مازالت حياة و أعمال كاتب ياسين تثير الجدل بين الباحثين و الأدباء و أساتذة الجامعات، بعد 33 عاما من وفاته و ما لا يقل عن 66 عاما على صدور «نجمة» إحدى أشهر مؤلفاته التي تحولت مع مرور الزمن إلى مجال بحث خصب للمهتمين بالأدب المغاربي و الفرونكوفوني، و أدب النضال و المقاومة الذي مارسه كاتب ياسين، محدثا انقلابا جذريا في فنيات السرد القصصي، و تطويع اللغة باقتدار كبير منتقلا من الفرنسية التي ظل يعتبرها غنيمة حرب، إلى العربية و العامية الجزائرية التي وجد فيها نافذة للتواصل مع الطبقات الشعبية التي لم تكن قادرة على فهم ما يكتب و لم تكن تملك ذاك التجاوب الذي كان ينشده لتحريك الضمائر و بث الوعي بين الجزائريين للثورة على المستعمر و تقديس الأرض و تاريخ الأجداد، و التحرر من القيود التي تحول دون تطور الفكر و الثقافة و المجتمع.
و قد تناول المنتدى التاسع حول حياة و مؤلفات كاتب ياسين، المنعقد بقالمة عشية الذكرى 33 لرحيله جوانب هامة من تاريخ الرجل و مذهبه الروائي و المسرحي المتفرد، و قدرته على استعمال القلم و الكلمة ليقول ما يريد قوله بكل شجاعة و جرأة، على الآلة الكاتبة و على خشبة المسرح و في مواجهة العامة.
و على مدار 3 أيام كاملة ظل الكبلوتي العنيد يثير النقاش و التساؤلات حول ماهية الكتابة و التأليف و الرواية و المسرح عند ياسين، الذي عاش القسوة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، و اختار طريق الأذى عندما أجبره الاستعمار الفرنسي على مغادرة مقاعد الدراسة فقرر التفرغ لأدب النضال و المقاومة عقب مجازر 8 ماي 1945 التي تركت ندوبا غائرة في كيان طفل عين غرور و كان لها الأثر البليغ في حياة كاتب ياسين الذي سبق عمره و زمانه، و نبغ في حبك الرواية و الإبداع في ترويض اللغة الفرنسية، و الأداء المسرحي، كما في التجوال عبر أصقاع العالم و استعمال الجغرافيا اللامتناهية لكسر الحواجز و قيود الاستعمار و حتى بعض المجتمع الذي ظل يناصبه العداء، و يسيء فهمه، بل و يجعله عرضة للشيطنة بسبب الخلط بين ياسين الكائن البشري و بين ياسين الأديب المبدع المقاوم للغزاة و مغتصبي الحرية.
النصر تابعت أشغال المنتدى و نقلت أبرز المداخلات التي قدمها نخبة من الأدباء و الباحثين و أساتذة الجامعات، من الجزائر و تونس و فرنسا، متناولين بالبحث و الدراسة و النقاش تقنيات التشظي السردي التي جعلت أعمال كاتب ياسين عصية على المحاكاة، و أساليب التضمين و الرمزية و النضال باستعمال الكلمة الجريئة و الربط بين ثنائية الزمن و الجغرافيا، سالكا مذهب التحرر من بعض العادات و التقاليد السائدة في زمانه، ثائرا على قواعد الرواية الكلاسيكية و كبار الأدباء و الروائيين و المسرحيين، و كأنه يؤسس لأدب كاتبي و جغرافيا كاتبية و هندسة إبداعية متفردة، تعتمد على الموروث الثقافي و التاريخي للأمة الجزائرية، التي تعاقب عليها غزاة و أمم و حضارات كثيرة، كان لها الأثر الكبير في توجه كاتب ياسين و مؤلفاته و أعماله الروائية و المسرحية، التي ستظل دون شك مجالا خصبا للباحثين على مدى السنوات القادمة وسط دعوات للاهتمام أكثر بالأديب و تدريس مؤلفاتها بالجامعات العربية، و إخراجه من الزاوية الضيقة التي حشر فيها بين الفرنسية و العامية الجزائرية، من خلال ترجمة أعماله إلى لغات حية أخرى و إدخاله إلى عالم الرقمية من أوسع أبوابه.
