سفير التراث إلى الحداثة و التجديد
رحل المفكر الفيلسوف حسن حنفي منذ أيام تاركا خلفه مشروعا ضخما اشتغل عليه على مدى عقود من الزمن متوخيا من خلاله الولوج بالإسلام وتراثه إلى أفق الحداثة، والدفع بالعلوم الإسلامية نحو العصر من خلال قراءات جديدة تستدعي مجددا العقل والواقع شاهدين للنص أو حاكمين عليه؛ بعد إعادة ترتيب موضوعات الدرس العقدي والأصولي، بمنهج تاريخي تأويلي لم يسلم بأولويات القدامى، والانفتاح على معطيات العصر وعلومه ومناهجه؛ وفي خضم ذلك ستظهر له مقولات قد تبدو صادمة للفكر التقليدي على غرار القول بحتمية العلمانية وأولوية الواقع على النص والتفريق بين التجربة الإنسانية العامة التي يجسدها القرآن والتي ستتبلور فيها أيضا تجارب الأمم السابقة، والتجربة النبوية الأنموذج والتجربة المشتركة في أساس الإجماع الأصولي، والتجربة الفردية للمجتهد داخل موضوعه وأدواته ومناهجه، فلم يقف حنفي من الإسلام وشريعته موقف الرافض المعارض بل وقف موقف المتعاطي معها ايجابيا؛ لكن ليس بالنسق التراثي ذاته بل بمناهج وقراءات نقدية توفيقية جديدة تجعل منها أداة فاعلة في العصر بل ثورة شاملة على أوضاعه، مستجيبة لكل متطلباته، ومتوافقا والحداثة؛ على غرار ما فعل ابن رشد قديما وهو يسعى للتوفيق بين الحكمة والشريعة؛ موظفا بذلك ثقافته الفلسفية القديمة والحديثة، واطلاعه الواسع على التراث الإسلامي بمختلف علومه ومدارسه، فلم يكن خصما لهذا التراث مزدريا له بل كان له خصيما، وعلى عكس الكثير من رواد الحداثة ودعاة التجديد من المفكرين العرب والمسلمين، لم يكتف حنفي بالنقد الفضفاض الذي يقف عند حدود تشخيص الداء من وجهة نظر الناقد بل عمل على إعادة بناء العلوم الإسلامية برمتها وفق رؤاه التجديدية على غرار علم أصول الفقه وعلم التوحيد وعلم التصوف والسيرة النبوية وعلم التفسير وعلوم الحديث، كما هو مبثوث في مصنفاته؛ تلك التي عكست مشروعه الضخم في التجديد، ولم يفته أن يوجه سهام القراءة نحو الغرب بمشروعه علم الاستغراب في مقابل الاستشراق؛ كما فند الزعم بأن الفلاسفة المسلمين قديما مجرد ناقلين؛ بل أثبت أنهم بقدر ما نقلوا فقد أبدعوا، هذا المشروع الذي سيثير تساؤلات ويستدعي قراءات ودراسات موافقة له ومخالفة مستقبلا لاسيما على مستوى الأطر الأكاديمية.
إعداد: د.عبد الرحمن خلفة
وفي هذا الملف قراءات في جوانب فكرية وتجديدية في مشروع حسن حنفي أسهم فيها أكاديميون كل من وجهة نظره.
حسن حنفي وثورات الربيع العربي
تحرير العقول سابق على تحرير المجتمعات
نالت ثورات الربيع العربي حيزا كبيرا في فكر حسن حنفي (1935-2021) وهو الذي عاصر ثورة الضباط الأحرار سنة 1952، وتجلى ذلك الاهتمام من خلال عدة نصوص سواء تلك التي كتبها قبل الثورة أو التي أتت بعدها مثل كتاب «هموم الفكر والوطن» وكتاب «حصار الزمن» كما أفرد في مذكراته التي حملت عنوان «ذكريات» فصلا للحديث عن الثورة حمل عنوان «الثورة المصرية والربيع العربي 2011-2018 « توقف فيه بالتحليل والبحث عند أحداث الثورة المصرية، خاصة ما تعلق منها: بالثورة والثورة المضادة، وإشكالية الدولة بين الأخونة والعسكرة.
فثورة 25 جانفي سنة 2011 في مصر هي عند «حسن حنفي» تصويب لثورة الضباط الأحرار، لأن الثورة الثانية قام بها الشعب بكل فئاته وفي مقدمتهم الشباب، كما أن ثورة 1952 لم تستطع بناء تنظيم سياسي يحول المبادئ الستة التي قامت عليها إلى تنظيم سياسي، كما أنها أعطت الأولوية للعدالة الاجتماعية على أهميتها، ولكن ذلك كان على حساب قضية الحريات مثل حرية التفكير وحرية التعبير وحرية الإعلام وحرية تكوين الأحزاب.
ويرى حسن حنفي أنه لم يكن يتوقع الثورة بتلك السرعة، بالرغم من أن الأمور وصلت في مصر إلى أخر النفق، حيث بلغ الحطب درجة كبيرة من الجفاف وما ينقصه هو الشرارة فقط. ويضيف أن الثورة هي عودة للروح، خاصة روح ثورة 1919 عند مصطفى كامل والحداثة المصرية المبكرة عند محمد علي.
ويؤكد حسن حنفي أن الثورة لم تتجاوز المشاريع الفكرية التي دافعت عنها النخبة الفكرية، لأن شباب الثورة هم خريجو الجامعة، ولا يمكن الفصل بين الجامعة والمجتمع ولا بين العلم والوطن، فلا علم بلا وطن ولا وطن بلا علم، ويتساءل قائلا: ماذا عن ثورة المفكرين الأحرار التي بدأت بها معظم الثورات وعلى رأسها الثورة الفرنسية، فتحرير العقول سابق على تحرير المجتمعات، ولو تحررت المجتمعات دون العقول لعادت إلى استبدادها الأول وأظلمت العقول، فهل من ثورة يقودها المفكرون الأحرار؟.
