في هذا الحوار، يتحدث الدكتور لطفي دهينة (أستاذ وباحث في العلوم السياسية)، عن واقع وأداء ودور مخابر ومراكز ومؤسسات البحث العلمي في الجزائر، وعن الدور الّذي يجب عليها القيام به. مؤكدا في هذا الشأن أنّه من الضروري تطوّر الدور المنوط بالجامعة كونها القاطرة التي تقود البحث العلمي ولتنتقل من مجرّد البحث عن المعرفة والتدريس إلى الإسهام الحضاري في المجالات العلمية والتكنولوجية.
حاورته/ نوّارة لحـرش
كما تحدث في ذات السياق عن سياسة البحث العلمي في المخابر. الدكتور دهينة، تحدث أيضا عن المثقف وطرح نظرته ورؤيته عن كيف يمكن أن يكون دوره ومساهمته في مجتمعه وفي مشاريع حضارية متكاملة. مؤكدا في هذا المعطى أنّ الأصل في المثقف هو الاِرتكاز على مقومات فكرية راقية وقيم إنسانية رفيعة، للمساهمة في بناء مشروع حضاري متكامل، وبالتالي فإنّ وظيفته هي حمل قيم الخير والعدل والحرية وغيرها من القيم الإنسانية، والدفاع عنها وكسر القيود الفكرية التي تُكبل العقل والفكر وتُعيقه عن التحرّر والتفكير، ولعل من أهم وظائفه هي التعرض لواقعه المعيش بالنقد والتمحيص والمعالجة وليس الاِنزواء بعيداً والاِكتفاء بدور المُتفرج ثمّ التعليق على الأحداث بصوتٍ خافت. لكن المُلاحظ اليوم -حسب قوله- أنّ هناك اِنفصام بين المثقف وواقعه بصفة عامة وبينه وبين العمل السياسي بصفة خاصة، بسبب تراجع دوره نتيجة الاِنزواء في برجه العاجي والنظرة الاِستعلائية التي ينظر بها إلى الواقع. لهذا يرى أنّه على المثقف أن يشتغل بالسياسة مُمارسةً وتنظيراً ونقداً وتوجيهًا، يُنير الرأي العام بأفكاره ويُقدم الحلول ويتبنى المواقف ويُوجه النقد للممارسات الخاطئة في محاولةٍ لتصويب المُمارسة السياسية.
مؤشرات الإنفاق على البحث العلمي لا تزال بعيدة عن المُعدلات العالمية
بصفتكم أستاذ العلوم السياسية، إذ تشتغل بالتدريس والبحث الأكاديمي. ما هو برأيكم دور مخابر ومراكز ومؤسسات البحث العلمي على مستوى الجامعات في الجزائر، هل من دور محدد ومسطر يجب عليها القيام به؟
لطفي دهينة: إنّ أي تقدم مجتمعي لابدّ أن يُصاحبه تطوّر معرفي وازدهار في البحث العلمي وحركة الاِختراع والاِكتشاف، ذلك ما يُحتم تطوّر الدور المنوط بالجامعة كونها القاطرة التي تقود البحث العلمي ولتنتقل من مجرّد البحث عن المعرفة والتدريس إلى الإسهام الحضاري في المجالات العلمية والتكنولوجية.
إنّ الجزائر اليوم تحاول تطوير البحث العلمي من خلال وضع إطار هيكلي وقانوني يُسهل إنشاء مراكز البحوث ويساعد على تطوير أدائها بما يُساهم في تطوير البحث العلمي ولكن المُتأمل لوضعيتها اليوم يُلاحظ أنّها تُعاني من تراجع كبير وهذا ما يتضح من خلال بعض المؤشرات التي أهمها عدم وجود إستراتيجية واضحة للبحث العلمي، وكذلك ضُعف العلاقة بين الجامعة وباقي قطاعات التنمية الأخرى، كما أنّ مؤشرات الإنفاق على البحث العلمي لا تزال بعيدة عن المُعدلات العالمية التي تتصدرها الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وحتى عن المعدلات العربية، إضافةً إلى أنّ معدلات الأبحاث العلمية التي تنتجها الجامعات الجزائرية ومراكز البحث وعدد مرات الاِستشهاد بها ضعيفة جداً مُقارنة بدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي تحتل المرتبة الأولى أو دول عربية مثل مصر والأردن وغيرها.