فريد غربية
الروائي و الكاتب المسرحي بوزيان بن عاشور
كاتب ياسين كان وفيا للجذور ومناهضا للاستعمار
قال الكاتب المسرحي و الروائي الجزائري، بن عاشور بوزيان بأنه من المثير و الممتع و المفيد أيضا التطرق بالدراسة و التحليل إلى حياة كاتب ياسين كإنسان و كمبدع روائي و مسرحي أحدث أثرا بليغا في الأدب الجزائري و المغاربي و الفرونكوفوني، مضيفا في محاضرة حول حياة و مؤلفات الأديب الجزائري المثير للجدل بأنه لم يعايش ياسين و أسراره، باعتباره من جيل آخر، و مرحلة أخرى من تاريخ الجزائر، لكنه يمثل إرثا مشتركا للوطن و الأمة الجزائرية و قبيلة كبلوت، و اعتقد بأنه كان لا يمانع إذا اعتبرناه من الوطن النوميدي الكبير، كما أجداده الذي تعرضوا للغزو مرات كثيرة، لكنهم كانوا فاتحين مرات كثيرة أيضا في مجالات عديدة كالعلم و الفلسفة و الثقافة و الفن.
وتطرق بن عاشور بوزيان بإسهاب إلى شغف كاتب ياسين بالكتابة منذ صغره، وتشبعه بها من رأسه إلى أخمص قدميه، الكتابة التي حررت لسانه و قلمه و صنعت منه مبدعا حرا و متمردا ثائرا في كل الثورات التي عايشها كبيرة و صغيرة، حتى أن شخصياته الروائية و المسرحية كان لها وزن و ثخانة في الحياة بكل تفاصيلها و تنوعها و أحلامها العظيمة و آمالها المشوهة.
رغم تأثيرات الاستعمار و حرب التحرير، فإن كاتب ياسين ظل متمسكا بروابط الماضي المتينة، وكان على قدر كبير من الوفاء لجذوره العميقة من خلال الكتابة المستمدة من بيئته الاجتماعية، كما في قصائده الطويلة و مرافعاته الثورية، رافضا أنماط التفكير التي أحدثها النظام الاستعماري، مقبلا على كل ما هو جزائري متجذر و هادف كأشعار الأمير عبد القادر، و كل ما يغذي رغباته و ميولاته الإبداعية.
و يرى المحاضر بأن أحداث 8 ماي 1945 قطعت الحبل السري بين كاتب ياسين و الاستعمار الفرنسي الذي افقد والدته عقلها، عندما اعتقل عقب تلك الأحداث المأساوية التي تعرض لها الجزائريون الثائرون على الظلم و الاحتلال.
اختار التخندق مع أمته و وطنه ضد الغزاة
و منذ ذلك الحين ظل ياسين يكتب بواقعية جريئة، كل ما يراه و ما يمر به من أحداث باهتمام دائم بالواقع المضطرب لبلاده، فكانت مسرحية «الأجداد يزدادون ضراوة»، و مسرحية «الجثة المطوقة» بمثابة إعلان صريح لتخندقه مع أمته و وطنه و كفاحه و مقاومته للغزاة. كانت هذه الأعمال المسرحية تعبر بجرأة عن الخيار الثوري و وحدة الأمة الجزائرية التي ظلت ممزقة حتى النخاع.
و بعد تلك الأحداث المأساوية، و أولى أعماله المسرحية، سيظهر كاتب ياسين تمرده على أي شكل من أشكال الولاء الأدبي الذي من شأنه أن يفرغ من اهتماماته اللغوية و الجمالية، الدماء و العرق و بؤس و آلام الأمهات، و شجاعة الأمهات في بلد يسحقه الفقر و الجهل و يسحقه القمع المقيت.
و يعود الكاتب الروائي و المسرحي، بوزيان بن عاشور إلى جذور كاتب ياسين، قائلا بأنه حفيد زاوية، و لكن قبل كل شيء كان الابن الأول لمقاوم استمر في حمل جسده المثخن بالجراح، كمن يئن تحت حمل ثقيل ولا أحد يمكن أن ينازعه و ينتزع منه أرضه و روحه الملحمية، كان ياسين الخليفة الجديد لنهج تحرري و توجه ثوري لا ينحني ظهره أبدا، المدافع القوي عن قصة مختطف أكثر من مرة لكنه لم ينطفئ أبدا.