ونجاح الثورة متوقف على ضرورة تغيير النظام الأبوي، وتجاوز هذه الهرمية التي تحكم علاقات الناس في ما بينهم لان النظام الأبوي يمثل حجر عثرة أمام نجاح كل الثورات، ويميز «حسن حنفي» بين منطقين في العلاقات بين الأشياء فهناك كما يقول التصور الرأسي عندما تكون العلاقة بين الأعلى والأدنى، سواء كان الهرم سلطة أو نصا أو رأسمال، والتصور الثاني هو الذي تكون العلاقة فيه بين الأمام والخلف، وتصبح الحركة هنا تغيرا نحو الأمام وتحولا من التخلف نحو التقدم، وعليه فإنه مهما غيرنا في البنيات السياسية والاجتماعية دون تغيير النظام الأبوي فإن الارتداد والنكوص يبقى واردا بقوة، وعليه فإن الثورة ستظل ثورة سطحية وعابرة إذا لم تتغير الثقافة بتغير منطق العلاقات بين مكونات عالمنا الاجتماعي والسياسي، والقضاء على السلطة الأبوية يشترط إحداث التغير في الأنظمة الثقافية المختلفة التعليمية والدينية والاجتماعية.
واليوم بعد مرور عدة سنوات على ثورات الربيع العربي، تكشفت تلك الثورات على تناقضاتها وتأكد المواطن العربي أنها مجرد فقاعات ثورية سرعان ما انطفأت ... لان البنيات العميقة لم تتغير في ثقافتنا وما زال براديغم الأبوية هو البراديغم المهيمن على تفكيرنا وممارساتنا.
ذكريات لا تنسى مع حسن حنفي
الصورة أدناه تعود إلى عشرين سنة خلت وهي مأخوذة من تغطية جريدة النصر لملتقى «أرسطو وامتداداته في الفلسفة العربية الإسلامية»، الملتقى الذي انعقد بجامعة قسنطينة (مجمع كوحيل لخضر، جنان الزيتون سابقا) في شهر فيفري 2001. يومها في الجلسة الأولى كنت إلى جانب الأستاذ الدكتور حسن حنفي وقد افتتح الملتقى بمحاضرة شاملة وعميقة عن مراحل تلقي فلسفة أرسطو عربيا، إلى يساره كل من الدكتور اسماعيل زروخي والدكتور عبد الرحمن بوقاف. في هذا الملتقى فاجأه الزملاء الأساتذة بتنظيم حفل عيد ميلاده السادس والستين (ولد بالقاهرة في 13 فيفري 1935)، فكانت حقا مفاجأة سارة له.
كانت هذه هي المرة الثانية التي التقيت فيها بالمفكر حسن حنفي، تلتها أخرى في سنة 2008، إن لم أخطئ، وكانت بجامعة قسنطينة في مناقشة أحد الزملاء وكان الدكتور حسن حنفي مشرفا على رسالته.
أما المرة الأولى التي التقيته فيها، وتعود لثلاث عقود مضت، فكانت سنة 1989، بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة، يومها كان رئيسا للقسم، رحب بي مع زميل آخر ودعانا إلى حضور حلقة بحث ونقاش مع طلبته في الدراسات العليا وتقديم مشروعي بحثينا، على اعتبار أننا كنا وقتها نحضر لشهادة الماجستير وحتى فيما بعد حينما بدأت التفكير بأولى خطوات مشروع الدكتوراه كان من بين عدد من المفكرين والفلاسفة عبر العالم الذين استشرتهم حول موضوع البحث الذي اخترته لأطروحتي وقد أفادني بآرائه عبر رسالة مازلت أحتفظ بها.
حينما زرته مع زميل لي في جامعة القاهرة وجدنا لديه عند استقبالنا حسن الوفادة، طيبة القلب، هدوء الحكيم، تقديم المساعدة والتواضع الجم. الاستماع إلى صدى أفكاره حينما طلب منا رأينا بخصوص حوار المشرق والمغرب الذي جمعه بمحمد عابد الجابري على صفحات اليوم السابع.
كان حسن حنفي مفكرا، كاتبا ومترجما، عالما ملما بمصادر الفكر الغربي كما بمصادر الفكر العربي. كان غزير التأليف والإنتاج، ناقش التراث واستفاد منه وانتقد الاستشراق ودعا إلى الاستغراب كحقل بحثي بديل. خاض مثل غيره من مفكري العالم المعاصرين في قضايا راهنة، فكرية وإنسانية. له فيما تناول جدالات ساخنة حول التراث والحداثة وحول طرق تحيين التراث وتجديده، وحول آليات قراءته وتأويله، وتأويل الظاهريات. كما تناول مسائل أخرى تخص الهوية والترجمة والإبداع.
ترك نصوصا ومؤلفات تشهد على جهده الكبير وتعمقه في الفلسفة المعاصرة الغربية والعربية وظل مناضلا ثقافيا وفلسفيا (أحد أهم مؤسسي الجمعية الفلسفية المصرية)، حاضرا وفاعلا في نشاطات فلسفية حتى وهو مريض ومقعد على كرسي.
أ.د.محمد جديدي، جامعة قسنطينة2
الاجتهاد والفينومينولوجيا
التثوير العقلاني لعلم أصول الفقه عند حسن حنفي
يَذْكرُ محمد أركون في كتابه، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، أن من بين الشبان العرب المتطلعين نحو التجديد الحداثي، والذين التقى بهم في جامعة السوربون بباريس هو حسن حنفي؛ لقد قدم من شرق إسلامي اختلطت فيه الرؤى بفعل تكلس تراثه، إلى موطن الحداثة حيث الديناميكية الناقدة للوعي المحيط،كان قدومه بغية الدرس العلمي، وعليه فلم تكن غاية هذا الشاب، في تلك الفترة مجرد نيل شهادة علمية، يعود بها إلى موطنه مصر، كغيره من الشباب المتطلعين إلى حياة أفضل؛ بل كان حسن حنفي يخفي في ثنايا لهفته العلمية بوادر مشروع كبير،يتجه إلى استنهاض ثورة في مفاصل الفكر الإسلامي المتكلس حول النوى التقليدية، وربما حيرته العارمة تختصر في ثناياها مطلب المرجع والمنهج، بوصفهما أعز ما يطلب لمن يسعى إلى انبثاق معرفي جديد في خضم هذا الفكر.
كان محمد أركون معجبا بجسارة الشاب في تلك الآونة، فهو يذكره بسابقه عميد الأدب العربي طه حسين،الذي بذر بذرة النقد العقلاني في الثقافة المصرية المعاصرة،التي ستمتد بعد ذلك مسائلة كل الثقافة العربية، فتفرض حيرة تحوم حول ما أعتقد طويلا أنها الثوابت، فكتابه في الشعر الجاهلي ينم عن بداية الحفر المنهجي، ولما لا القراءة النقدية التي تفترضها الحداثة، هدما لليقين وزرعا للشك. وهي في الحق طبيعة الحداثة، التي تعني خلخلة اليقين والثابت، ومن ثمة التطلع إلى ما وراء ذلك، من انبلاجات تتتالى تغييرا للذات، ولمسار الفكر الميت، في تلك الآونة كان طه حسين ممثلا في ممارساته النقدية للكوجيتو الديكارتي، ولكن أشكال الكوجيتو ستتوالى في الوعي الغربي المعاصر، لذلك سيكون الافتراض النقدي للكوجيتو الهوسرلي هو ما سيفتح النافذة واسعة أمام حسن حنفي، أثناء درس باريس الجامعي، وسيضطلع بثورة في الجسد التراثي الكلامي والفقهي الأصولي، متطلعا إلى خلخلة الوعي بالنص، إخراجا له نحو الكونية وفق نسقها الحداثي.
