« لطالما تخيّلت الجنّة على هيئة مكتبة !»
بورخيـس
- عدنان لكناوي
يموت الإنسان ويفنى، وتبقى الكلمة، فالكلمة حياة، وانتصار في وجه الزمن، إنّها الوجه الآخر للثــورة والثـــروة في آن واحد؛ فهي ثروةٌ بما تحمله من معارف، ورؤى، وأفكار، وقيّم، وثقافة، واختلاف... وثورة لأنّـها تَكْسِر القيود، تُخلخِل المركز، وتحتفي بالهامش، تُفجّر صمت العالم وتحمل في أحرفها ألف قضيّة وألف معنى، فَتَقلِب بذلك موازين القوى وتُغيّر مسارات التاريخ، وتُؤثّر في مصائر الشعوب والأمم؛ ومنه، لا تقوم حضارة دون كتاب، ولا تقوم أمّة دون كتاب أيضاً.
وأن تكتب؛ يعني أن تحيا، يعني أن تكون، يعني أن تنغمس في فنّ من أعرق الفنون التي أبدعها الإنسان على امتداد الأزمنة السحيقة والعصور الغابرة، يقول: دنيس هويسمان (Denis Huisman)
«الإنسان المتوحّش فنان. والإنسان المتحضّر فنّان. وكلاهما عبد الجمال، ومارس عبادته فنّاً؛ نقش الصخر، رمى عليه من ذات نفسه، لوَّنه، نضَّد قصيدة، تَوهَّم أسطورة، جعل من القماش معركة مصير، لخّص في تلوينه الكون، الإنسان، القيم، الله. والفنّان الحقيقيّ هو الذي يصوّر حتى القبح تصويراً جميلاً»
على هذا النحو؛ تغدو الكتابة فنّاً يُشَكّل هويَّة الفرد والمجتمع، وبذا لا نستغرب مقولة أرسطو الشهيرة «الإنسان حيوان ناطق» فلفظة حيوان تحيلنا إلى وجوده الجسديّ الماديّ، أمّا لفظة «ناطق» فتحمل معنى الوجود الروحيّ والهويّاتيّ، ولذلك اعتبر الفيلسوف الألمانيّ هايدغر «اللغة بيت الوجود» فاللغة فعلاً، تسكننا ونسكنها، إنَّنا نُفكّر داخلها، فنصبح أسرى لها، وبعض الكلمات تغرينا، وبعضها الآخر يبعث الروح فينا، وليست الكتابة فكرة وقلما فحسب، أو ورقاً ومطبعة وتسجيلاً لأشياء وتفاصيل من الحياة، بل هي في حقيقة الأمر أكبر من ذلك كلّه.
وفي لغتنا العربيّة، تصوّرٌ للكتابة والمعرفة، سبق به العرب كثيراً من الأمم، وهو تصوّر جادٌّ ومُبكّر يطلعنا على مدى ما كانوا عليه من استنارة وحساسيّة وذوق، فقد ربطوا الكتابة والمعرفة بالــمسكن والمأوى والطبيعة، فقالوا عن الجزء من الشعر «بيتاً» وقالوا عن مجموعة الأبيات « قصيدة» وهي مشتقَّة من القصد، وفي علم العروض والنقد استعملوا مفردات كثيرة من الطبيعة ومنها « العمود، الديباجة، الماء، الفحولة ..» والأمثلة كثيرة في هذا السيّاق. وليست تلكم العلاقات محض مصادفة، بل هي وليدة رؤية وتبصّر عميق تجاه اللّغة والعالم.
وترتبط الكتابة باللَّذة والألم، أمّا الألم، فلأنّها تُشكّل مقاومة الإنسان وصراعه الدائم مع الزمن، وتعميقها للبعد المأساويّ في الحياة، ورفضه فكرة الفناء والزوال، فيترك بحرارة ووهج حروفه التي تشكّل جزءاً من ذاته وكيانه.
أمَّا في علاقتها باللّذة، فلحظات الكتابة نشوة، ومداعبة، ومخاتلة. والكتابة وفق هذا المنطق، تحفيز وإثارة لرغبات لا منتهية: رغبة الحضور، ورغبة إثبات الذّات، ورغبة المعرفة وفضولها، ورغبات التطّلع والاكتشاف والتجريب، وفي هذا كلّه، للكلمة قوّتها ولونها وروحها ورائحتها وسحرها العجيب، يعيشها الكاتب ويتعايش معها، يتلذّذ بها وينضوي تحتها، ولكلّ حرف أو علامة من علامات الترقيم - من نقط وفواصل ..وغيرها- مكانته في معادلة الكتابة والإبداع، يقول الروائيّ الإنجليزي أوسكار وايلد ( Oscar Wild) : «قضيت هذا الصباح كله أعيد النظر في قصيدة، فأضفت فاصلة. ثم قضيت العصر كلّه أعيد النظر فحذفت تلك الفاصلة».