كاتب اختار دروب المآسي و الأذى
و كانت المآسي التي عاشها كاتب ياسين تؤسس لأعماله المستمدة من التراث الثقافي لشمال إفريقيا، كعمله الإبداعي «مسحوق الذكاء» الملحمة البشرية المنغمسة في الكلمة المرتبطة بالجسد، كما في قصائد «مناجاة» التي تعبر بصدق عن الحرمان الذي يعاني منه أولئك الرفاق الذين يشبهونه، الذين يرون و يتابعون الأخبار الساخنة، لأولئك الذين لم يولدوا على الجانب الأيمن من التاريخ.
لقد زعزع كاتب ياسين الأساليب و النظم الأدبية و الأخلاقية في زمانه، زمن التوجهات و المسالك الكاذبة و المصالحات المستحيلة، واضعا نفسه منذ البداية في خنادق رفض الفوارق الصارخة، للتعبير عن عدم رضاه على الواقع الأدبي و السياسي في زمانه و اظهر ذلك بسرعة في كتاباته المقلقة و المثيرة للجدل في نهاية الحرب الكونية الثانية، و برز ذلك في كتاباته الصحفية و مجالات أخرى للتعبير و الإفصاح الجريء، و أعرب عن هذا الموقف غير المريح سواء على الآلة الكاتبة، أو من خلال الخطابات العامة.
لم يكن التزامه قابلا للذوبان في المواقف و التوجهات الجاهزة، و هو ما سيؤدي مع مرور الوقت إلى معاداته و التنصل منه، و وضعه في قفص الاتهام.
إعادة النظر في كل شيء لا تعني بالضرورة ارتداء ملابس مواكبة للعصر
كل أعمال ابن عين غرور، المولود من توعك داخلي مؤلم، يضيف بوزيان بن عاشور، منقوشة في قصصه الملحمية، أراد أن يكون حاملا لحقيقة الواقع المعاش، لقد عرف كيف يعيش و يتفاعل مع عصره المتشنج، و فوق كل شيء فإن كتاباته المعذبة هي أولا و قبل كل شيء تعبير عن الشعور بالضيق الشديد الذي يعاني منه شعب قهره الغزاة، و سرعان ما أعلن الوريث الجديد لعرش النبائل و عين غرور شرقي قالمة، أنه فتى غير مروض لكنه شديد الوضوح، في طليعة مشروع تجديد الرواية الجزائرية، معتبرا ذلك بمثابة مشروع جريء يظهر منذ البداية إعراضا مستمرا عن التيارات الأدبية التي تكتفي بكتابة الوقت المنقضي. و يرى المتحدث بأن الرسميات و الرتابة الباردة كانت تزعج كاتب ياسين، حيث كانت شهيته للشرف موجودة في مكان آخر، بين الصغار و الأصدقاء، فقد ولد ليكون حرا، في تحركاته و متحررا في مزاجه، و خياراته الإيديولوجية، و الشاعرية، و الجمالية، مقتنعا حد النخاع بخياراته الشعبية، حيث كان ياسين المبدع الساخر لا ينوي تغيير كل شيء في حياته و تراثه و معتقداته، مدركا تمام الإدراك بأن إعادة النظر في كل شيء لا تعني بالضرورة ارتداء ملابس مواكبة للعصر، و إنما تحديث الفكر و الهدف لقول الحقيقة بما فيها من ألم و ظلام، و بما فيها من نور و بريق.