هكذا تكون مهمة حسن حنفي الباريسية،هي اعتبار الحداثة معينا للرؤية،من أجل انجاز سؤال الثورة الكبرى التي تستنهض التراث قراءة وتجديدا، ستحمل أطروحته «مناهج التفسير محاولة حول علم الأسس والفهم» الوعد الأكبر بالتجديد في حقل مركزي من الحقول الإسلامية وهو علم أصول الفقه، حقل الرؤية التشريعية التي نظمت حياة المسلمين لقرون مديدة، فهل من إمكان لبناء حقل الاجتهاد تجديدا، كما بناه القدماء بدءا من الإمام الشافعي وسيرا إلى الإمام الشاطبي، اعتبارا من مناهج تقر الموضوعية انطلاقا من العلمانية؟ إلى أي مدى تحمل المناهج الغربية، الوعد العقلاني تثويرا لهذا الحقل المكين في التراث التشريعي الإسلامي؟ ليعود المسلم فعالا نشيطا فاتحا لآفاق النظر كما كان قديما.
فينومينولوجيا هوسرل أداة التجديد في علم أصول الفقه
يؤلف الطباق بوصفه دلالة تاريخية وليس بلاغية، علامة البحث عن سبل التجديد،في الفكر العربي المعاصر من جهته الحداثية، فلا منظور إلى مستقبل هذا الفكر، إلا من جهة الصيرورة التي نهجتها العقلانية الغربية، إذ تمثل المثال القيم والنبراس المجدي، في كل مسيرة يتجه إليها العقل تجديدا، لذلك كانت فينومينولوجيا هوسرل، السبيل الذي سيختاره حسن حنفي تطبيقا أداتيا، ليفتح باب الاجتهاد المغلق في دروب حضارته الماضية، وتبدو هذه المهمة جسورة وخطيرة، ذلك أن الفينومينولوجيا تؤدي وظيفتها في أكمل صورة،عندما تُعَلِقُ الحكم وتضعه بين قوسين أي الإيبوخي، بمعنى أنها تحرره من كل أبعاده التاريخية وعلى رأسها العقدية. فهل من الممكن تحرير الحكم الشرعي، من بعده الأصلي المرجح لشرعيته ومشروعيته؟ أعني مدده الغيبي الذي يجعل منه ممكنا. إلى أي مدى يوجد شرع من دون غيب في الإسلام؟
سيستدرك حسن حنفي في سبيل القيام بمهمته العقلانية،ليفصل بين العلوم الشرعية والفلسفة، فهو يقصد من هذا المشروع المجدد، تحقيق استقلالية الوعي عن موضوعاته، وإفراغها من حمولتها التاريخية سيرا نحو الموضوعية، مما يتيح المجال للعقل، لكي يفكر في ذلك الحيز، الذي لا تنحاز فيه المفاهيم إلى الهويات؛ بل يؤلف وعيا شاملا للمفهوم وفق صفته المطلقة. هي إذن الوسيلة التي تفتح هذا الحقل، أمام المساءلة العقلانية وفق أبعادها الحداثية، إذ اعتبر حسن حنفي الرد الماهوي كخطوة أساسية في الفينومينولوجيا، عملية أساسية في نقد التصور التقليدي لعلم أصول الفقه، فعند تحرير المفاهيم من المضمون التقليدي وإخراجه إلى مساحة العقلنة، حينها فقط يمكن فتح مسار آخر لتجديد هذا العلم.
والحق أن انجاز هذه الغاية، سيخضع إلى مراحل التحوير الذي يحمله المنهج الفينومينولوجي، في طريقه إلى الإفراغ التاريخي، لم يعد علم أصول الفقه علما يتوجه إلى تعهد التجربة العملية للمسلم، إنما الغاية من هذا الدرس التجديدي المتمرس بالمنهج الفينومينولوجي، هوإزاحة التصور الجزئي المعبأ بالتجربة التاريخية، وجعله ماهية عقلية متعالية، يدركها الوعي إدراكا كونيا شامل. وآية ذلك أن هذه العملية الإجرائية التي تؤديها المنهجية الفينومنولوجية، تعني الإدراك الماهوي الذي لا ينظر إلى الضرورة العملية فتحصيل الماهية هو غايته.كما وأن الأنسنة، هي القيمة الكبرى التي تستخلصها عملية الرد الماهوي، فما يعنيها هو بلورة الماهية المستقلة، في حين أن عملية الوصال بين الإنسان والله، تعد مركزية وفاصلة في علم أصول الفقه الذي لن تجد مهمته الحصرية إلا وصل الفعل البشري بالمعايير المنظمة له، انطلاقا من الشريعة الموصولة وصلا مباشرا بالمخزون العقدي، وهي المشروعية التي تتعهد علم أصول الفقه.
2 –تحولات علم أصول الفقه -علم التفسير وعلم الفهم
تحدث المقاربة الفينومنولوجية في علم أصول الفقه عند حسن حنفي،انقلابا دلاليا ومفهوميا،ذلك أن ما يهم هي عملية وعي النص،ليس باعتباره نصا إلهيا تتمحور غايته في ضبط الأفعال البشرية،بل يكون عبارة عن تفسير الحوادث التي جرت فيها هذه الأفعال،لذلك ستكون مناهج التفسير هنا هي جملة المناهج التي تعيد رسكلة العلاقة بين النص والعقل، وفق فوقية عقلانية توجه النص نحوالغايات الإنسانية، مجردة إياها من كل الحمولات؛ لكن هل من وعي يثمر في علم أصول الفقه، إذا ما فصل عن جذره العقدي؟
هكذا ومع علم التفسير الذي تخلص من مفهومه الكلاسيكي وتحول إلى بنية حداثية خالصة، سيأخذ علم أصول الفقه شكله الجديد ليكون علم الفهم، فليس المهم هو وصل الفعل البشري بمعاييره الإلهية الموجهة نحو النجاة في الآخرة، فالمهمة الحداثية تعني تحصيل وعي نظري شمولي، يتحلق حول تجهيز أدوات لقراءة النص، وهي عملية مهمة إذا ما حاول الوعي الإسلامي المنخرط في جدل الأنا والآخر الولوج إلى الحداثة الفكرية، التي تنتهي إلى عقلنة الخطاب وتمكنه من الكوني، عملية تجريها الفينومينولوجيا، حيث يتم الوقوع على المنطقي والخالص، والتخلص من التاريخي الذي لا يمكن له بناء مناهج كونية لقراءة النص.
