السبت 23 نوفمبر 2024 الموافق لـ 21 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

عـن ثقـافـة الاِختـلاف

هل يمكنُ الحديث عن ثقافة الاِختلاف؟ وهل هي موجودة حقًا في وسطنا الأدبي والثقافي. ومتّى يمكن أن تسود وتتأصل وتترسخ هذه الثقافة في سياقنا الجزائري والعربي عمومًا. وما الّذي يجعل الكاتب والمُثقف والأديب والفنان وحتّى الفرد البسيط، يُؤمن ويعتنق هذه الثقافة كسلوك ومُمارسة ونهج، بعيداً عن التشنجات والصراعات والنقاشات المحتدة والمتأزمة أو المأزومة؟ ومتّى نصل إلى درجة الوعي بضرورة وحتمية هذه الثقافة.

استطلاع/ نــوّارة لحــرش

حول هذا الشأن "ثقافة الاِختلاف" كان ملف "كراس الثقافة" لهذا الأسبوع، مع مجموعة من الكُتّاب والنقاد والباحثين الأكاديميين، وفيه وجهات نظر مختلفة ومتباينة وإشكالية في بعض الأحيان.

محمّد تحريشي ناقد وأكاديمي
ثقافة تتأصل بالتسامح
إنّ الحديث عن الاِختلاف في هذا الزمان أضحى أكثر من ضرورة، وهو من مُتطلبات التواصل بين النّاس خاصةً مع التباين في الرأي فهو أقرب إلى الحوار منه إلى الخلاف والقطيعة والإلغاء والإقصاء. ولكن عن أية ثقافة اِختلاف نتحدث؟ إنّ ما يجب الاِنطلاق منه هو أنّ الاِختلاف ظاهرة طبيعية وبيولوجية وذهنية وحتّى مزاجية، وهي تتعلق بطبيعة الإنسان المنبثقة عن تعدّد أنماط البشر وتنوع بني الإنسان. ومن ثم يكون الاِختلاف مُحفزا للتعارف وللاِعتراف بالآخر باِختلافه. هذا الاِختلاف الّذي قد يكون في التفكير وفي التعبير وفي ردود الأفعال وفي المواقف المبدئية.
ومن ثمّ يُصبح الإقرار بالاِختلاف شريعة بين المُتخاطبين. والواقع أنّ هذا الحديث يؤدي إلى الأسئلة المنطقية الآتية: لماذا نختلف؟ كيف نختلف؟ متى نختلف؟ مع من نختلف؟ ما ضوابط الاِختلاف؟ ولعلّ هذه الأسئلة هي مفاتيح لمناقشة هذا الموضوع، وفي الوقت ذاته تجعلنا نقف على حقيقة ثقافة الاِختلاف في الوسط الأدبي والثقافي، والّذي يشهد خصومات ومشاحنات كلّ فترة تحت غطاءات مُختلفة ومُتعدّدة، وفي حالات كثيرة حالات من الودية وقبول الآخر المُختلف عنا ثقافيًا وفكريًا.
يقوم الخلاف والاِختلاف والتأييد والمعارضة على النزوع الإيديولوجي والعقدي والعقائدي والمُمارسة الإبداعية والتفكير النقدي، والّذي يعكس وجهات نظر مُختلفة قائمة على مصالح شخصية مُتضاربة. ويمكن أن تُصبح ثقافة الاِختلاف مُتأصلة في المجتمع عمومًا، وفي الوسط الثقافي والأدبي لَمَا تسمو ثقافة التسامح وتخبو ثقافة الإلغاء والإقصاء. فقد ذُكِر في كِتاب البيان والتبيين: "ولم يَرَ النّاسُ أعجبَ حالاً من الكُميت والطرمّاح، وكان الكميتُ عدنانيّاً عصبيّاً، وكان الطرِمّاح قَحطانياً عَصَبيّاً، وكان الكميت شِيعيّاً من الغالية، وكان الطرِمَّاح خارجيّاً من الصُّفْريّة، وكان الكميت يتعصَّب لأهل الكوفة، وكان الطرمَّاح يتعصب لأهل الشام، وبينهما مع ذلك من الخاصَّة والمخالَطة ما لم يكن بين نَفْسَينِ قطّ، ثمّ لم يَجْر بينهما صَرمٌ ولا جَفْوةٌ ولا إعراض، ولا شيء مِمَّا تدعو هذه الخصالُ إليه، ولم يَرَ النّاسُ مثلَهما".
أين نحن من هذا ونحنُ نُتابع مشاحنات وخصومات وبعض العداوات على المنابر وفي وسائل التواصل الاِجتماعي تُفسد للودّ قضية؟ صعب لَمَّا يتحوّل الاِختلاف إلى خلاف وخصومة والتي تُصير عداوة، ولَمّا يصيرُ الاِستفزاز والخطاب العنيف أو القائم على الصدمة سبيلاً للمساس بمعتقدات الآخرين وقناعاتهم. إنّ الاِستناد إلى مرجعية فكرية تجعل من الاِختلاف عنصر قوّة ولحمة واِتحاد مع الاِحتفاظ بالخصوصية. ولا بأس أن نُشير ها هنا إلى مقولة الشافعي المشهورة والتي خلدتها كُتُب الأخبار: "كان يونسُ بن عبد الأعلى أحدَ طُلاب الإمام الشافعي رحمهم الله، واختلف يونس مع أستاذه الشافعي، فقام غاضبًا وترك الدرس ورجع لبيته، وفي الليل ذهب الإمام الشافعيُّ لبيت يونس، فقال له: يا يونس، تجمعنا مئاتُ المسائل وتُفرِّقنا مسألةٌ! يا يونس، لا تحاول الاِنتصار في كلّ الاِختلافات، فأحيانًا كسب القلوب أَولى من كسب المواقف، يا يونس، لا تهدم الجسور التي بنيتَها وعبرتها، فربّما تحتاجها للعودة يومًا ما، اكره الخطأ دائمًا ولا تكره المُخطئ، يا يونس، اِنتقد القول لكن اِحترم القائل؛ فإنّ مهمتنا أن نقضي على المرض، لا على المريض." مقولة كلّها حكمة ودستور يمكن الاِحتكام إليه.