كاتب ياسن من رواد المسرح الشعبي الواقعي بالجزائر
و وفاء منه لروح العمل الجماعي و إدراكا منه لتدني الفهم و الإدراك لدى عامة الناس مطلع السبعينات جعل كاتب ياسين مسرحه باللهجة الجزائرية العربية، مسرحا خال من الرتابة و النمطية، بسيطا في زخارفه و ديكوره، يؤديه كل الناس البسطاء، غير المتصنعين يؤدونه بعفوية مستمدة من الحياة اليومية و الواقع المعاش، بلغة يفهمها الجميع لكنها لا ترضي الجميع لأنها لغة شعبية صريحة صادقة، مسرح يجمع بين الفكاهة و الإزعاج و الشراسة و الحنان، و بين النور و الظلام، مسرح حيث كوميديا الكلمة ليست بالضرورة معادية للتراجيديا الواقعية، مسرح من تأليف الواقع و أداء رجال و نساء عاديين، و في النهاية فإن رجل مسرحية «حرب الألفي عام» سيمنح الفن الرابع معناه الحقيقي. و خلص بن عاشور إلى القول بأن التمثيل عند كاتب ياسين هو الثراء و الخصوبة المثالية الملهمة للمعنى، مسرح بكلمات لها لون و نكهة مميزة، حوارات مضحكة لكنها صعبة الإدراك و تضرب تحت الحزام، تخلق مواقف ذات كثافة درامية كبيرة، و لغة تعرف كيف تصل إلى آفاق الجمال عندما يتعلق الأمر بالتحدث إلى النجوم. فريد.غ
محمد سعد برغل من جامعة المنستير بتونس
خاصية التشظي السردي جعلت كتابات ياسين عصية عن المحاكاة
تناول الباحث التونسي محمد سعد برغل من جامعة المنستير بتونس موضوع ترحال المعنى عند كاتب ياسين من خلال رواية نجمة العمل الأكثر شهرة لدى الكاتب الذي احدث انقلابا في الفكر الروائي و الكتابة المسرحية بالمغرب العربي و العالم الفرونكوفوني، قائلا بأن نجمة رواية أحدثت منذ نزولها إلى السوق الثقافي ضجة كبيرة سعت دراسات كثيرة إلى تبين مدارات الإرباك فيها بما يسمح لها بهذا الفيض من التآليف التي تدور حول أحداثها و شخصياتها و سياقات إنشائها، و سياقات تلقيها.
نجمة حسب سعد برغل مثلت نجمة في مختلف الدراسات، و اجمع النقاد على أهميتها في تاريخ الكتابة الروائية العربية، بل أن بعضهم جعلها امتدادا لتحول الرواية العالمية معتمدا على ما انتبه إليه الدارسون من انتقال في السطر الواحد من المتخيل الواقعي إلى التجريد إلى الإيحاء ثم إلى التجريد مرة أخرى، إلى الترميز إلى الوقائع التاريخية ثم إلى استثمار الوقائع التاريخية.
و تطرق الباحث إلى ما وصفه بالتشظي السردي في نجمة قائلا بأن العادة جرت أن يكتب الكاتب و قد تشبع بالنموذج الكتابي و الخطابي و الإنشائي، فيساير الجنس الأدبي الذي يروم الكتابة فيه، و في حالات خرق النموذج الظاهرة يمكننا الإقرار بان هذا الخرق تعلة شكلية لتأكيد الانخراط في النموذج. و عند صدور نجمة سنة 1956 نصا على غير سنن الكتابة السردية، فقد نسف كاتب ياسين منذ الصفحة الأولى المعيار السردي المتواتر في ذلك الزمان، نظرا إلى حالات العدول التي وسمت الافتتاح، فضرب المنوال الاستهلاكي المتعارف عليه في الكتابة السردية عموما، و الكتابة الروائية باعتبارها شكلا إبداعيا استوت مياسمه الكبرى و بنيته، لذلك يفاجئ الحوار القارئ المتهيئ لاستقبال المناخ السردي الناهض في أصل التأصيل السردي، بوظيفة التأطير المادي و المعنوي لمجمل الأحداث على مدار الحكي اللاحق، لذا يفتح الروائي كاتب ياسين المشروع السردي بالحوار عوض السير على نهج روائيي الخمسينات الكلاسيكيين منهم و الواقعيين تحديدا، حيث يقول في الصفحة الأولى من الرواية «لخضر هرب من السجن، ظهر شبحه على السطح فجرا، و قد رفع كل واحد رأسه دون اندهاش يذكر، تفرس مراد في الهارب جيدا».