في إطار التحول الذي تجريه الفينومينولوجيا، نقلا لعلم أصول الفقه صوب علم الفهم، سيكف الأصل عن كونه عملية استقصاء للشرعي، ليغدو تجسيدا للحقيقة الإنسانية التي يتأسس عليها الفعل الإنساني، هي صيرورة عقلانية ولكنها في النهاية تضمن منطقا علمانيا، يحصر المفهوم الأصولي في المنظور الإنساني، دون تخطيه نحو الآفاق الأخلاقية الروحانية التي لا تنسجم البتة مع المهمة الكبرى للفينومينولوجيا.
الحاصل أن تجديد الاجتهاد عند حسن حنفي، يكمن في استفراغ الأصل من مضمونه الإلهي، ليأخذ شكله الإنساني الصرف، بوصفه إجراء مركزيا على سبيل أداء الفعل التحديثي، في الوعي المحيط بالفهم الكوني للنص؛ لذلك فهو علم أسس الفهم وليس الفقه فينتقل من الصفة العملية إلى الخاصية النظرية البحتة، هي التقلبات التي يجريها الوعي الديني الإسلامي نحو تجديد الوعي بالنص، بوصفه محصلة إنسانية.
ولعل دليل الانقلاب من الإلهي إلى الإنساني سيتضح بكل في جلاء في التمحور الذي يجريه حسن حنفي على مفهوم المقصد، بوصفه دلالة مشتركة بين علم أصول الفقه والفينومينولوجيا، إذ سيأخذ المقصد الشرعي الشكل العقلاني بموجب التحول المفهومي الذي تجريه الخطوات المنهجية في الفينومينولوجيا.
إعــــــادة بنــــــــاء علــــم العقيـــــــــــدة
المراد بإعادة بناء علم العقيدة العمل على تجديد هذا العلم تجاوبا مع متطلبات العصر ومقتضياته، وقد كان حسن حنفي أحد المنخرطين في هذه العملية التجديدية، بل نجده في أحد كتاباته التصنيفية للمجددين في علم العقيدة يعتبر نفسه ممثلا لتيار خاص. ويرى أن هذه العملية تقتضي إعادة النظر في علم الكلام القديم من حيث المفاهيم التي يستعملها، ومن حيث المضامين التي يحملها، ومن حيث الأهداف التي يصبو إليها، وهذه الأمور تستدعي عملية إعادة بناء، وهذا ما ضمنه كتابه «من العقيدة إلى الثورة». قال علي حرب عن إعادة البناء هذه هي: «إعادة قراءة للإسلام بنصوصه وأحداثه ومؤسساته من أجل إعادة البناء والتأسيس؛ أي من أجل تأصيل الأصول وإعادة بناء العلوم القديمة وتجديدها». وهنا تجدر الإشارة إلى أن التركيز على التراث الكلامي من خلال مؤلفه «من العقيدة إلى الثورة «. فهو كتاب يكرس أن عمليـات التغيير (=الثورة ) تؤسس على العقيدة، ولـذلك جاء العنوان: من «العقيدة «كمرجعية إلى «الثورة» كغاية وهدف. وتحقيق هذه الثورة يتم بإعادة البناء بناء النص التراثي والنص الكلامي خاصة وهذه العملية – إعادة البناء – تتم وفق آليات هي:
أـ رفض التقليد: أي تقليـد السلف فيما كتبوا، أوفي طبيعة تصنيفهم للمواضيع أوفي منهجية الكتابة وأدبياتها... في كل ذلك ينكر حسن حنفي التقليـد، وينكر على صناع التراث صنيعهم ذاك حيث يقول:» نهجنا هو عدم التأسي بأحد قدماء أو محدثين، هم رجال ونحن رجال نتعلـم منهم، ولا نقتدي بواحد منهم، وإذا كان القدماء قد آثروا الإتباع دون الإبداع، فإننا نـرى مأساتنا في الإتباع لا في الإبداع».
ب- التركيز على علم العقيدة: وهو أهم العلوم الإسلامية الجديرة بإعـادة البناء في نظر حسن حنفي، وعنوان كتابه يحمل هذه الدلالة «من العقيدة إلى الثورة» فكلمة «ثورة» توحي بضرورة التغييـر، وإذا تساءلنا لماذا علم العقيدة؟. نجد الدكتـور حسن حنفي يبرر دعوته إلى إعـادة بناء علم التـوحيد دون غيره من العلوم الإسلامية بما يلي:
1 - أهمية علم التوحيد: وذلك لشرف موضوعه، والمعارف كلها دون علم التوحيد مكانة، نجد الدكتور حسن حنفي يقرر هذه الأهمية، ولكن ليس لذات السبب بل لبعده الواقعي أو تأثيره السلـوكي فيقول: «فالشرف ليس في الموضوع كما قـال القدماء، بل من الأثر والقدرة على تحريك الناس وتجنيد الجماهير، والدخول في حـركة التاريخ».
2- بعده الحضاري: وهو المبرر الثاني الذي جعل الدكتور حسن حنفي يركز على علم العقيدة، ويبرر ذلك من وجهة تاريخية فيقول:» تأسست دول بأكملها من إعادة بناء نظام العقائد، وهذا بقضائها على المظاهر الشركية، والشرك ليس بمفهومه المتداول في كتب العقيدة كتعظيم القبور بل شرك في المعاملات ووجود مجتمع به أغنيـاء وفقـراء، قاهرون ومقهورون أصحاب سلطة، ومتزلفون منافقون».
2ـ مرتكزات إعادة البناء: وفي مجال إعادة البناء كانشغال محوري في مشروع حسن حنفي، وفي تركيزه على علم العقيدة يحدد مرتكزاته فيما يلي:
أـ التأصيل العقلي: وهو من الجوانب الأساسية التي تنبني عليها عملية إعادة بناء علم العقيدة وذلك لمكانة هذا العلم في المنظومة الإسلامية، ولأبعاده الحضارية، يقول حسن حنفي: «نستمر في التأصيل العقلي دون وقوع في أخطاء التجريد أو التشبيه ولكننا نزيد على التأصيل العقلي عند المتأخرين، «التأصيل الواقعي»عند المعاصرين أسوة بالمصلحين المحدثيـن حتى يرتبط التوحيد من جديـد بالعمل، والله بالأرض والذات الإلهية بالذات الإنسانية» .