وهكذا، ندرك كيف تغدو الكتابة فعلاً ضرورياً لمجابهة الجهل، والظلم، والتخلّف، يقول نزار قباني: « أُشْهِرُكِ في وجه العالم.
سيفاً من الياسمين..
وأُعلنُ انتصاري
.. أُشْهِرُكِ في وجه الكافرينَ،
كتاباً مقدّساً.
وفي وجه الأميينَ، قصيدة.
ونقرأ في أبيات نزار، ما يدلُّ على أنّ الكتابة دعوة للحبّ والجمال والحياة، والرقيّ بالإنسان، فالكتابة يمكن أن تتخطّى الحدود، وتصل إلى كل شبر من هذه الأرض.
وما القراءة إلا الوجه الآخر للكتابة، إنها رحلات بين جنّات الكتب، ومناجم الأفكار، وكهوف المعرفة، التي خلّدتها أقلام عقول عظيمة، أغنت الفكر البشريّ وطوّرت الإنسان على امتداد تاريخه الطويل، وشعورنا ونحن نطّلع على روائع الفنّ والأدب والفلسفة ونسافر من: المتنبّي إلى شكسبير، ومن الجاحظ إلى موليير، ومن هوميروس إلى المعرّي، ومن هيمنغواي إلى أبوليوس، ومن ابن رشد إلى كافكا، ومن جبران إلى طاغور، ومن جلال الدين الرومي إلى سينيكا، ومن ماركيز إلى كنفاني، ومن سقراط إلى ابن عربي، ومن طه حسين إلى تولستوي، ومن ديكنز إلى العقاد، ومن بروست إلى فوكنر، ومن هيغو إلى الخيّام، ومن غوته إلى التوحيدي، ومن غوغول إلى نيرودا، ومن بيكيت إلى درويش...
مجد الكتابة
- مختار هندبي
«اُكتب يا هيبا، فمن يكتب لا يموت أبدا...»
يوسف زيدان- عزازيل
الكتابة فعل ثوري مقرون بالإبداع والتشكيل، بل أكثر من ذلك بكثير، لأنه خلق؛ فأن تكتب يعني أن تخلق، يعني أن تجرب ولو لمرة أن تكون إلهًا، حينما تخلق مكانا محيّزا وتخلق زمانا، وتبني عوالمَ بطوب الحبر على صحارى الورق الأبيض، أن تخلق عالما موازيا وتؤسس مدنا يمشي في أزقتها كلُّ من يقرع أجراس كلماتك وهو يقرأ لك، كل من يهتدي بأنوار لغتك عله يعثر عليك، أو على شيء من تفاصيلك المبعثرة هنا وهناك؛ أن تكتب يعني أن تسافر عبر الزمن، فتنتقي شخصيات لم تخلق بعد، وتتكلم لغة لم تتشكل بعد، وأن تعود إلى الماضي السحيق فتنفض عنه الغبار، وتعيد رواية التاريخ بطريقة أخرى؛ أن تكتب يعني أن تكون ساحرا فتستعير خيوط «القراقوز»، فتبث الروح في «دون كيخوته»، وتخلق راقصا عاقلا حدّ الجنون كـ»زوربا»، وأن تشكل امرأة شجاعةً، وذكية تداعب الموت كـ»شهرزاد»، وأن تنحت رجلا صلبا، ظلاميَّ القلب كـ»هيثكليف»...
أن تكتب يعني أن تكون، وأن تبلغ أقصى طاقات الإمكان، والتحقّق، ولكن: كيف يبدو مجد الكتابة؟
الكتابة أن تنجب نفسك على الورق آلاف المرات، وفي كل مرة تأخذ لونا وشكلا وروحا تختلف من عمل لآخر، فـ»غوته» الذي أنجب لنا شخصية محبّة عاشقة حالمة، تجلت في شخصية «فرتر» التي شكلت بوابة دخل منها كل من كتبوا عن الرومانسية، هو ذاته من أنجب لنا شخصية شيطانية شريرة حاقدة هي: «فاوست».