هذا إضافةً إلى مُؤشر لا يقل أهمية عن سابقيه ألا وهو عدد الباحثين الّذي لا يزال ضئيلاً جداً رغم اِرتفاع وتيرة إنشاء الهياكل العلمية -على غرار الجامعات ومراكز ومخابر البحث العلمي- إلاّ أنّ عدد الباحثين لم يرتفع بنفس الوتيرة وبقي دون المأمول، دون إهمال الحديث عن براءات الاِختراع التي تعتبر مُؤشراً هامًا على مدى تطور البحث العلمي والتي لا تزال بمعدلات منخفضة رغم وجود عديد الباحثين القادرين على الإبداع متى ما توفر لهم المناخ المُلائم لذلك.
لابدّ من وضع الثقة في الخبرات الجزائرية وعدم الاِكتفاء باِستيراد التجارب الجاهزة من الخارج
وماذا عن سياسة البحث العلمي في هذه المخابر، هل واكبت وتيرة سياسات مخابر البحث المُنتشرة في مختلف جامعات العالم، ووتيرة اِنتاجاتها المعرفيّة، أم ظلت أسيرة حيزها المحدود الّذي لا يذهب بعيدا في تطوير القطاع الخاص بالبحث العلمي والإنتاج المعرفي؟
لطفي دهينة: إنّ تحسين هذا الواقع لا يكون إلاّ بوجود إرادة سياسية جادة تمتلك مشروعًا حقيقيًا وإستراتيجية واضحة المعالم تسعى إلى النهوض بهذا القطاع الهام وجعله يتبوأ مكانته الصحيحة التي يُساهم من خلالها في دفع عجلة التنمية، ولابدّ أيضا من وضع الثقة في الخبرات الجزائرية وعدم الاِكتفاء باِستيراد التجارب الجاهزة من الخارج دون تكييفها مع واقع البحث العلمي في الجزائر، إضافةً إلى ضرورة وضع العلماء والباحثين في المكانة التي يستحقونها وإعلاء شأنهم بما يُعزز ثقتهم وقدرتهم على الإبداع العلمي والتكنولوجي المطلوب، فالمعلوم أنّ الإنسان لا يُبدع إلاّ إذا وجد المناخ المُناسب لذلك وتوفرت لديه الظروف الملائمة للتفكير المُبدع.
إنّ مراكز البحث اليوم تعتبر جزءً لا يتجزأ من المجتمع، لذلك لابدّ أن يكون هناك الكثير من التفاعل الكبير والضروري معه، حيث أنّها تبحث في ما يعترضه من مشكلات وتحاول إيجاد الحلول المُلائمة لها، كما أنّ المجتمع يُفترض فيه تبني نتائج البحث العلمي والاِستفادة من بحوثه، وبالتالي اِحتواء النوابغ والمبدعين وعدم التفريط فيهم وفقدانهم بهجرتهم للدول التي تولي اِهتمامًا بالغًا للأدمغة المُبدعة وتستفيد منهم اِستفادةً قصوى بِمَا يخدم العِلم والإنسانية عمومًا ومُصالحها بشكلٍ خاص وهو ما يُعتبر خسارة لبلدانهم الأصلية التي لم تستثمر فيهم وتولهم العناية اللازمة.
إضافةً إلى ذلك فإنّ الاِنفتاح على المستثمرين والمؤسسات الاِقتصادية سيساعد لا محالة على تشجيع الباحثين والمخترعين وتبني اِختراعاتهم ويُساعدهم على الاِبتكار والإبداع وما يُصاحب ذلك من عائد إيجابي على الطرفين، فالمطلوب هو توجيه النشاط البحثي بما يخدم متطلبات التنمية بمختلف أبعادها وتحديد المواضيع ذات الأهمية التي تتطلب المُبادرة بها، إلاّ أنّ الأمر يستوجب توفير التمويل اللازم والمناخ الاِقتصادي المُناسب لذلك.
الأصل في المثقف هو الارتكاز على مقومات فكرية وقيم إنسانية رفيعة
هذا عن أهل البحث والاشتغال البحثي. ماذا عن المثقف؟ كيف ترى أن يكون دوره ومساهمته في مجتمعه وفي مشاريع حضارية متكاملة؟
لطفي دهينة: إنّ الأصل في المثقف هو الاِرتكاز على مقومات فكرية راقية وقيم إنسانية رفيعة، للمساهمة في بناء مشروع حضاري متكامل، وبالتالي فإنّ وظيفته هي حمل قيم الخير والعدل والحرية وغيرها من القيم الإنسانية، والدفاع عنها وكسر القيود الفكرية التي تُكبل العقل والفكر وتُعيقه عن التحرّر والتفكير، ولعل من أهم وظائفه هي التعرض لواقعه المعيش بالنقد والتمحيص والمعالجة وليس الاِنزواء بعيداً والاِكتفاء بدور المُتفرج ثمّ التعليق على الأحداث بصوتٍ خافت.