ب ـ تباين الاهتمام: أي اهتمام المسلم في القديم وفي الراهن؛ فطبيعة اهتمام القدامى هي العلم والاجتهاد في تحصيلـه، خاصة علم العقيدة. إذا كانت طبيعة الاهتمام في القديم مركزة على العلم، فإن الاهتمام في مشروع إعادة البناء عند حسن حنفي تتمحور حول العمل.
ج - تجاوز المذهبية: إن إعادة البناء بخصوص علم العقيدة كما يطرحه حسن حنفي يقتضي عدم الدفاع عن عقائد فرقة معينة دون غيرها من الفرق، بل ينبغي أن يعاد تأصيل التوحيد كما ورثناه من القدماء ويعاد عرضه على ظروف العصر دفاعا عن مصالح الأمة. وهكذا نجد حسن حنفي أحد الذين اشتغلوا بالتجديد في درس العقيدة وقدموا رؤية معينة لهذه العملية التجديدية.
الباحث وأزمة المناهج في الدراسات الإسلامية
إن «التراث والتجديد» حسب حسن حنفي هو تعبير عن أزمة الدراسات الإسلامية في الجامعات والمعاهد العليا، وهذه الأزمة في الحقيقة أزمة البحث العلمي، وترجع أساسا إلى انفصال في شخصية الباحث بين دينه والبحث، فهو من ناحية مسلم بمعنى أنه مستسلم للواقع الذي يعيش فيه، وهو باحث من ناحية أخرى يدرس التراث بنظرة محايدة، وكأنه يدرس ظواهر تاريخية لا شأن له بها، وهذا مناقض لما عرف به حسن حنفي التراث، حيث أكد أنه قضية شخصية للباحث لأنه ينتمي إليه فكرا وحضارة ولغة ومصدرا ومصيرا.
ويرجع حسن حنفي هذا الانفصال الحاصل في شخصية الباحث بين المسلم والبحث لعدة أسباب منها تصور الإسلام على أنه مجموعة من العقائد لا شأن لها بالباحث العلمي، مما يجعله يتبنى أي منهج من الخارج، والركود الذي أصاب التصور الإسلامي للحياة، والدراسات التي لم تستطع أن تقدم مقابلا للمناهج الغربية، بالإضافة إلى الانفصال عن تراثنا القديم وتبعيتنا للتراث الغربي مما يؤدي إلى حالة من التغرب وتقليد مناهج الغرب العلمية التي تنشأ كرد فعل على معطاها الديني الخالص وهو المسيحية (التراث والتجديد ص69-70)
لذا فإن مناهج العلوم الإنسانية في صورتها الحالية هي بحق إنتاج غربي مرتبط أشد الارتباط بالتاريخ الثقافي للغرب يعبر عن خصوصياته ومشكلاته الفكرية، وقد كان تسرب هذه المناهج إلى جامعات ومراكز البحث العلمي في العالم الإسلامي، أمرا تفرضه الحاجة نتيجة الفراغ العلمي مع شدة الحاجة إلى التجديد، فكان لا بد من استيراد العلوم الغربية أو استيراد مناهجها الجاهزة بدون تعديل أو تغيير.
من هنا يؤكد حسن حنفي أن أزمة الدراسات الإسلامية، والأحكام التي تصدر عنها تكشف عن أزمة في مناهج الدراسة، وهي عدم تطابق المنهج مع موضوع الدراسة نفسه، وهذه المناهج إن لم تكن مضادة لطبيعة الموضوع المدروس، فإنها لا تتفق على الأقل معه، وهي ليست مطبقة عن وعي كامل، مما أدى إلى فقدان البحث العلمي مصداقيته كعلم أساسي، لذا يرى حسن حنفي أن إحياء الدراسات الإسلامية لن يكون إلا من خلال إعادة طرح مسألة التفكير المنهجي المتعلق بها، وبالتالي تجنب الأحكام الخاطئة الشائعة وربطها بحياة الدارسين القدماء والجدد، ومن هنا تحيا في أذهان الباحثين وتتحرك قضية الموروث، وكل ذلك بالبدء في التفكير المنهجي وترجع أزمة المناهج إلى خطأين هما:
النعرة العلمية التي تسود معظم دراسات المستشرقين، والنزعة الخطابية التي تسود معظم دراسات المسلمين.
-النعرة العلمية: وتنشأ أساسا كما يؤكد حسن حنفي من استعمال منهج أو طريقة أو عادة تخالف تماما موضوع البحث، لأنها تعني دراسة الظاهرة الفكرية كظاهرة مادية خالصة وكتاريخ خالص مكون من شخصيات، أو أنظمة اجتماعية، وحوادث تاريخية محضة، يمكن فهمها بتحليلها إلى عوامل مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية تحدد نشأتها وطبيعتها وتحاول ابتداء من هذه العوامل المتفرقة تركيب الظاهرة بدعوى تفسيرها، وهكذا تنقطع الظاهرة عن أصلها في الوحي وعن أساسها في الفكر والواقع، وتصبح ظاهرة مادية خالصة لها أصلها في التاريخ الذي أعطاها طبيعتها.
ويرجع حسن حنفي هذا الخطأ نسبيا إلى أن جميع المستشرقين من أهل الكتاب ينكرون الوحي الإسلامي، ومن المستحيل بالنسبة إليهم إرجاع الظواهر الفكرية التي يدرسونها إلى أصولها في الكتاب والسنة عن اعتقاد أو عن تعود، بل يرون أن الوحي ذاته نتاج التاريخ واتصال المبلغ بالبيئات اليهودية والنصرانية المعاصرة له.
بالإضافة إلى ذلك فإن العلماء الأوربيون عندما بدءوا منذ القرن التاسع عشر، يأخذون على عاتقهم المسؤولية العلمية للنصوص القديمة للفكر الإسلامي، فإنهم لم يفعلوا شيئا إلا أنهم نقلوا بعض المناهج الثقافية المنبثقة عن التجربة الإغريقية، اللاتينية والمسيحية من إطارها الخاص إلى ثقافة أخرى غير معروفة تقريبا بالنسبة لهم حتى ذلك الوقت.
لذا اعتبر حسن حنفي دراسات المستشرقين لا يمكن استخدامها كمصادر علمية أو كبراهين يمكن الاستدلال بها والاعتماد عليها قبل تمحيصها أولا، والتحقق من صدقها، وبيان ما يرجع منها للباحث المستشرق بتكوينه وثقافته ومزاجه، وما يرجع منها إلى الظاهرة نفسها.
