الأستراليّة «ستيفاني كورلو» والمصريّات: «إنجي الشاذلي» و»ندى علي» و»روان حسين» و»آية مجدي» جميعهنّ فتياتٌ يافعاتٌ، يجمعهنّ أنّهنّ راقصات باليه، وأنّهنّ محجّبات! وبعضهنّ يتنافس حول الحصول على لقب: أول راقصة باليه محجّبة!لديهنّ حججٌ كثيرةٌ حول وضعهنّ الغريب هذا، فهنّ لا يرين أيّ تناقضٍ بين زيّهنّ الدينيّ وفنّ الباليه الذي يطمحن إلى احترافه، بل يعتقدن أنّ الزيّ غير مهمٍّ أبدا على المسرح؛ فما يعني الجمهورَ براعة الرّاقصة، لا زيّها. وقد وُوجهن باعتراضٍ شديدٍ من محيطهنّ، وتعرّضن للإقصاء والتّنمّر، فالأستراليّة كورلو التي بدأت التدرُّبَ في سنِّ الثانية، وارتدت الحجابَ في سنٍّ مبكِّرةٍ بعد أن اعتنقت عائلتُها الإسلامَ، رفضت جميعُ مدارس الرّقص تسجيلَها لديها، ولم تنجدها سوى والدتها التي أسّست لأجلها مدرسة باليه، والمتدرِّبات المصريّات واجهن كثيرا من السّخرية والتنمّر من مجتمعهنّ المتحفّظ أصلا على هذا الفنّ، فكيف إن احترفته فتاةٌ محجّبةٌ، يُفترَض فيها حدٌّ ما من مواراة الجسد، والحركات!
بهاء بن نوار
إنّه إشكالٌ حقيقيٌّ، ففنّ الباليه يُعدّ الأكثر جاذبيّةً بين الفنون، بوصفه فنَّ الارتقاء بالجسد، وإعلاء الجمال، ولا تمارسه سوى الرّشيقة من الفتيات، بحركاتٍ أنيقةٍ، وثيابٍ جميلةٍ، تشبه ثيابَ الأميرات، هل هذا ممكنٌ بارتداء زيٍّ يحجب أغلبَ أجزاء الجسد؟
تعتقد أغلب هؤلاء الفتيات أنّ الزيَّ غيرُ مهمٍّ في رقصة الباليه، وأنّ ما يجب التّعويل عليه هو إتقانُ الحركات، ومرونة الجسد لا أكثر، وعليه، فهنّ يطمحن إلى الاحتراف، وإلى اعتلاء خشبة أكبر المسارح، والتأثير في المتلقّين، وترك أثرٍ طويل الأمد لديهم، شأنهنّ في هذا شأن شهيرات هذا الفنّ، ممّنْ بلغن غاية العالميّة، وهنّ غير محجّبات. والواقع أنّ مثل هذا الطّموح مشروعٌ، غير أنّه غير ممكن التّحقيق عمَليّا، لأسبابٍ كثيرةٍ فنّيّةٍ خالصة، سأختصرها في الآتي:
يعدّ الباليه كما مرّ سابقا فنَّ الارتقاء بالجسد، وكثيرٌ من أجزاء هذا الجسد هي الأكثر تأثيرا، وهي المعوَّل عليها في تعميق البعد الدراميِّ، واختصار طاقاته السرديّة، كالعنق، والذراعيْن، والسّاقيْن، والشّعر طبعا؛ فنجد على سبيل المثال أنّ من الضّروريّ في أغلب العروض أن تجمع الباليرينا شعرَها كلّه أعلى رأسها، كي يبدو عنقها جيّدا، وكي يضطلع بجزءٍ كبيرٍ من تعبيريّة الحركة، وبلاغتها، وفي أحيانٍ كثيرةٍ يقتضي المعنى الدراميّ أن يُفكَّ هذا الشعرُ المجموعُ، ويُبعثَر، كما في مشهد «مقتل الأرملة» من باليه: «زوربا اليونانيّ» حيث يأتي هذا الفعلُ في هذا الموضع ليومئ إلى لحظة الاحتضار، والتصارع ما بين حبليْ الحياة والموت، ومثله حدث أيضا في باليه «غادة الكاميليا» حيث تظهر «مارغريت» طوال العرض بالهيئة التقليديّة المألوفة في جميع العروض: شعرٍ مجموعٍ، حسن التسريح، تعلوه زهرةٌ بيضاء، من زهور الكاميليا، لكنّها، حين يشتدّ عليها المرضُ، وتحلّ عليها لحظات الاحتضار المرير، تبعثر هذا الشعرَ، لتوحي بمعاناتها الكبيرة، وكذلك نجده في باليه «جيزيل» في مشهد خذلانها العاطفيّ، وفقدانها صوابَها، فإقدامها على الانتحار، يأتي هنا أيضا منظر الشعر المتطاير مع حركات الرّأس العنيفة ليوحي بتلك الهزّة الوجدانيّة العنيفة. أمّا في باليه «مانون» فلا يُفكّ الشّعر فيه فحسب، بل يُقصّ بعنفٍ إيحاءً بالمرض، والموت من بعده.