نجمة تنسف نظم و أشكال الرواية الكلاسيكية
هذه الأسطر الافتتاحية القليلة لرواية طويلة تنسف العقود التي أرستها الذائقة الإبداعية، فتقدم الشخصيات بشكل برقي و القذف بالمعلومة وفق تشكيل إبلاغي جاف، و الانتقال من السجل اللهجي المفتتح للرواية إلى اعتماد العربية جسرا لأداء المعنى يجعل القارئ مرتبكا عند التلقي، أعليه أن يقرأ الرواية باعتبارها مدونة تندرج ضمن شكل جامع يقتضي الحد الأدنى من التوافق بين خلفيات إنشاء النص و ذائقة المتلقي، حتى لا يكون النص منفتحا على تأويل لا ضابط له، أم على القارئ أن يقرأ هذا المنجز السردي دون أن يرتبط بشرائط القول و الجنس و يصبح انفلات الافتتاح من أسر التقديم الكلاسيكي تهيئة للقارئ حتى يقبل مجمل النص القائم على المخاتلة و التواري وراء حجب اللغة و الرمز و التداعيات و الحوارات و كل الأشكال المسرحية الممكنة حتى يقول القائل عند القراءة ها نحن بين شعر و نثر و حوار و مسرح و خاطرة، لكننا على وعي مسبق بهذا التداخل و التنافذ بين الأشكال و عدم الانضباط المطلق لمقتضيات الكتابة في الجنس الروائي، فالتمهيد باعتباره الكوة التي منها نشرف على مجمل المنجز الإبداعي قد نبهتنا إلى افتتاح متمرد و سيبقى متمردا طوال السرد.
منتهى القول حسب محمد سعد برغل، في هذه العتبة الأولى أن العدول الذي لاحظنا في افتتاح الرواية يدفع القارئ دفعا إلى الانخراط في لعبة التلقي القائمة على الإدهاش، و لعل رواية نجمة بهذا الافتتاح و غيره مما ورد في مظانها من الروايات الأوائل في المدونة الروائية العربية التي اشتغلت بوعي على جمالية التلقي التي تنهض بها خيبة الانتظار لأنها بالافتتاح الحواري الناهض بمهام السرد باعتباره حكاية أفعال قد كسرت هيمنة الانتظار المسبق بقوالب جاهزة لتلقي العمل الإبداعي، في حين أن الحوار هو حكاية أقوال، في مواطن كثيرة من نجمة هو التقنية الغالبة، هذا تشظي بنيوي ستسري عدواه إلى مظاهر ثانية من التشظي.
ياسين مفرد بصيغة الجمع
بدا أستاذ الأدب بجامعة المنستير التونسية، محمد سعد برغل مندهشا من اعتراف كاتب ياسين عام 1967 بأن نجمة كانت في البداية مؤلفا شعريا، ثم تحول تدريجيا إلى رواية و نصوص مسرحية، حتى نخال أن الرواية تجري في غير مجراها على حد عنونة القاص التونسي محمد بن محمد الخبو، لذلك سعى هذا التشظي الظاهر في نجمة إلى خلق ما يطلق عليه «إدجار ألان بو» وحدة الانطباع، و هي تقنية أقرب إلى الأقصوصة منها إلى السمت الروائي، بما يسمح للمعنى العام من الانفلات من أحادية التأويل، و تصبح الأجزاء الداخلية ينتظمها خيط سردي واحد.
المسرح عند نجمة اقرب إلى الجماهير و أوسع انتشارا لذلك فلا عجب أن ينحو المنجز الروائي نحو المسرح بشكل واع أحيانا و بشكل غير واع في مواطن أخرى، وتكون بذلك نجمة مسرحا لشعرية متعددة الأصوات تتصارع فيها هذه الأصوات لا باعتبارها مجرد شخصيات ورقية متخيلة، هي جملة من الأنساق الفلسفية المتعارضة و المتدافعة من أجل افتكاك الفضاء الذي كتب فيه ياسين و هو سياق البلد المستعمر.
و يرى الباحث بان منجز نجمة بقي أنقاضا و ورشة أنقاض رواية و ورشة شعر، أو ورشة شعر و أنقاض رواية، لكن أنقاض القصيدة تبدو أقرب إلى المنطق، أما الورشة فتنطلق مع التخلي عن القصيدة بإدخال العناصر القصصية التي تهتم بالأحداث.
رائعة نجمة مازالت تثير الجدل والتساؤلات
و طرح سعد برغل تساؤلات عدة حول منجز نجمة قائلا هل نجمة سيرة صاحبها؟
هل نجمة شخصية ياسين متشظية في أصوات شخصياتها؟
هل نجمة كتابة للذاتي أم كتابة لموضوعي تاريخي و موقف من العالم بفلسفة ماركسية ترى الأثر و صاحبه مجرد مبشرين بعصر آت؟
هل نجمة رواية المغرب في علاقته بالغرب قياسا على عصفور من الشرق و موسم الهجرة إلى الشمال و الحي اللاتيني؟
هل تسلح ياسين بما لم يتسن للطيب صالح و سهيل إدريس و توفيق الحكيم من التزام يساري تجاوز الصراع الحضاري إلى صراع البدائل و الأنساق الفلسفية؟
و في ختام مداخلته دعا الباحث التونسي محمد سعد برغل إلى مزيد من الاهتمام بحياة و مؤلفات الأديب الجزائري كاتب ياسين من خلال ترجمة أعماله إلى لغات أخرى غير العربية و الفرنسية، و إخراجه من الزاوية الضيقة التي ظل محشورا فيها، و العمل على إدخال مؤلفاته الى منظومة التعليم الجامعي في الدول العربية، حتى لا يضيع هذا الكنز الأدبي المغاربي المتفرد.