محمّد بن زيان كاتب وناقد
شِعار تمت قولبته لنفي المُختلف باِسم الاِختلاف
لا يمكن أن نتصوّر فعّالية ثقافيّة وفكرية بدون اِستيعاب الاِختلاف، وأيّ تجاوز لهذا المعطى يؤدي إلى التجميد وإلى البقاء أسرى ذلك الكهف الّذي تحدث عنه الفلاسفة قديمًا، كهف نُحاوِر فيه الأطياف ونُرّدد الصدى. والاِختلاف المقصود هو المرتكز على وعي، وعلى تفاعلية مُنتجة للقيمة المُضافة.
في ثمانينيات القرن الماضي وفي سياق التحوّلات التي عرفتها البلد وعرفها العالم، تحوّلات دفعت إلى مواجهة الذات وإلى حضور الهاجس الأنطولوجي، حضر حديثُ الاِختلاف في الوسط الثقافي، حضوراً مرتبطًا بِمَا ترتبَ عن هيمنة المونولوج وغياب الصوت المُتعدّد.
لكن بين الحديث والواقع تفاصيل اِستمرار بعض رواسب اِستبعاد الرأي المُغاير، وحتّى شِعار الاِختلاف تمت قولبته لنفي المُختلف باِسم الاِختلاف أي تمّ تحويل الاِختلاف إلى نسق ينفي فحوى الدال. وإذا ما  رجعنا إلى رصيدنا الثقافي والفكري في فترات سابقة سنجد أنّ هناك تحقّق فعلي لاِستيعاب الاِختلاف ومد جسور التفاعل الحواري فالدكتور طالب الإبراهيمي يذكر في الجزء الأوّل من مذكراته أنّه تَعَرَفَ على المناضل الشيوعي عمار أوزقان في مكتب والده الشيخ البشير الإبراهيمي، ولَمَا أشرف الدكتور طالب على جريدة "الشاب المسلم"، اِحتضنت صفحاتها توقيعات مُتعدّدة مثل علي مراد وشريف ساحلي. عقب اِسترجاع الاِستقلال تجسد اِستيعاب الاِختلاف وترسيخ ثقافته في تشكيلة اِتحاد الكُتّاب وفي أوّل جائزة  منحها مناصفةً بين محمّد العيد أل خليفة ومحمّد ديب.
إنّ المِحن التي عشناها وطنيًا وعربيًا اِرتبطت بهيمنة ما يُسميه أركون بالسياج الدوغمائي المُغلق، هيمنة الدوغما بكلّ تفرعاتها وتمظهراتها، بغياب العقل النقدي وبغياب ترسخ اِستيعاب الاِختلاف. إنّ ما يدفع إلى الاِلتفات إلى ثقافة الاِختلاف هو ضرورتها المصيرية، فبدون اِختلاف لا يمكن أن يتحقّق إبداع التاريخ كصيرورة هندسة للأُفق.
إنّ ما يدفع إلى ترسيخ ثقافة الاِختلاف كحس ووعي ومُمارسة هو تلقيح الكيان وحمايته من عمى الهوية بتعبير عبد الكبير الخطيبي، العَمى الّذي شَكَلَ ما أسماه أمين معلوف بالهويات القاتلة. ويمكن تحقّق ترسيخ قيمة الاِختلاف وتفعيلها عمليًا بجهد بيداغوجي يُرسخ تقليد الحوار المُتبصر والتحلي بفضيلة الإنصات. والتَمَرُّن على رؤية المُختلف كمكوّن محوري للتَشكُّل المُستمر للهوية.
وربّما المرحوم بختي بن عودة لخص المعنى لَمَا نحت مرّة عبارة تدمج مفردتين "الاِختلاف والاِئتلاف" في مفردة مشتركة ومركبة "الائختلاف"، لكن هناك كما أسلفت نسفٌ للاِختلاف باِسم الاِختلاف، نسفٌ بقولبة الاِختلاف وتنميطه وتحويله إلى نسق مُغلق بأختام محدّدة. نسف معنى الاِختلاف بإعادة اِستنساخ براديغمات وإسقاط تعسفي لمقولات ومفاهيم.