ويرى حسن حنفي أنه يمكننا أن نكشف عن النعرة العلمية في مناهج أربعة يستعملها المستشرقون إما منفردة أو مجتمعة، وهي إما شعورية يعيها المستشرقون أولا شعورية كامنة وراء عمل المستشرق وتحدد اتجاهاته أمام الظاهرة وهذه المناهج هي:
المنهج التاريخي، المنهج التحليلي، المنهج الإسقاطي، منهج الأثر والتأثر.
النزعة الخطابية: تعني النزعة ميل الإنسان ورغبته في تحقيق غاية أو هدف ما.
والنزعة أنواع منها الخطابية التي تسود معظم دراسات الباحثين الذين ينتمون إلى حضارة واحدة، وهي تعطي الأولوية للوحي على التاريخ، إلا أنها تتسم بنوع من عدم الجدية في الطرح، وتسودها العاطفة والانفعال فهي تعبر عن أزمة في الفكر تدفع بالباحثين إلى الدفاع عن تراثهم والتحيز والتقريظ له دون أي أساس نظري أوفهم أوبرهنة أورد على الحجة بالحجة وقد لخصها حنفي في:
التكرار أو تحصيل الحاصل، التقريظ أو الدفاع، الجدل والمهاترات، الحدس قصير المدى.
هذا بإيجاز نقد حسن حنفي للدراسات المنجزة حول التراث سواء من المستشرقين أو المسلمين مفضلا القراءة الفينومينولوجية للتراث الديني.
وتسعى قراءة حسن حنفي للترات على حد قوله إلى إبداع الأنا في مقابل تقليد الآخر سواء الغرب أم السلف وإمكانية تحويل الآخر إلى موضوع للعلم بدلا من أن يكون مصدرا للعلم، وهذا ما يكشف عن الطموح الذي تجاوز التكرار والإتباع إلى الخلق والإبداع.
لقد حاول حسن حنفي طرح رؤية جديدة لما ينبغي أن تكون عليه المناهج الجديدة وأهدافها الوطنية والأممية (منطق التجديد اللغوي، منهج تحليل المضمون، تغيير البيئة الثقافية) وخلاصة أهدافها هي النهوض بحال المجتمعات ومقاومة الاستبداد والتصدي للاستعمار والصهيونية والرأسمالية من الخارج، وذلك عن طريق إعادة بناء العلوم الإسلامية دون تقليد أعمى، ودون تصفية التراث الديني، ضمانا لوحدة المجتمع وشحذا لطاقاته الثورية.
كما حرص حسن حنفي من خلال مشروعه الفكري إلى التجديد المنطلق من داخل الثرات ذاته، لتحويله إلى ثورة تحقق أهداف الأمة المتفق عليها ومن ثم وجب نقل الصراع إلى أرضية الفكر العربي القديم للوقوف مع تيارات المعارضة واليسار، كما يتوجب إرساء تحليل للشعور الديني وفقا لمناهج التأويل الحديث مع علم الظاهرات (الفينومينولوجيا) وعلم النفس الاجتماعي.
حسن حنفي مؤسسا للعلمانية الروحية
يعد حسن حنفي أحد وجوه الفكر العربية المعاصرة التي كان لها حضور مستمر في ساحة الفكر الفلسفي؛ ولكن الموضوع الذي شغل باله كثيرا هو موضوع تجديد التراث، الذي اعتبره قضية موقف من التراث القديم، وموقف من التراث الغربي خاصة، وموقف من الواقع من زاوية أخرى .فقد عمل في مشروعه هذا على تخليص العرب من تقليد القدماء، والتبعية للغرب والعزلة عن الواقع. وسعى حنفي بكل ما أوتي من جهد وقوة إلى التوفيق بين التراث والتجديد، وهذا ما يظهر في عناوين كتبه؛ وفي خضم هذا المشروع يلتقي بالعلمانية داخل فرنسا التي تابع فيها دراسته الأكاديمية بجامعة السوربون عام 1966.
وهنا يبرز في الأفق مفكرنا متأثرا على نحو مباشر، أو غير مباشر، بالثقافة الغربية التي كان التيار العقلي فيها هو الغالب بلا منازع كما يقول عنه فؤاد زكريا.
فمقولة العلمانية قد حدث حولها جدال كبير بين مؤيد ومعارض وفي حالة مفكرنا حسن حنفي فإن مقاربته في العلمانية نجدها داخل ما أصبح يسمى ب»نظرية اليسار الإسلامي»-بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة – التي عرفناها عند عبد الوهاب المسيري، ففي سنة 1981 أصدر حسن حنفي مجلّة تحمل اسم «اليسار الإسلامي» وفيها شرح «عقيدة» هذا «اليسار الإسلامي» وأهدافه، معلنا أنّه إنّما يرمي إلى يقظة الأمة واستئناف نهضتها الحديثة وطرح البدائل أمام الناس والاحتكام إلى جماهير الأمة وتجاوز الحلول الجزئيّة والنظرات الفردية إلى تصورّ كلي وشامل لوضع الأمة في التاريخ، وذلك للأسباب التالية: (1) النموذج الإسلامي قائم على العلمانية بمعنى غياب الكهنوت. (2) الأحكام الشرعية الخمسة حسبه تعبر عن مستويات الفعل الإنساني الطبيعي، وتصف أفعال الإنسان الطبيعية. (3) الفكر الإنساني العلماني الذي حول بؤرة الوجود من الإله إلى الإنسان وجد متخفٍ في تراثنا القديم عقلاً خالصًا في علوم الحكمة، وتجربة ذوقية في علوم التصوف.