و أضاف برغل متحدثا أمام المشاركين في المنتدى التاسع كاتب ياسين بقالمة بأن أسلوب كاتب ياسين المميز جعل أعماله عصية على المحاكاة على خلاف أدباء آخرين كبار، تمكنت أقلام كثيرة من مجاراتهم و محاكاتهم باقتدار و تميز كبيرين.
فريد.غ
الدبلوماسي و الكاتب الفرنسي «دونيس فادا»
«كاتب ياسين و ألبير كامي جغرافيا واحدة و فكر واحد»
قال الباحث الفرنسي « دونيس فادا « بأنه توجد أوجه شبه و توافق كثيرة بين ألبير كامي و كاتب ياسين، فالأول جاء من بيئة فقيرة للغاية تغلب عليها الأمية الكاسحة، عاش يتيما، و كانت والدته عاملة منازل، و جاء كاتب ياسين من بيئة برجوازية ثرية إلى حد ما، ابن محام و حفيد قاض، و مع ذلك هناك العديد من الأسباب للجمع بينهما، فكلاهما ولد في شرق الجزائر، احدهما في قسنطينة و الآخر من عنابة أو بونة كما كانت تسمى قديما، و هما مدينتان كانتا تسيطران على نوميديا القديمة ثم تحولتا إلى مقاطعتين فرنسيتين عقب الاحتلال.
و أضاف المتحدث بأن ألبير كامي و كاتب ياسين كلاهما يشتركان في حب الأرض و كلاهما كانا صحفيين في جريدة الجزائر الجمهورية، الصحيفة اليسارية الرئيسية في الجزائر العاصمة، و كلاهما كان لهما نفس التوجه الفكري الذي دفعا لأجله ثمنا باهظا بسبب تمسكهما بحرية الرأي و القول، و كلاهما أسيء فهمه في النهاية لكنهما أصرا على أن يظلا أحرارا معادين للظلم.
كلاهما يشتركان في نفس الحب للفرنسية على حد قول المحاضر، اللغة التي مارساها بمهارة و إتقان، و كانت بالنسبة لكاتب ياسين غنيمة حرب، و نحن اليوم في هذا المنتدى بشرق الجزائر، نقرا له بعناية كبيرة و اهتمام بالغ، فقد تركنا ياسين منذ 33 عاما لكن عمله لم يتركنا، مازال بيننا نداوله و نتناوله بالدراسة و التحليل، مازال عمله الإبداعي يطاردنا لاستجوابنا و إبهارنا و إثارة قلقنا، و باختصار ليجعلنا نفكر في جوهر المعاني، فالأدب يقدم للقارئ مرآة مكبرة يرى فيها نفسه و حقيقته و غالبا ما تكون هذه الحقيقة قاسية لأنها ببساطة حقيقية عادلة و صادقة.
الغوص في أعماله يكشف لنا حقائق لا نعرفها عن أنفسنا
و عندما نغوص في عمل كاتب ياسين، يقول «دونيس فادا» نكتشف جزء غير معروف من العالم و من أنفسنا، نحن القراء الفقراء إلى الحقيقية و المخيال، المكفوفين عن رؤية جواهر الأشياء لضعف في قدراتنا التعليمية و الفكرية، و بسبب التشوهات الفكرية التي تلاحقنا و بسبب إيديولوجيتنا، لان قارئ كاتب ياسين إذا أراد أن يخترق هذا العمل المعقد يجب أن يظهر تواضعا كبيرا في عالم كاتب ياسين المليء بالأحداث و الأذى و المتناقضات، فعنده لا توجد براءة مطلقة و مسلمات بل بحث شغوف عن حقيقة يصعب الوصول إليها.