عبد الحفيظ بن جلولي كاتب وناقد
طبيعة المجتمع هي التي تُحدّد وجود الاِختلاف من عدمه

تطرح التصوّرات والوقائع أمام وعينا الفكري فنختلف بداهةً في الرّؤية إليها، لأنّ الأسئلة التي نُوجّهها صوب تلك الموضوعات تختلف أساسًا لاِختلاف زوايا الرّؤية، نحنُ لا نختلق ذلك الاِختلاف أو نقيم تفاهمات حوله، إنّه ينطلق كذلك نتيجة لاِختلاف الوعي والثقافة والتربية، يسري من الفهم تجاه العالم محرَّرا من إكراه الإملاء، إنّنا مختلفون بالطبيعة، وبالوجدان الّذي يُشكل اِنفعالاتنا تجاه الأشياء وتحوّلات العالم والذّوات، ولا يمكن أن نكون على رأيٍ واحد ونحنُ نواجه حدثًا ما، هل هذا يعيب وجودنا الإنساني في عالم يتعدّد ويتغيّر باِستمرار؟
الخالق عزّ وجل يُؤكد حقيقة الاِختلاف بين النّاس الذين خلقهم وهو عليمٌ بطباعهم: "ولو شاء ربّك لجعل النّاس أمّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم"، فالاِختلاف سنّة إلهية مكرّسة في البشر، ليتأسّس العالم وفق التعدّد الّذي ينتج الثّراء والوعي أساسًا بالآخر الّذي هو "الأنا" مُتأكداً في الموضوع، الأنا خارج الذّات، المرآة المُعلّقة على جدار الواقع لنضبط وفقها نسق كينونتنا التي ليست وحدها في العالم، إنّها في الحقيقة تتشكلُ طبقًا لإحراجات السّؤال الّذي يجيء مُفاجئًا من الآخر فيفتح وعي الذّات على درجٍ مجهول في دولاب ذاكرتنا التي تتسع لمثل هذه المفاجآت.
هل فعلاً يمكن أن يتحقّق هذا الاِختلاف في واقعنا الأدبي والثقافي؟ يبدو لي إنّ طبيعة المجتمع هي التي تُحدّد وجود الاِختلاف من عدمه، ولا يمكن أن نعدم الاِختلاف كليةً من واقعنا لأنّنا نحاول أن نكون مختلفين قدر الإمكان، وبقدر ما يكون المجتمع قابلاً للتسامح والتعايش والقبول بالآخر تكون الكيانات الثّقافية والأدبية مدمجة بالضرورة في سياقاته، أيضاً، لا يمكن أن نُقارن مجتمعنا الّذي مازال سائراً في طريق الاِختلاف بمجتمع تعدّدي متطوّر، لأنّ الاِختلاف يقتضي بدايةً خصيصة الاِستماع، فَهْمُ حقيقة ما يقوله الآخر ويُفكر فيه، قبوله ولو كان مُتمايزاً جوهريًا عمّا نعتقده أو نُفكر داخل أنظمته المعرفية، فاليقينيّات الدوغمائية من أشد الإعاقات الفكرية التي تُعيق عملية التواصل عبر الاِختلاف، ومازال هذا قائمًا في كياناتنا الأدبية والثّقافية، فمجرّد عملية نقد لنص قد يُحيله صاحب النص إلى نقد لشخصه وننتقل من القراءة النّصيّة إلى اِنتقاد الشّخصية ويتم التداخل في الوعي بين ما هو ثقافي أدبي وما هو شخصي وهذا من أهم إشكالات الوعي بالاِختلاف التي نُواجهها في مجتمعاتنا. حينما نقرأ في تراثنا العربي الإسلامي في سيرة عمر (رض): "رحم الله اِمرأ أهدى إلي عيوبي"، لم تكن هذه العبارة مجرّد نسق تعبيري يُراد به تأطير كلمة موجّهة إلى الجمهور، بل كانت واقعًا يُراد من خلاله أن يُثبت أنّه لا يمكن أن نُؤسّس لكيان إنساني تسوده القيم ويتحرّك إلاّ إذا اِختلفنا نتيجةً لاِختلافنا الجوهري في الرّؤية، فينتقل النقد من مستوى مجرّد التّنبيه الشّخصي إلى مستوى الطروحات نتيجة سريان القبول اِبتداءً بالنقد، فلا يمكن أن يتحقّق الاِختلاف في مجتمعٍ ما دون أن يكون ذلك المجتمع مُتقبّلاً للنقد، دون النقد والاِختلاف تموت الفعّاليّة في فضاءات المجتمعات والكيانات الأدبية والثّقافيّة.
في محيطنا الجزائري والعربي، ما زلنا كمجتمعات تقليدية ننتظم ضمن مفهوم الشّخصنة التي تجعل الذات تعيش خوفًا مُبالغًا فيه من الآخر الّذي يمكن في مخيالنا الشّعبي أن يمس بقداسة نزاهتنا أو كمالنا، وهو ما يؤدّي إلى أنّنا لا نستمع إلى بعضنا البعض في حواراتنا أو جدالاتنا بقدر ما نعمل على تهيئة أنفسنا للردّ، مِمَّا يشحن الذات بنوع من الهيجان غير المُبرّر، لأنّ المجتمع قائم على رفض النقد والاِختلاف وهو ما يكون مانعًا لنا من اِستيعاب ما يُقال وفهمه ومحاولة نقاشه اِختلافًا أو توافقًا.
يمكن للمجتمعات أن تصل إلى مرتبة القبول بالاِختلاف، لأنّ أصل الوجود قائم عليه، فالاِختلاف موجود في اللون وفي اللسان وفي الجغرافيا وفي العقائد وهو ما يُؤدّي في النهاية إلى الاِختلاف في الرّؤى، وتقبل الاِختلاف يكون نتيجة لاِرتقاء الوعي من مستوى المطابقة إلى مستوى التمايز، فأن أتفق معك لا يعني أنّني أستعمل نفس الوسائل والعناصر التي تستخدمها، لأنّ طرائق التفكير تقبل أن نتفق في ما نحن مختلفين فيه أصلاً، فالوصول إلى مستوى اِستبانة الأفكار في تمايزها بطروحات مختلفة يعني أيضا بطريقة أو بأخرى مستوى من الاِتفاق، لأنّ اِستبعاد اليقينيات المُكثفة بالأيديولوجيا والقناعات الزائفة والرأي الواحد كلها عوامل تستتبع اِستبعاد العنف الرمزي والمادي ونسج دوائر التواصل عبر الاِختلاف، كيف نحقّق ذلك؟ يتم ذلك إذا اِستطعنا أن نكون كيانات مجتمعية باِختلاف طوائفها قادرة على الإقناع وإيصال الأفكار بطُرُق تستعمل مفردات الطائفة المجتمعية، أي أنّنا نفهم عن المُتعلم طبقًا لثقافة التعلُم، ونفهم عن الإسكافي طبقًا لثقافة التأسكف.. ألم ينتج المجتمع المدني من تجمّع أصحاب المِهن في أوروبا لإسماع صوتهم ضمن ما يُعرف بالجمعيات، أي تلك التي تُوصل صوت الاِختلاف إلى المجتمع لمُمارسة البناء والمُساهمة في التطوّر والتقدم.