وتبعا لذلك لا حاجة لنا بالنموذج العلماني الغربي بقدر ما نحن أحوج بنموذج والاكتفاء هو المنطق الذي يجب أن نتبناه، لذلك سعى بمنهجه التاريخي لإعادة النظر في الإسلام من الداخل، وطريق ذلك يكون من خلال نقد العقل العربي بعقلانية حداثية. فهو القائل: «علينا أن نقرأ العقيدة من واقع مجتمعنا، فيتحول علم أصول الدين من الحجة النقلية إلى التحليل الواقعي، ثم يصب في التحليل الاجتماعي للأمة»
لكن هذا التمسك بالإسلام لا يعني بأي حال من الأحوال أن ننفي الحداثة عن فكر حنفي. فهو توفيقي بشكل من الأشكال، وداعية للتوافق بين الحداثة والأصالة، انطلاقًا من اشتغال وتأويل اكتفائي، أو وفاقي. ومع ذلك تظل نظرة حنفي تاريخية، وكأنه يرغب في ضخ الحرية والمساواة والعدالة باعتبارهم مقولات تتأسس عليها العلمانية بحقنة تفعل فيها من الداخل، لأن العرب في نظره ضحايا مركزية أوروبية يلزم رفضها، لا تفكيكها.فالمفكر المصري كان يبتغي في مشروعه التأثير في التاريخ والواقع بحركة مزدوجة تتمثل في منح الفكر صفة سياسية بعيدة أو قريبة. فمشروع حنفي يبدوا وكأنه يقف أمام بعض المشاريع التي حاولت رسم أسس النهضة العربية؛ خاصة منها الداعية للأخذ بالنموذج الغربي وإقصاء الدين عن الحياة السياسية في صورة أنصار التيار العلماني الليبرالي الذي أسسه شبلي الشميل وسلامة موسي.
فالمتأمل لنصوص حنفي يراه يتبنى خيار العلمانية الجزئية وليس الشاملة على حد عبارة المسيري؛ لكنه يركز على طابعها الروحي، فحسبه الوحي بالأساس علماني والإسلام دين، فالقرآن يؤمن بالديانات الأخرى ويدعو إلى التسامح معها ولا يكره الناس على تغيير عقائدهم بل انه يدعوك إلى تجاوزه بتدبره وقراءته وتأويله وتحقيق مناطه.
فقد أعلن صراحة في كتابه «التراث والتجديد موقفنا من التراث القديم» عن موقفه من العلمانية:»إن قيل إن التراث والتجديد سيؤدي حتما إلى حركة علمانية وفي العلمانية قضاء على تراثنا القديم وموروثاتنا الروحية وآثارنا الدينية. قيل: قد نشأت العلمانية في الغرب استجابة لدعوى طبيعية تقوم على أساس رفض الصور الخارجية وقسمة الحياة إلى قسمين واستغلال المؤسسات الدينية للجماهير وتواطؤها مع السلطة وحفاظها على الأنظمة القائمة. نشأت العلمانية استردادا للإنسان لحريته في السلوك والتعبير وحريته في الفهم والإدراك ورفضه لكل أشكال الوصايا عليه ولأي سلطة فوقه إلا من سلطة العقل والضمير. العلمانية إذن رجوع إلى المضمون دون الشكل والى الجوهر دون العرض والى الصدق دون النفاق والى وحدة الإنسان دون ازدواجيته والى الإنسان دون غيره. العلمانية إذن أساس الوحي فالوحي علماني في جوهره والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ، تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور. وما شأننا بالكهنوت والعلمانية ما هي إلا رفض له؟ العلمانية في تراثنا وواقعنا هي الأساس واتهامها باللادينية تبعية لفكر غريب وتراث مغاير وحضارة أخرى»
زد على ذلك نجده يصر على تحويل تجربة الشورى الشعبية إلى تجربة ديمقراطية حقيقية بالمعنى السياسي والاجتماعي وهنا يلتقي مع أنصار العلمانية الذين يعتبرون الديمقراطية المخرج الأساسي من وحل الاستبداد. وقد بحث حنفي في الجذور التاريخية الجاثمة في وجدان الجماهير والتي عطلت عملية الانتقال إلى الباريديغم الديمقراطي ومنعت الناس من المطالبة بالتمتع بنعمة الحرية والعدالة، أضف إلى ذلك أنه لا يرى وجود تعارض بين الإسلام والديمقراطية بل يدعو الإسلاميين إلى تبني النهج الديمقراطي وقبول فكرة التعددية ويحثهم على نبذ العنف والاعتراف بالآخر والاهتمام بالمعاملات والاجتماعيات وترك مسألة العبادات والغيبيات. يقول حنفي في هذا الأمر:»اليسار الإسلامي عبارة عن حركة تاريخية جماهيرية ثقافية حضارية اجتماعية وسياسية وثقافتنا ترتكز على ثلاثة أصول: أولا التراث القديم، ثانيا التراث الغربي، ثالثا القرآن الكريم».
عندئذ يقر حنفي أن ما يقوم به هو مجرد محاولات ولا يدعي أنه صاحب نظرية علمية أو رسالة إيديولوجية، فمنهجه تأصيلي رغم أنه يذكر المنهج الأصولي ويرى أنه لا تقدم للعرب دون ثورة مفاهيمية إذ يصرح حول هذا الأمر:» هذه إذن محاولات أقوم بها لإعادة إحياء التراث القديم للدخول في مشاكل العصر لأتمكن من تقديم البديل الإسلامي الثوري المستنير الذي يستطيع أن يحرس المسلمين من التيارات الرجعية أومن التيارات العلمانية الحديثة».
وتبعا لهذا نجد مشروع حسن حنفي يتجه لإعطاء بعد روحي قيمي للعلمانية ، انطلاقا من جعل الإنسان محور عملية التحضر.