في جميع هذه النّماذج القليلة تبدو أهمية الشعر والعنق الدراميّة والسرديّة، فهل يمكن لباليرينا محجَّبةٍ أن تؤدي هذه الأدوارَ معوِّلةً فقط على براعتها في أداء الحركات؟
في كثيرٍ من عروض الباليه نقابل مشاهد جريئة، تأني تكميلا لحبكة العمل، ومحاكاةً لها، كما هو الحال في باليه: «مانون» و»كارمن» و»أنّاكارنينا» و»مرغريت وأرمان» وغيرها، وهي الأعمال ذات المضمون الرّومانسيّ، والعاطفيّ، الشائع في روايات القرن التّاسع عشر وما بعده. هل يمكننا تصوّر امرأةٍ محجّبَةٍ تغطي رأسَها وذراعيْها، وتؤدّي مثل هذه الأدوار؟ أم على معدِّي العرض الاستعانة بباليريا بديلة، شأن مختصّي السينما في استعانتهم بممثلةٍ بديلة!
أغلب عروض الباليه تستدعي حتما ارتداء زيٍّ خاصٍّ هو: التيتيTutu يتميّز بأنّه يكشف أجزاءً كثيرةً من الجسد، كالذراعيْن، والظهر، والنّحر، والسّاقيْن، والفخذيْن، وهي الأجزاء المحرَّم إبداؤها في زيّ الحجاب، ولا يمكن الاستغناء عن إظهارها في العروض ذات الطابع الكلاسيكيّ، كما في «بحيرة التّمّ» و»دون كيخوته» و»كسّارة البندق» و»ابنة الفرعون» و»الجميلة النّائمة» وغيرها. فما العمل في هذه الحال أيضا؟ نكسر القواعدَ الفنّيّة المكرَّسة منذ بدايات هذا الفنّ، ونستعيض عنها بأزياءٍ هجينةٍ، تغطي فيها الباليرينا شعرَها، وأغلب أجزاء جسدها! لنتخيّلْ معا أوديت/ أوديل بهذه الهيئة، أو فلتكن كذلك كيتري، أو أورورا! بأيّ شكلٍ يا ترى سيُتلقّى مثل ذلك العرض؟ وهل سيندمج المشاهِد مع براعة الحركة، وبلاغة الموسيقى، وعمق الأداء، أم سيتساءل في سرِّه عشرات المرّات عمّا يدعو تلك المؤدِّية إلى احتراف الباليه؛ فنّ الاحتفاء بالجسد، وإعلائه، وجعله بديلا عن اللّسان، والكلمات، وإصرارها في الوقت نفسه على ارتداء زيٍّ يغيِّب الجسدَ، ويحجبه. كيف سيعبِّر هذا الجسد المغيَّب؟ وما الذي سيقوله وهو مغطّى؟
وعليه، فإنّ من غير الممكن عمَليّا ممارسة الباليه وارتداء الحجاب في الوقت نفسه، وعلى مَن تجد نفسَها في مثل هذا الوضع المربك أن تختار أحدهما دون الآخر، أو أن تكتفي بالرّقص هوايةً فقط، لا احترافا.