بشير خليفي أستاذ وباحث. كلية العلوم الإنسانية والاِجتماعية -جامعة معسكر
سمة وضرورة إنسانية تفرضها طبيعة الحياة

يُعدُ الاِختلاف طبيعة مُلازمة للوجود الإنساني، كما أنّه يُعبر عن حِكمة عميقة في الإحالة إلى التعدّد والتنوع بغرض المعرفة والتعارف، وُصولاً إلى لحظة الاِعتراف بالحق في الاِختلاف، في إطار التواصل الايجابي والحوار البنّاء المُؤسَّس على الاِحترام المُتبادل.
ولإدراك نعمة الاِختلاف؛ لنتخيل ولو لبرهة أنّنا مُتطابقون ومتشابهون في الشكل والأفكار واللّغة والتقاليد. وأنّ العالم بلون وطعم وشكل واحد، ألاّ يدعو ذلك للملل والاِكتئاب الّذي لا أمل بعده. لذلك يُعد الاِختلاف سمة وضرورة إنسانية تفرضها طبيعة الحياة في مقامٍ أوّل، إضافةً إلى اِعتباره مَلمَحًا حضاريًا، يشي حضوره بالتعدّد والتنوع المفيد للحياة الاِجتماعية والإنسانية.
إنّ الاِختلاف بين البشر واقع إنساني له أسبابه وتجلياته، يبدأ هذا الاِختلاف فزيولوجيًا من خلال الطبيعة البيولوجية التي تُميز كلّ فرد مع وجود تقاطعات بين البشر، أتحدث هنا عن الملامح المورفولوجية التي تميز إنسانًا مُعينًا عن بقية النّاس، إضافةً إلى اِختلاف سيكولوجي تتضح ملامحه باِختلاف النفسيات بين البشر، زيادةً على اِختلاف ثقافي تتحدّد من خلاله القناعات والسلوكات، في إطار تعددية الآراء والعقائد والمصالح على رأي الفيلسوف علي أومليل في كتابه "في شرعية الاِختلاف". فيتضحُ الاِختلاف على سبيل المثال في الخصوصية التي لا نظير لها والتي نجدها في البصمة والحدقة والنبرة والإمضاء..
والواقع أنّ ثمّة تبريرات عديدة تُؤسس لواقع الاِختلاف، يرتبط الأمر بالخلفيات والسياقات الثقافية على غرار الاِنتماءات السياسية والدينية، وأحيانًا بسبب المستوى المعرفي أو عامل السن على غرار ما يُلاحظ في اِختلاف التفكير بين الآباء والأبناء، أو بسبب المصلحة والاِهتمام وكذا بِسبب اللّغة لأنّ طبيعتها تُحدّد نمط التفكير فيها زيادةً على اِعتبارها الملمح الأساس للثقافة. كما يعود سبب الاِختلاف في الآراء إلى تعدّد المعايير حينما يتعلق الأمر بالحُكم على موضوع ما إمّا بالصواب أو الخطأ فنكون في عوالم المنطق، أو بالاِستحسان والاِستهجان في مجال الأخلاق، وإمّا من زاوية القُبح والجمال في مسائل الجمال، دون أن يعني هذا التفسير ربطًا تعسفيًا للحُكم بمجال ثنائية الصواب والخطأ وبمعيارية الأبيض والأسود بالنظر إلى تنوع الأحكام وتعدّدها، بمقابل ما يدرأ الحق في التفكير بِوصفه حقًا إنسانيًا أصيلاً من تقليد وتعصب وانغلاق فكري. هذا وينبغي الإشارة إلى أنّ الإقرار بالحق في التفكير والدعوة للاِختلاف لا يعني البتة نفي بعض الحقائق والثوابت الإنسانية، إذ يمكن الحديث عن عموميات تُحيل إلى الصواب النظري بوصفها قيمًا إنسانية خالدة على غرار البر بالوالدين، الإحسان إلى الضعفاء، اِحترام الجار، مساعدة الضرير على قطع الطريق...، هذا ما يمكن اِستنتاجه من تقسيم عالم الاِجتماع الأمريكي رالف لنتون Ralph Linton للقيم والمعايير الثقافية إلى عموميات، خصوصيات ومتغيرات.
هذا على المستوى الينبغياتي، أي مستوى التمثلات والتصورات، أمّا حينما يتعلق الأمر بالواقع، فيتجسد الحال أحيانًا في مشهدية نسر الهيمالايا الّذي يتباهى ويتغنج بأجنحته في السّماء، لكنه يمشي بطريقة غريبة، ويتساقط إذا ما أراد أن يهرول على أديم الأرض. بالمعنى الّذي يصيرُ معه الحديث النظري عن الاِختلاف على مُستوى التنظير سهلاً وسلسًا، بمقابل عُسر شديد حينما يتعلق الأمر بالمُمارسة الواقعية.
لذلك يحتاج الاِختلاف إلى ترشيد بواسطة التهيئة على مُستوى الفهم والمُمارسة، أتحدثُ هنا عن الاِختلاف المحمود المُؤصل بأخلاقيات الحوار والمُناقشة بضوابط العيش المُشترك، الّذي هو في الأصل فلسفة قائمة في ذاتها، له معاييره وضوابطه وشروطه، إذ يحتاج في مقامٍ أوّل إلى معرفة كُنهه وإدراك ضرورته ومقاصده وكذا أخلاقياته، مع ضرورة التمييز بين الاِختلاف والخلاف من جهة، وبين ما يُختلف وما لا يُختلف فيه. درءاً لتفرق السُبل المُفضي لاِنتشار العصبية والكراهية والإقصاء.