فقد سار بفكره نحو علمنة العقل الإسلامي بعدما كبلته معطيات الماضي التي وجهت وجدانه واتجه به لإنتاج عقل بإمكانه مساءلة الفضاء الاجتماعي والسياسي. فعد بحق من رواد النزعة التجديدية العربية إضافة لمحمد أركون ومحمد عابد الجابري . فقد أعلن بصوت مرتفع موقفه بالتحديد من العلمانية : « إن الإسلام دين علماني في جوهره، لا حاجة له لعلمانية مستمدة من الحضارة الغربية» ومبرره في ذلك أن الحاجة إلى الفهم تتأسس عل ضوء القراءة التاريخية للمسار الحضاري الذي ابتعد فيه المسلم عن الريادة واكتفاءه بدور المتفرج متجاهلا كونه كائن عاقل ومفكر فحسبه: « إن تخلفنا عن الآخر هو الذي حول الإسلام إلى كهنوت وسلطة دينية ومراسم وشعائر وطقوس وعقوبات وحدود، حتى زهق الناس واتجهوا نحو العلمانية الغربية بما تمثله من عقلانية وحرية وديمقراطية وتقدم»
يبدوا جليا أن حنفي قد تجاوز الفهم الغربي للعلمانية الذي يؤسس لرفع السحر عن العالم بلغة ماكس فيبر ومارسيل غوشيه؛ حيث نجده يعاكس الأمر ويجعل الدين الإسلامي حامل بقيمه لمقولات العلمانية إذ يقول حنفي في كتابه اليمين واليسار في الفكر الديني : «...حتى لا نظن أن الفكر الديني شيء مقدس، بل هو نتاج أنساني مثل الايديولوجيات التي تنبع من واقع اجتماعي ثم تعود لتؤثر فيه من جديد» ومن جهة أخرى يدعو لإعلاء الحس العقلي على النقلي، حيث يؤكد في كتابه «التراث والتجديد» رفضه لسيطرة النص على الواقع الحسي، فهو المفكر اليساري الذي يقول بأسبقية الواقع على الفكر أو ما اصطلح عليه بأسبقية البناء التحتي المادي على المثاليات والنظريات، وهو ما جعله يشهد بهذا الاعتراف المثير « إن ما عبر عنه القدماء باسم أسباب النزول لهو في الحقيقة أسبقية الواقع على الفكر، كما أن ما عبر عنه القدماء باسم الناسخ والمنسوخ ليدل على أن الفكر يتحدد طبقًا له، إن تراخى الواقع تراخى الفكر وإن اشتد الواقع اشتد الفكر» وهذه رؤية دقيقة للتراث بلا شك يحاكم فيها التاريخ وفقا لظروفه وبالتالي فالعقل هو الحاكم والمهيمن. فالعلمانية عنده «رجوع إلى المضمون دون الشكل وإلى الجوهر دون العرض، وإلى الصدق دون النفاق، وإلى وحدة الإنسان دون ازدواجيته، وإلى الإنسان دون غيره». العلمانية إذن هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور، وما شأننا بالكهنوت، والعلمانية ما هي إلا رفض له ! العلمانية في تراثنا وواقعنا هي الأساس واتهامها باللادينية تبعية لفكر غريب، وتراث مغاير، وحضارة أخرى .
وتبعا لما سبق يبدو أن اتجاهه نحو اليسار الإسلامي أو الإسلام الثوري هو منزلة بين السلفيين والعلمانيين. يحاول أن يقلل المسافة بينهما عن طريق إيجاد جذور العلمانية في التراث القديم في الاعتزال وأصوله الخمسة أو مقاصد الشريعة أو الفلسفة، وكذلك إيجاد مبادئ الإسلام في العلمانية الحياة، والعقل، والحقيقة، والكرامة، والثروة الوطنية. وكما وجد القدماء الاتفاق بين الفلسفة والدين يجد المحدثون الاتفاق بين الإسلام والعلمانية أو بين الإسلام والحداثة أو بين الإسلام والعقلانية والتنوير.
التــراث والنـص والتجديـــد
يكاد يتفق المفكرون المحدثين بأن التراث وكيفية قراءة التراث هي إشكالية التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر بسبب الحضور القوي للتراث في الوعي الجمعي الإسلامي، ومن ثم فقد ارتكز مشروع حسن حنفي على تحقيق النهضة المعاصرة من خلال إعادة بناء الموروث الحضاري للأمة الإسلامية ولكن بصيغة عصرية تتلاءم مع واقعنا المعيش، لذلك فإن حسن حنفي في تعامله مع النص الديني والتراث، لا يرى حرجا في الدين والوحي، بل إنّه يسعى إلى أن ينقل الدين من الماهية المجردة إلى العقلانية الواقعية، لذلك سيستند في مشروعه على اعتماد العقل كوريث شرعي وحيد للوحي، ومن ثمّ إمكانية اعتماده ليس فقط في تـأسيس الإيمان بل في كل الجوانب الحضارية، بحيث يمكن نقل (الوحي الإلهي الذي يتجلى كمعطى مهاوي) إلى (العقل الإنساني الذي يتمظهر كحكمة أو نظريّة في الوعي الإسلامي المتجدّد)، بمعنى أن ينقل التراث كوحي إلى الإنسان كقارئ للوحي، ولهذا أطلق على مشروعه الفلسفي (التراث والتجديد)، هذا المسعى التجديدي –بالنسبة لحسن حنفي رحمه الله –هو الذي سيخرج بالأمة من التخلف والانحطاط ويردم الهوة بين التراث والواقع، بحيث يكون قادرا على الدخول في تحديات العصر الرئيسية ووقف التغريب الذي وقع فيه بعض دعاة التجديد، ولذلك سيرتكز في مشروعه التنويري على ثلاث جهات: (1) الموقف من التراث القديم، (2) الموقف من التراث الغربي،(3) الموقف من الواقع (فهم الواقع الراهن).
وفي موقفه من التراث القديم يحدد حسن حنفي نوعين من التراث: تراث مادي موجود في المكتبات مخطوط أو مطبوع، وتراث شعوري يتشكل كمخزون نفسي على مستوى الوعي الجماهيري يوجه سلوكاتهم وتصرفاتهم، ويجعل من التراث «نقطة البداية كأسبقية ثقافية وقومية» من خلال «ضرورة إعادة تفسير التراث طبقا لحاجات العصر».
وباعتبار أن حضارتنا هي حضارة مركزية نشأت حول النص القرآني، ستكون قراءة النص (تفسيره) في البعث الحضاري من الأهمية بمكان، إذ يعتبر حسن حنفي النص «ليس وثيقة مدونة تشبه السجلات القديمة بل هو كائن حي في حالة سكون يبعث بالقراءة فيحيا من جديد وبأشكال جديدة» كما يمكن قراءته قراءة موضوعية، «ولا تعني الموضوعية هنا إرجاع النص إلى ملابساته التاريخية التي منها نشأ، بل إيجاد معنى له عام وشامل وثابت مطرد في الطبيعة البشرية يدركه كل إنسان في كل عصر وحضارة ببداهته العقلية»، بحيث تكون القراءة فهم «مباشر بغير ما حاجة إلى تفسير أو تأويل، فإذا استعصى الفهم البديهي المباشر نشأت الحاجة إلى التفسير أي إلى الفهم من الدرجة الثانية اعتمادا على منطق اللغة أو توجه النص (السياق) أو ضرورة الموقف أو روح العصر، فإذا ما اصطدم التفسير بمنطق اللغة وقوى توجه النص، وفرضت ضرورة الموقف نفسها، وعمت روح العصر ظهرت الحاجة إلى (التأويل)» ووجد حسن حنفي في المنهج الفينومينولوجي ضالته باعتباره المنهج الذي يساعد على كشف ماهية النص التراثي وتحليل الترسبات الفكرية التي أعاقت ونمطت الفهم.
ويظل « مصرا على أن منهجه في قراءة التراث هو منهج تحليل النص التراثي الديني باعتباره تجارب حية، وأن مطالب العصر هي التي يجب أن تكون أساسا لتفسير وقراءة هذا التراث .