامش هكذا تغيرات، في بعدها الجيوسياسي والعالم الاِقتصادي، الكثير من المراجعات المستكينة في ثنائية المركز والأطراف أو بين المجتمعات المنتجة للمعرفة والمجتمعات المستهلكة لها، على ضوء ما أجمعت عليه مختلف القراءات والتحليلات الراهنة فيما يخص ميلاد ما يُسمى بالنظام العالمي الجديد، والّذي من شأنه أن يُبدِل كلّ الموازين الدولية والمداخل التفسيرية والتغييرية للمجتمعات البشرية وفق نُظم ومنظومات أخرى.
وعلى مبنى هذا الأساس، تبقى مُهمة إنتاج المعرفة السوسيولوجية في التجربة الجزائرية كما هي في السياق العربي أو الغربي، وليدة التفكير الخصب ذي البُعد الثقافي الخصوصي، لاسيما وأنّ أسئلة التأصيل الإبستيمي للمناظير الفكرية لعِلم المجتمع الجديد، ستنطلق مشتركة من قضايا الراهن المُعاصر والمُتمثلة جوهرياً في: «سوسيولوجيا التاريخ، سوسيولوجيا النهضة، سوسيولوجيا المخاطر، سوسيولوجيا السياسة، سوسيولوجيا المحلي، سوسيولوجيا الاِقتصاد المعرفي، سوسيولوجيا المستقبليات...الخ»، خاصةً وأنّ مسألة الإقلاع الحضاري للكينونة الجزائرية، مردها تكوين العقل النقدي ومُمارساته التفكيكية والبنائية، لأنّ المُغيَّب في أجندة اليقظة السوسيولوجية لديها، مقترن بسؤال الحرية الفكرية أوّلاً وأخيراً، ناهيك على أنّ ضرورة الدخول في التاريخ، يستدعي التفكير بالعلوم الاِجتماعية لا التفكير فيها، بحكم أنّ حقيقة المجتمع تنبض من سيرورة التغيير التي تنتجها أطاريح الأزمات زمكانياً، وعليه، إنّ حاجة إنسان مابعد كورونا إلى السوسيولوجيا كاِستهلال للوعي بالذات، لم يعد مطلباً ما ينبغياً بقدر ما أضحى سؤالاً اِستعجالياً مفاده: أي إنسان جزائري جديد لأي مشروع حضاري في عالم متغير؟.
- عبد الكريم العراجي/أستاذ عِلم الاِجتماع السياسي –جامعة وهران2 : نعاني من غياب السوسيولوجيا كثقافة فاعلة في المجتمع
كما هو ظاهر فإنّ جُل التطلعات في الجزائر كما في كلّ الدول، كانت تنادي بضرورة تكثيف الجهود من أجل محاربة الوباء العابر للدول والمجتمعات وكان التركيز على الجوانب التقنية والخدماتية كتوفير اللقاحات والمواد الأولية وتوفيرها للمجتمع أكثر ما يشغل الدول ومؤسساتها، لكن في الجزائر تمّ إهمال عنصر أساسي ومهم في مواجهة هذا الوباء وهو الوعي الّذي يُؤسس لمجتمع يُؤمن بثقافة مواجهة الأزمات وفق معايير فكرية تتجلى في نشر أفكار التوعية من خلال الفاعلين في المجتمع المدني كجمعيات وهيئات تُؤمن بضرورة الوعي في عملية توجيه المجتمع ومحاصرة اِنتشار الوباء عن طريق إلزام الفرد بضرورة تطبيق معايير السلامة العمومية. ولقد تجلت لنا معضلة الوعي المجتمعي في كيفية تعامل المواطنين مع الحجر الصحي باِعتباره تعديًا على الحريات لدى بعض الأشخاص وذلك بسبب غياب الوعي المجتمعي بالأزمة ويُمكننا إرجاع هذا الواقع في مجتمعنا إلى عجز المؤسسة الجامعية في إنتاج خِطاب علمي يُعتبر بمثابة جسر بين المجتمع والدولة، بل لا نلحظ أي تغلغل للخطاب الجامعي في أوساط المجتمع المدني إن كان يستحق هذه الصفة والسبب الرئيسي يكمن في تهميش السوسيولوجيا كعِلم يُؤسس للوعي المجتمعي وباِعتباره حجر أساس في بناء مشروع الدولة والمواطنة التي تتجسد في شكل علاقات تبادلية وتفاعلية وحتّى ممارسي الدرس السوسيولوجي في الجامعة ركزوا على الدراسات الميدانية وغيبوا التنظير النقدي الّذي يُفسر طبيعة المجتمع ويُفكك أنماط التفكير الاِجتماعي.
كورونا وباء قام بتشخيص المناعة المؤسساتية والخدماتية للدول وعن نماذج علاقاتها مع المجتمع وهذا ما زعزع الثقة بينهما، لكن السؤال المطروح هو لماذا تفشل الذهنية الجزائرية في مجابهة الوباء؟ هذا الفشل مرده إلى غياب السوسيولوجيا كثقافة فاعلة في المجتمع تسعى لإيجاد الحلول وإنتاج الوعي الّذي يُعد مؤسسة من مؤسسات صيانة المجتمع ومن هذا المنطلق يجب أن نُعيد الاِعتبار للسوسيولوجيا ونُمكنها من التموقع في المجتمع وبالخصوص سوسيولوجيا الصحة التي تُؤسس لعلاقة تفاعلية بين الإنسان والأوبئة حيث يكون الإنسان أو الفرد الفعّال الواعي هو من يُدير الأزمة ويتحكم فيها وليس الأزمة هي التي تتحكم فيه، وعلى ضوء هذا الوباء المُستجد في الجزائر يجب على جميع الفاعلين والباحثين في حقل العلوم الاِجتماعية إعادة صياغة مقاربات سوسيولوجية تُنَّظِر لبارديغمات جديدة تُساهم في بلورة وعي جماعي يُؤسس لمجتمع يتعامل مع الأوبئة بطرق عقلانية ويكون شريكًا للدولة في مواجهتها للأزمات والمُلاحظ في هذه الفترة هو أنّ نفسية الفرد الجزائري كانت تفتقر للوعي وتتميز باللامبالاة وعدم التقيد بمعايير التباعد وقوانين الحجر، لذلك يجب تفعيل المناهج السوسيولوجية وتجديد المقاربات والنأي عن الإيديولوجية التي همشت السوسيولوجيا وغربتها في مجتمعها الخصب بالظواهر والأفكار والممارسات وكلّ المستجدات التي تعيشها الجزائر تُؤكد ضرورة حاجتها لسوسيولوجيا الصحة كعِلم يُنَّظِر لدور الوعي والثقافة في مواجهة الأوبئة.