محمّد خطاب كاتب ناقد ومترجم
الاِختلاف تُنتجهُ الطبيعة في كلّ لحظة

الطبيعة لا تكذب أبداً. إنّها مُخلصة للوجود. لكن الإنسان عنيد. الاِختلاف تُنتجهُ الطبيعة في كلّ لحظة، بل تحياه، لكن التشابه هو عاهة البشر. وبسبب هذا الميل القوي للتشابه لم يهدأ الدم، ولن يهدأ إلاّ إذا اِنتصرت الطبيعة الإنسانية فينا، فالبشري ميّال، والإنساني حالم. اِبن عربي المتصوّف يتحدث عن مُزاحمة الأضداد مثلما يحكي رولان بارت تقريبًا عن الحياة الفردية داخل الجماعة في كتابه "كيف نحيا معًا" (بذواتنا) وذواتنا من إضافة صاحب السطور، لأنّ بارت داخل الكِتاب يتحدث عن الخصوصية وسط المجموع، وكيف تنشأ منظومة العلاقات بين الذوات. المسألة في نظر النقد الواعي حيوية، وصاحبة الاِستطلاع أصابت حين فكرت في موضوع لم ينته ولن يموت.
اِبن عربي يتحدث عن حامل اللون والرائحة والطعم في جسم واحد، التفاحة مثلاً. كيف تحيا بالضدّ وكيف يكون الاِختلاف الّذي تبدعه الطبيعة فينا خلاقًا؟ الاِختلاف إملاء طبيعي، لكن الاِنحراف في غريزتنا التي ترغب في المزيد من التشابه. يمكن أن نقف لحظة ونسأل: لم التشابه؟ لم هذه الرغبة العارمة في قتل الاِختلاف وجر الكل إلى يقيننا؟ الواقع أو التاريخ بكلّ قساوته يجيب عن ذلك. التاريخ ليس كائنًا مُتكتمًا، إنّه يقول باللّغة البشرية ويفضح عورة الإنسان الداخلية التي هي بئر غائرة لا تشبع أبداً. غريزة التشابه يبنيها اليقين الّذي تُمليه معرفة تتعصب للرغبات المشوهة: المال مثلاً أو السيادة أو السلطة. هذه إبداعات البشري الّذي يميلُ إلى وضع الوعي داخل لون واحد لإحكام السيطرة عليه وتوجيهه، لأنّ السلطة التي لا تنفك عن رغبة دفينة في التحكم عبر آلية المال والنفوذ تهوى البقاء. هنا السلطة بمعناها الذري والكلي، بالمعنى الّذي تكونه الفكرة في ذهن المُفكر، كما هي اِنعكاسٌ للرغبة لدى السياسي. يمكن أن نبقى في الحيز الضيق من إشكالات التشابه: تربية الأولاد. لِمَ يفكر الآباء في تربية ذات توجه محدّد؟ يقولون الأطفال صغار علينا بالتحكم بهم وتوجيههم. لكن داخل التوجيه لو سلمنا بأنّ الفكرة مقبولة، كيف يتم التعامل مع حرية الطفل حين يرغب فيما لا يرغب فيه الأب؟ كيف يستطيع داخل معنى السلطة أن يقول ذاته؟ رولان بارت وهو الكاتب الحر يتحدث عن معنى الإلغاء الّذي مُورس على الذات من قِبل الفكر والوعي والتاريخ. وهو نفسه يقول بأنّه من الجيل الّذي عانى من ذلك بسبب الأفكار ذات الاِتجاه الواحد.
سيكبر الطفل وهو يُعاني الإلغاء الحقيقي، والآباء مُبتهجون بالتشابه، ويفتخرون ويقولون هذا الشبل من ذاك الأسد. أمثالنا نفسها تُغذي الواحد والمُغلق والتبعية. لكي لا يكبر الطفل على حرية التفكير وعلى (النقد) الواعي أو ما يمكن تسميته داخل حقل العلوم الإنسانية الوعي النقدي؟ فلنتخيّل أنّ جو التربية هو تغذية وعي الطفل على متعدّد اللون والطعم والشكل. هو يرى بفطرته أنّ اللون ليس واحداً، فلماذا الطبيعة مبدعة والإنسان بائس؟ لعلّ العودة إلى طبيعة الأشياء بحس الفن والجمال والحقيقة التي ترغب أن تكون كثرة ولانهائية كفيلٌ بأن يوجهنا نحو حب الاِختلاف الّذي يُغذي في أنفسنا الرغبة في الاِكتمال بالآخر. الاِختلاف هو منح ضوء جديد لمعرفة الزوايا المُظلمة داخلنا. يمكن أن يكون كلامي هيامًا أو تخييلاً محضاً، لكن الوعي الّذي يتمسك بمفهوم السلطة، المفهوم الّذي يُكرس التسيد بالأنا المريضة العاشقة للبقاء عبر المال والنفوذ والجغرافيا والتوسعات، وعيٌ يعشق التشابه لأنّه ضدّ للطبيعة الخلاّقة التي تُعلمنا باِستمرار أنّ الضدّ هو جمالٌ وليس إلغاء.