الكتابة ليست أن تؤلف كتابا أو كتبا فتكون الأكثر قراءة، وتداولا، واستهلاكا كروايات «أغاثا كريستي» البوليسية، ثم تنسى وتهمل، بل النجاح والمجد في الكتابة أن تؤلف عالما يقلب عالم الواقع البائس، وتبني كوخا ورقيا ككوخ العم «توم» تخرج منه ثورةٌ تغير حياة ملايين البشر وتعتقهم من أغلال العبودية، الكتابة أن «تذهب مع الريح» وتخرج من حقيبة «عائد إلى حيفا»، أن تعثر على «فلوبير» في «مدام بوفاري»، أن تكون إنسانا كـ»ملائكة بين اللهب»، أن تعيش «مائة عام من العزلة» أو أكثر، أن يتحدّب ظهرك في كاتدرائية «نوتردام»، وأن تقطف «أزهار الشر» من «بحيرة لامارتين»، أن تتلفع بـ»معطف» «غوغول» عندما « يأتيك الثلج من النافذة» وأن تخرج حيّا من «أولاد حارتنا»؛ فـ»يتعالى ظلك» وتسألك الكلمات: «لماذا تركت الحصان وحيدا؟» و»تنشد مع المطر»: «إذا الشعب يوما أراد الحياة»...
إن نجاح الكاتب غير مقرون بمدى انتشار أعماله، وارتفاع مبيعات كتبه، وتعدد طبعاتها، بل هو مقرون بقدرته على التأثير فينا، وزعزعة مسلّماتنا، وبديهيّاتنا، وإني لأعجب لرجل كـ»أرسطو» أنجب صبيا سمّاه «فن الشعر» وأبى أن يموت أو يفنى، رغم ضياع أصله المخطوط، ونسخته المترجمة الأولى، فما مضينا في مسلك من مسالك الأدب وشعابه إلا ووجدنا «أرسطو» يخرج في جبين ابنه كي يهدينا إلى سبيل الرشاد.
الكتابة هي أن تترك جزءًا منك على الورق، فنحن حين نكتب نمضي قدما، لكننا نقرأ لنحلّق عاليا، وأذكر عندما كنت صغيرا أنّني سمعت من جدي، الرجل العجوز الأمّي، كلمات يرددها، كنت أحسبها مثلا شعبيا: «الفيل لازم ليه فيلة»؛ وحين كبرت، علمت أنها مسرحية لـ»سعد الله ونوس» عنوانها «الفيل يا ملك الزمان»، حينها فقط أدركت كيف يموت الأشخاص، وتعيش الأفكار.
الكتابة: أن تغرق نارا وتحترق ماءً
- بهاء بن نوار
الكتابة: تلك المغامرة المتفجرة التي لا تلامس ذات المبدع ملامسة عابرة، بل تتبطن أعماق نفسه، وتستبد بالعصب الـغائر من وجوده، جاعلة منه مشروع قـتال طويل، وتنازع مستديمٍ بين عوامل السّكونية والجـمود من جهة، وعوامل الحركية، والانتفاض من جهة ثانية؛ بين الماء الذي يغمره حدَّ الغرق والضياع، والنار التي تبتلعه، وتحاصره، وتلتهم جميع أجزائه.
وهو لدى محاكمة زمنه يتوسّل بالكتابة سبيلا وحيدا يلمّ به أشتات نفسه، ويرتق تخرّقات واقعٍ كلّ ما فيه عرضة للنفي والزوال، ممّا يفجّر ما لا يُعدّ من الأسئلة والإشكالات:
- هل الكتابة جوهر الوجود وموئل هويّته الصميمة؟
- هل يمكن التعويل عليها حقا في تجاوز نمطيّة الراهن وجفافه؟
- هل الكلمات هي التي تخلق كينونة الأشياء، وتكسبها جوهرها؟ أم أنــها لا تزيد على أن تكون كيس رمل يتيم نحتمي خلفه ممّا يحيط بنا من عدميَّـة، ودمار، ومشروعا انتقاميا نـثأر فيه من موتنا المـؤجَّـل – حياتــنا – ونستعيض به عن ضعفنا وجوعنا إلى القوة والألوهة؟
- هل هي وحدها التي تغيّر العالم؟ وتقتطف أجمل ما فيه؟ أم أنها – كما يصفـها الكاتب العالمي إيفو أندريتش (Ivo Andrić) – ليـست سوى حكايا شهرزادية، تـُتداوَل عبر القرون بمليون شكل مختلف، على إيقاع نفس الرئة ونـبضات القلب، وكأنـَّهـا تصبو كما كانت تصبو شهرزاد الأسطورية إلى خداع الجلاد، وإلى تسـويف المأساة الحتمية التي تهددنا، وإلى إطالة حالة التوهـم بالحياة والدَّيمومة؟
أسئلة كثيرة كهذه راودت كثيرا من المبدعين، واستبدَّت بالشق الأرحب من تفكيرهم، الذي كثيرا ما ترهقه – حتما – تناقضات الزمن ونشازاته.