لكن المُلاحظ اليوم أنّ هناك اِنفصام بين المثقف وواقعه بصفة عامة وبينه وبين العمل السياسي بصفة خاصة، بسبب تراجع دوره نتيجة الاِنزواء في برجه العاجي والنظرة الاِستعلائية التي ينظر بها إلى الواقع الموبوء -حسب تقديره- والّذي يكون كاللوثة التي تُلطخ طهره المزعوم إذا ما اقترب منها أو لامسها فيبقى بعيدا وهو يُوهم نفسه أنّه سيكون له دور ما في بيئة أفضل وأنظف.
أو ربّما مرد هذا الاِنفصام هو السلبية التي يفرضها بعض المثقفين على أنفسهم خوفًا من النقد أو عدم الرضا عن الواقع السياسي المأزوم والمُميع في نظرهم واليأس من إمكانية التأثير والتغيير، أو بسبب حالة التهميش والمُحاصرة التي تفرض عليهم من محيطهم الخارجي خوفًا من آرائهم أو نتيجة لعدم اِنحيازهم إلى توجهات معينة.
ولعل من الأشياء التي زادت الطين بلة هو وجود حالة من التوجس وعدم الثقة في المثقف عمومًا نتيجة اِنحياز البعض مِمن يُحسبون على المثقفين والمفكرين إلى الأنظمة السياسية بحثًا عن المصالح الشخصية الضيقة وطمعًا في المكاسب المادية الزائلة على حساب المبادئ والقيم التي طالما تغنوا بها وجعلوها شعارات رنانة لخُطبهم وكتاباتهم، وهذا ما ساهم في إبعاد المثقف عن بيئته ومجتمعه وأصبح هذا الأخير لا يشعر بالحراك الثقافي حتى إذا وجد ولا يحس أنّه يُمثله ويُعبر عن تطلعاته واهتماماته.
المطلوب من المثقف اليوم أن ينزل من برجه العاجي ويخرج من عزلته
ما المطلوب من هذا المثقف الّذي -حسب رأيك- اِبتعد كثيرا عن بيئته ومجتمعه؟
لطفي دهينة: المطلوب من المثقف اليوم أن ينزل من برجه العاجي ويخرج من عزلته الاِختيارية أو الإجبارية ويُمارس دوره المنوط به بواسطة قلمه ولسانه ويُطوع أفكاره وكلماته حتى تخدم قضيته التي يعتقد بها ومبادئه التي يُؤمن بها، خاصةً في ظل اِتساع المساحات المتاحة وتطور الأدوات الممكنة بفضل الإعلام الجديد العابر لحدود الزمان والمكان والّذي يستطيع من خلاله الوصول إلى عموم الجماهير بسهولة ويُسر دون اِنتظار صكوك الغفران وآيات الرضا مِمَن يملكون زمام وسائل الإعلام التقليدي.
على المثقف أن يشتغل بالسياسة مُمارسةً وتنظيراً ونقداً وتوجيهًا ويُنير الرأي العام بأفكاره
وهل عليه أن يكون معنيًا بالسياسة أو منتميًا لها ومنخرطا فيها؟
لطفي دهينة: أجل. المطلوب من المُثقف اليوم أن يكون سياسيًا وليس بالضرورة متحزبًا، فإن لم يشتغل المُثقف بالسياسة فمن يشتغل بها، لا جرم أنّ الساحة ستخلو للفارغين والاِنتهازيين وأصحاب المصالح مِمَن يُساهمون في تمييعها وإفراغها من محتواها ونشر القيم السيئة والأفكار الموبوءة عن العملية السياسيّة برمتها.