بوداود عميّر كاتب ومترجم
المروّجون للاختلاف عادة ما يسقطون عند الاختبار

تبدو ثقافة الاِختلاف، من أصعب قضايا الوعي وأعقدها داخل الوسط الأدبي والثقافي؛ من حيث أنّها تنطوي في الغالب على تناقضات يعيشها المُثقف، بين ما يجهر به وما يُخفيه. ذلك أنّه حتّى وإن كان المُثقف نفسه يُدافع عنها ويُروّج لها ويُشيد بمحاسنها؛ فتراه يتذكر تارةً مقولة فولتير الشهيرة، التي يحفظها عن ظهر قلب: "قد أختلف معك في الرأي، ولكني على اِستعداد أن أموت دفاعاً عن رأيك"، وتراه يردّد تارةً أخرى، ما قاله أبو حنيفة: "رأيي خطأ ويحتمل الصواب، ورأيك صواب يحتمل الخطأ"؛ لكنه مع أوّل اِختبار حقيقي في مواجهة الواقع، ينتكس إلى الوراء، ويتنكر لقيّمه تلك التي دافع عنها باِستماتة؛ لن يتوقف الأمر عند هذا الحد، ستتحوّل ثقافة الاِختلاف عند بعض المثقفين إلى النقيض: ثقافة الكراهية.
الاِختلاف يعني في الأساس، تفهم أفكار الآخر والاِنتباه إلى ما يقوله، وليس بالضرورة الاِقتناع برأيه، ما يعني أنّ الآخر له كامل الحق في أفكاره المُغايرة لأفكارنا حدّ التناقض أحيانًا؛ وأن نُؤمن عن قناعة، أنّه من المُمكن جداً أنّه على صواب وأنّنا على خطأ. التشبث بالرأي حدّ التزمت، وعدم الإصغاء للرأي المُختلف، سيفضي إلى ما يُشبه الشللية، وسيُشكل تكتلات بين مثقفين في مواجهة مثقفين آخرين، وهو ما نعيش بعض مظاهره للأسف. الفلسفة في مفهومها المُبسط والمُتمثل في اِشتغال العقل بالتفكر والنقد والشكّ وطرح الأسئلة، مبنية أساسًا على الجدل والتحاور والنقاش، بين مختلف الأطروحات والنظريات المُتباينة حدّ التناقض أحيانًا، وكذلك على اِستيعاب ذلك التباين، في محاولة اِستخلاص المُشترك بين الأفكار.
عدم اِقتناعنا بالاِختلاف ورفضنا الآخر، سيُتُيحُ مساحة واسعة في تفكيرنا، تترسخُ فيه أشياء متناقضة مع الحوار المتزن والهادف، أشياء مثل التوجس والأفكار الجاهزة والمُسبقة عن الآخر المُختلف، من شأنها أن تقضي على أي نوع من الحوار، وتفسحُ مساحةً واسعة للتعصب للرأي وربّما الكراهية. هكذا تبدو ثقافة الاِختلاف، وكأنّها لم تترسخ بشكلٍ كاف لدى النّخبة والمثقفين، فما بالك بفئات أخرى من المواطنين! أسوقُ في هذا الصدد نموذجًا عن هذا التفكير السلبي في نظرتنا المُتوجسة من الآخر: منذُ سنوات أقدمتْ بلدية وهران على نزع لافتة لشارع يحمل اِسم المناضل فيرنان ايفتون، ووضعت بدله اِسمًا آخر. كانت تعتقد أنّ هذا الاِسم الأوروبي "غير العربي"، ينتمي "بالضرورة" للاِستعمار الفرنسي؛ لم تعرف أنّ المناضل فيرنان ايفتون، تعرّض لأبشع أنواع التعذيب، قبل أن يُنفِذ فيه الاِستعمار الفرنسي حُكمًا بالإعدام بواسطة المقصلة، وبأمر من فرانسوا ميتران الرئيس الفرنسي السابق، وزير العدل يومها، وذلك بتهمة مُحاولة تفجير معمل، وأيضاً بتهمة اِنخراطه في صفوف فدائيي جبهة التحرير بقيادة الشهيد طالب عبد الرحمن؛ وأنّه حسب محاميه الّذي حضر لعملية التنفيذ، قال فيرنان في كلمته الأخيرة قبل تنفيذ الإعدام: "حياة إنسان، حياتي، لا تهم كثيراً، ما يهم هو مستقبل الجزائر، والجزائر غدًا ستصبح حرّة". من حُسن الحظ تَدَخّلَ بعد أيّام من الحادثة مثقفون من المدينة، وأقنعوا أعضاء البلدية بالعدول عن قرارهم، بعد أن أفهموهم من هو فرنان ايفتون، وقيمة تضحيته التي تُعادل تضحيات الشهداء. سرعان ما تراجعت البلدية عن قرارها وأعادت اللافتة من جديد إلى مكانها؛ هذه الحساسية من الأسماء الغربية، تنطلق من سياق مشحون بكراهية الآخر، ترسخت لتطال شخصيات "أجنبية"، ناضلت معنا وتبنت قضيتنا إلى حد التضحية.