نجد مثلا الروائي «عبد الرحمان منيف» يتحدَّث على لسان أبي زكي النداوي؛ أحد كائناته الحبرية في رواية: «حين تركنا الجسر» فيقول: «الكلمات دخان... الكلمات أرجل خشبية... الأرجـل التي لا تعرف الوقوف، أمَّا الفعل فــهو كلُّ شيء...» ممّا يوحي بيأس فادح، لا يمسّ الكلمة الإبداعية نفسها بقدر ما يمس طريقة استعمالها، وملابسات قولها، التي تفقد وهجها وتأثيرها، حين يعمد صاحبها إلى الاتكاء على زخارف الألفاظ، وجعجعاتها التي لا تفعل شيئا سوى الانزلاق الكسول على سطح الواقع، والمحاكاة البليدة لجميع منجزاته.
وهو ما قصده ربّما الروائي «كازانتزاكيس» (Kazantzákis) حين قال على لسان «زوربا» (Zorba) حين سأله الراوي عن سبب امتناعه عن الكتابة، فقال: إنَّ جميع الذين يعيشون الأسرار، كما ترى، ليس لديهم وقت للكتابة، وجميع الذين عندهم وقت لا يعيشون الأسرار.»
و»كازانتزاكيس» في هذه الـفـقرة لا ينتقص من قدر الكلمة بقـدر ما يودّ تكريس حـتمية أن تنطلق من الواقع، وأن تكتسب حضورها به وفيه، مخترقة القشرة الخارجية بملامسة الحقائق والأسرار، والانفـــتاح على أكبر قدر من التجارب والخبرات الإنسانية التي بها وحدها يتكمّل وجود الكاتـب، وتكتسب أوراقه شرعية حضورها، مضطلعة بتبديد الظلمة والخمول، والكشف عن بتولــية العالم بافتكاك عناصر السحر والالتماع فيه، وبإعادة إنتاجها من جديد، وإطلاقـها عبر تشكيل لغويٍّ خصب، ليس محاكاة باردة لمعطيات الراهن، بقدر ما هو إضاءة وتكثيف للجميل منها، وتجاوز وانقلاب على قبيحها ومعتمها.
بهذا وحده ينتزع الكاتب لنفسه حق أن يكـــون، وبه وحده يصبح إنسانا فاعـــلا، ومختلفا؛ إنسانا ترتعش الكلمات بين يديه نابضة بفرحة الحياة، لا فأرا لا يفعل شيئا سوى «مضغ الورق، والتلوث بالحبر.»
ولذا يصف أندريه مالرو (André Malraux) الفـن وهاجس الخلق، والإبداع بأنّه مضاد للقدر: L›art est un anti-destin
وما القدر – فيما يقصده مالرو – سوى ما يفرضه الواقع الخارجيّ على المبدع من رتابة، وابتذال، وقيود ثقيلة تحاصره من جميع الجهات، وتوهمه بثبوتيّة الأشياء، واستحالة هزّها أو تحريكها، أو حتّى محاولة التحديق فيها، وتأمّلها.
ولعلّ هذا هو ما قصده هيدغرHeidegger)) حـين قال: «الشعر يهب الأسماء التي تخلق الكينونة وجوهـر الأشياء»، أي أن العلاقة فيه بين الدّال ومدلوله تصبـح ضروريّة وحتميّة، بل تغدو قدرا لا يغالب، ولا يمكن الفكاك منه، أو محاولة الاستعاضة عنه بعلاقة أخرى تجمع بين المدلول نفسه ودال آخر.
ولذا عدّ الخلق الذي يعني – في أبسط معانيه – الابتداع من العدم، صـفة لازمة للشعر، ولصيقة به؛ فهـو الذي يهبنا – كما يقول هيدغر – الأسماء التي تخـلق الكينونة، وهو الذي يفتكّ لنا من جحيم المبتذل واليوميّ فردوسنا الأعلى، الذي يغدو معه الاسـم صوتا، وصورة، وجـسدا، وروحا حـيّة، نابضة بالدفء، والانسجام.
بين الأرض والسماء.. يبقى المبدع حاملا سرّه الأوحد؛ بطلا أسطوريّا، خارقا، يحتضن مصيره بقوة وضرام، ويسلّم بقدره الأبدي، الذي لا سبيل إلى التملّص منه، والذي يأبى عليه إلا أن يكون فـــردا فاعلا؛ يعـشق المجابـهة، والقتال، وينبذ عوامل الضحالة والهمود.
فالكلمة قدَرٌ إذن، لا للصوقها بكينونة الأشياء – فحسب – بل لملاحـقـتها خواطر مبدعها، واستبدادها بذهنه استبدادا لا ينتهي إلا حين ينتهي فيه هذا المبدع من أمرها، فينطقها: خطوة تطهّريّــة أولى للخلاص منها، أو يكتبها: خطوة تطهّريّة ثانـية أعمق من الأولى، وأشدّ حسما منها، وفيها يتحرّر – ولكن مؤقتا – من أســـرها، وإلحاحها الإلحافيّ عليه.