لابدّ على المثقف أن يشتغل بالسياسة مُمارسةً وتنظيراً ونقداً وتوجيهًا، يُنير الرأي العام بأفكاره ويُقدم الحلول ويتبنى المواقف ويُوجه النقد للممارسات الخاطئة في محاولةٍ لتصويب المُمارسة السياسية، عليه أن يلعب الدور المنوط به وهو مدرك أنّ الأمر ليس هينًا وقد يدفع في سبيله أثمانًا باهظة وقد يُعاني من التضييق والمُساومة والإيذاء الشيء الكثير فيصبر ويُواصل طريقه، وهذا ديدن المثقفين وأصحاب الرأي والرسالة النبيلة أن يكونوا شموعًا تحترق لتُضيء دروب السائرين.
انحياز المثقف إلى السياسة وبحثه عن مصالح شخصية خلق أزمة ثقة في الثقافة عموما
هل يمكن الحديث هنا عن مشهد ثقافي مأزوم أو بالأحرى يُعاني من عدة أزمات؟
لطفي دهينة: يُعاني المشهد الثقافي في الجزائر من أزمة مُتعدّدة الأبعاد، فهي تتعلق بالمنظومة الثقافية ككلّ وتمس الثقافة كما المُثقف على حد السواء، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر نظراً لطبيعة التأثير والتأثر بينهما فهما وجهان لعملة واحدة.
إنّ مظاهر الأزمة متعدّدة ولكن يمكن إيجاز أهمها فيما يأتي: أوّلا: تمييع الساحة الثقافية حتى فقدت نكهتها، فأصبح الكثير من المفكرين ينحازون إلى الأنظمة السياسية ويبحثون عن مصالح شخصية ضيقة على حساب المبادئ والقيم، وهذا ما خلق أزمة ثقة في الثقافة عمومُا. ثانيا: التراجع الكبير في معدلات القراءة وانحسار دور النوادي الفكرية التي تعتبر من دعائم الثقافة، وحل محلها التفاعل المتزايد مع وسائل الإعلام والتواصل الاِجتماعي وهو سلاح ذو حدين، فمن جهة فسح المجال لفئات عريضة من النّاس للتواصل والتعبير عن أفكارها وآرائها، حتى أنّه يُتيح الفرصة للمثقف وغير المثقف لعرض أفكاره وتوجهاته بكلّ سهولة، ومن جهة أخرى فإنّه أفسد المزاج الثقافي وجعله في اِنحدار شديد بسبب التفاعل السلبي مع هذه الوسائل والاٍنحدار القيمي والأخلاقي الّذي تعاني منه المواد الإعلامية المعروضة.
ثالثا: التعليم الّذي لا ينتج فكراً أو وعيًا ثقافيًا، وهو اليوم أقرب إلى التلقين والحفظ منه إلى التعليم، وهذا ما يجعلنا لم نفارق بعد المفهوم التقليدي للمُثقف على أنّه ذلك الشخص الّذي يتمتع بقدرة أكبر على الحفظ والاِستظهار، لا ذلك الشخص الّذي يحمل فكراً وقيمًا يُدافع عنها ويُحاول نشرها وتطويرها، وفي هذا الإطار أصبحت مراكز البحث أماكن للتوظيف لا أماكن لتطوير المعرفة والإشعاع الفكري والحضاري. رابعًا: وجود أزمة حوار، حيث أنّ الأصل هو تعدّد الآراء والتوجهات واختلافها، وهذا ما يُؤدي إلى حالة من النقاش الّذي يُثري المشهد الثقافي ويبث فيه الحياة، إلاّ أنّ المُلاحظ أنّ كلّ طرف يميل إلى عدم تقبل الآخر والاِنفراد بالرأي، وهذا ما ساهم في تعسير الاِنعتاق من ربقة الإيديولوجية بمختلف أشكالها مِمَا يجعل الفكر غير خلاّق وغير منتج بل حبيسًا للخلفيات والإيديولوجيات التي تُوجهه بِمَا يخدم مصالحها.
لا جرم أنّ الأزمة التي يُعاني منها المشهد الثقافي عميقة وهي ليست وليدة اليوم، بل هي نتيجة تراكمات عديدة وتظافر كثير من العوامل على مراحل زمنية طويلة، لذلك وجب بذل مزيد من الجهد في إطار رؤية واقعية شاملة للخروج منها، والحقيقة أنّ تحقيق هذا الهدف ليس مستحيلا رغم صعوبته فهناك العديد من المؤشرات الإيجابية التي تُوحي بإمكانية ذلك في ظلّ الحراك الثقافي وميلاد كثير من النوادي الفكرية التي تحاول المساهمة في خلق وعي ثقافي حرّ وغير مقيد. ن.ل