خالد ساحلي كاتب وباحث
تقاليد الاختلاف تستوعب التنوّع

إنّ الثقافة عند كرويبر وكلاكهون هي محصلة أو نتاج ولها مضمونًا تاريخيًا، وتشتمل على الأفكار والقيم والنماذج، وتتميز بصفة الاِختيار والاِنتقاء، أيضا تتميز بصفة الاِكتساب، لذلك تُشكل أحد الأفكار الرئيسية التي تُساعد البشرية على تحقيق الكثير من جوانب التقدم والتطوّر والرقي الاِجتماعي، وبِمَّا أنّ البشر لديهم ثقافاتهم الخاصة والمُميزة، ولأنّنا لا نعرف مجتمعًا إنسانيًا واحدا يخلو من الثقافة بغض النظر عن محتواها أو درجة تقدمه أو تخلفه، لذلك تسود المجتمع تعدّديّة ثقافية ينتج عنها الاِختلاف في أساليب الحياة؛ والتي تنتشر في كافة المجتمعات الإنسانية خلال فترة زمنية محدّدة، وتتخللها أنشطة وأفعال فردية مادية، جاءت في صورتها المُصنعة نتيجة لأنماط معينة من السلوك الإنساني، لذلك يحدث الاِختلاف بسبب ما يبذله الإنسان من جهد ومشاعر يترجمها إلى إبداع وتكيّف، وسعي من أجل البقاء والتميز، والمُحافظة على الخصوصية، إذ تتحوّل إلى تجارب إنسانية؛ لذلك فالاِختلاف موجود بصورة أو بأخرى حتّى ولو لم يكن هناك اِعترافٌ به إلاّ أنّه موجود، ورغم المحاولات الكثيرة إلى تغييبه بدافع الأحادية إلاّ أنّ ذلك يُكَلَل دائمًا بالفشل، لأنّ الإنسان مجبول أن يُدافع عن هويته وأن يتمسك بمقومات ثقافته الأصلية وعناصرها ومكوناتها. صحيح أنّنا نُمارس الاِنطواء على الذات والاِنغلاق عن التأثيرات الثّقافيّة الأخرى، هذا الاِنغلاق الّذي كاد يُؤدي إلى جمود الثقافة الوطنية والعربية وإضعافها وحرمانها من فُرص التطوّر والتحليق إلى أفاقٍ رحبة وجديدة. لذلك يرى "بارسونس" بأنّنا بحاجة إلى ثقافة مشتركة تسمحُ للنّاس بالاِتصال والفهم فيما بينهم وبالعمل باِتجاه أهداف مشتركة. لأنّ وجود أهداف ثقافة مشتركة هي شرطٌ وظيفي مُسبق، وحاجة أساسيّة لأي مجتمع يريد البقاء، لذلك نحن بحاجة إلى تقاليد الاِختلاف حتّى تترسم معالم التنوع.

عبد الرزاق بلعقروز أستاذ وباحث أكاديمي
لم نبلغ بعد مرحلة مُمارسة الاِختلاف

نحنُ لا نمتلك مشاريع ثقافية تجديدية حتّى نطرح سؤال الاِختلاف الاِختلافي. والاِختلاف السائد بيننا هو اِختلاف من الدرجة الثانية. ولابدّ أن نُميز أوّلاً بين الاِختلاف والخِلاف، أو بين الحوار الخِلافي والحوار الاِختلافي، فالاِختلاف مبناه حضور العقل والدَّليل في فِعل التَّواصل والتَّحاور، بينما الخِلاف مبناه غياب العقل والدّليل، ومن حيثُ الصُّورة النظرية فنحنُ في اِمتساس الحاجة إلى الحوار الاِختلافي وليس الحوار الخلافي، فهو الّذي يُثمر تدافع الآراء وتغذية النقاشات وتوليد الفوارق، لأنّه يستندُ إلى الدليل عقليًا وإلى مكارم الأخلاق عمليًا؛ وبيئة ثقافية هذا وصفها فلن تكون إلاّ خطوة صحية من الناحية الحضارية، أمّا البيئة التي يسود فيها الخلاف والإكراه وتغييب الدليل فهي بيئة تمهدُ الطريق نحو العُنف والتنازع. وبالتالي ذهاب العِلم والأدب. وإذ تعينت أهمية هذه الفاتحة النظرية حول مسألة الخلاف والاِختلاف، فإنّنا في الجزائر الثقافية حاليًا، أعتقد أنّنا لم نبلغ بعد مرحلة تأسيس مشاريع فكرية وأدبية تستطيع أن تكون لها رُؤى خاصة في جهدها، وبالتالي فالاِختلاف عندنا حاليًا هو اِختلاف في الدرجة الثانية وليس في الدَّرجة الأولى، الدرجة الثانية تعني اِصطفاف أهل الفكر والأدب ضمن أنساق مُعينة واجتهادات فكرية خاصة، والمُنافحة عليها والدّفاع عنها، أمّا الاِختلاف الّذي يكون بين المشاريع والمناهج التجديدية فلازلنا نشق الطريق نحو هذا المقصد. ما يسود من اِختلاف لدينا جزئي، لأنّ مبناه ليس اِستحضار الدليل التجديدي والأخلاقية التحاورية، بل الدفاع عن مدارس أو أفكار أو أراء أحيانًا غير مؤسسة معرفيًا.
ولابدّ من القول هنا أيضاً، بأنّنا حاليًا في الجزائر نعيش لحظة التراكم وليس لحظة الإبداع، والتراكم هو الطريق الأمثل نحو الإبداع وتأسيس مشاريع يمكن القول أنّها مشاريع تُمارس ثقافة الاِختلاف. وإذا تعين هذا الأمر فإنّ الشروط التي تجعل من فِعل بناء الاِختلاف على العقل والدليل هي من منظورنا ما يلي: أوّلاً: القيم الأخلاقية، وهي أساس تقدير الاِختلافات، إنّها صفات وجدانية وفكرية جديرٌ بأصحاب الفكر والثقافة تمثلها، مثل الصبر والنُبل والرحمة والأمانة، فلا اِختلاف حقيق بالتقدير من غير بناء الثقافة على القيم الأخلاقية، لأنّها من جهة، هي التي تُورِث في قلب المُثقف الحافزية النفسية لاِستدامة الثقافة، وهي التي من جهةٍ أخرى تحفظ للوطن الفكري تماسكه واستدامته، وثقافة منفصلة عن الأُسس الأخلاقية هي ثقافة تبني أركانها على الحوار الخلافي وتغذي دوافع العنف والتنازع.
ثانيًا: إصلاح جهاز التفكير، إذ ثمّة أمراضٌ فكرية عديدة تسود وتنتشر وتُسبب العطالة المعرفية والاِجتهاد الإبداعي، ومن هذه الأمراض ما أُسميه بأمراض التفكير، مثل التفكير الإنابي، ومعناه أن نستسلم لشخصية تراثية أو مدرسة معرفية كي تنوب عنا في الإجابة عن تحديات زمننا، فالإنابي عائقٌ عن الإبداع والتجديد، وثمّة التفكير التقابلي، الّذي لا يُفكر لأجل الإبداع والإضافة النوعية، وإنّما يفكر لكي يختلف عن المجال المُقابل له في الرؤية والمنهج؛ فهو دومًا يرى الآخر مقلوبًا ومعكوسًا، وهذا شكلٌ مرضي وعائقٌ نفسي ينبغي إماطته عن الطريق نحو الإبداع والحرية. وغيرها من أمراض التفكير الأخرى. ثالثًا: إشاعة التجارة الفكرية والحرارة الحوارية، وذلك لأنّ التجارة مبناها التنافس والتباري لأجل الربح، كذا عالم الثقافة والأفكار، من الأجمل أن يكون التباري والتنافس لأجل الظفر بمعارف جديدة أو نقد المعارف الضعيفة. بينما الحرارة الحوارية وتكثير النقاش المعرفي، يُثمران إلانة المذاهب والنماذج التي تتحكم في الفكر والوعي، فالمعرفة وحرارة النقاش تذيبُ تلك الأُطر السابقة على الإدراك وتفتح العقل على رؤية ما لم يره من قبل.
جليٌ إذن، أنّنا لازلنا لم نبلغ بعد مرحلة يمكن أن نقول فيها، إنّنا نُمارس الاِختلاف، لأنّنا لم نشرع في كتابة ذواتنا الثقافية كتابةً إبداعية، والاِختلاف الّذي نعيشه هو اِختلاف الدرجة الثانية وليس الأولى، وهو بدوره مقدمة نحو التجديد الثقافي الّذي متّى أراد النجاح فعليه أن يصرف المحددات السلبية ويستحضر المحدّدات الإيجابية.

 

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com