و قال المحاضر بأنه عندما يتناول منجزات كاتب ياسين و ألبير كامي ينتابه شعور فياض تجاه الجزائر و شرقها الكبير على وجه الخصوص، معتبرا نفسه طفلا من أبناء البلد، طفل من الشرق، من بونة/ عنابة التي كان والده رئيسا لها عندما استقرت العائلة فيها منذ 1836، مضيفا بأنه ينتمي إلى الجيل السادس من الجزائريين و غادر سنة 1963 متوجها إلى باريس، لكن هذا البلد مازال في قلبي و غالبا ما أعود إليه في إطار مهامي الدبلوماسية في الأمم المتحدة، أو في بعثات التدريس الجامعية، و منذ كنت طفلا و أنا أتعلم اللغة العربية حتى افهم هذا العالم و هذه الآمة العظيمة كما فهم و أبدع كاتب ياسين بلغة ليست لغة شعبه و وطنه.
لغات العالم ليست دائما غنائم حرب بل غنائم سلام أيضا
و ألقى المتحدث باللائمة على الحكومة الفرنسية التي لم تفرض تعلم اللغة العربية و اللغة الأمازيغية، معتبرا ذلك غلطة كبيرة لان تعلم اللغات كنز و ثروة لا تفنى، و ما فعله كاتب ياسين بالفرنسية جدير بالدراسة و العبرة، و هو محق عندما قال اللغة غنائم حرب و أنا أقول اليوم اللغة غنائم السلام أيضا.
و تحدث «دونيس فادا» عن مؤسسة فرنسية تعنى بالكتاب غير الفرنسيين الذين يكتبون بالفرنسية من مختلف أنحاء العالم، قائلا بأنه يرأس هذه المؤسسة التي تمنح جوائز سنوية للكتاب البارزين من كل قارات العالم، معتبرا الكتابة بلغة غير اللغة الأم بوابة نحو مزيد من الشهرة و العالمية كما فعل كاتب ياسين، مختتما محاضرته بالقول، اقترح ما كان دائما اقتناعي الذي لا يتزعزع و هو استبدال الأشياء السيئة بالأشياء الجميلة و الأخلاق و الاعتراف و التكريم المتبادلين.
فريد.غ
دشاش جليلة الباحثة المكلفة بمشروع النتاج المسرحي بباريس
الثائر الذي لم تفسد عصرنته علاقته بالجذور
تناولت البحاثة الجزائرية المشرفة على مشروع للإنتاج المسرحي بباريس، دشاش جليلة بالدراسة و التحليل جذور كاتب ياسين الضاربة في أعماق التاريخ و مدى تأثير البيئة التي نشأ فيها هو و أجداده القدامى على اعتناقه للأدب و المسرح و الرواية منذ طفولته، و مواكبته للعصرنة و الحداثة في مجال الإبداع و الفكر و الحياة العادية التي صنعت من ياسين مبدعا و مناضلا مدافعا في القيم الإنسانية ثائرا على الظلم و المعتقدات المعيقة للتطور و التحرر.
و قالت جليلة دشاش بأن البحث عن هوية و جذور كاتب ياسين في سياق الوجود العربي و الروماني و العثماني و الفرنسي، و حتى استقلال البلاد يقود حتما إلى التقاطع باستمرار مع أعمال الأديب الذي ظل متمسكا بجزائريته التي تختصر كل شيء لديه و لا تمنعه من أن يكون عالميا أيضا.
و حسب الباحثة فإن كاتب ياسين قد عاد إلى موطن أجداده بمنطقة الناظور الواقعة اليوم ببلدية حمام النبائل شرقي قالمة سنة 1966، و قد أدى مجال تحركه من الخلية العائلية إلى القبيلة ثم الأمة و العالم ليكون على قمة المضلع الكوكبي منذ طفولته المرتحلة بين قسنطينة و وادي الرمال، ثم صدراتة و بونة و سطيف و قالمة و مناطق أخرى من الجزائر شكلت لديه 8 رؤوس للمضلع الكوكبي.
و أضافت المحاضرة بأن الاستعمار الفرنسي قطع أوصال القبائل الجزائرية الكبرى، التي كانت تحتوي على آلاف الأشخاص و من بين هذه القبائل قبيلة كبلوت التي ينحدر منها كاتب ياسين، جاءت من أسبانيا بعد عام 1492 مع أبناء قبيلة بني هلال العربية المعروفة بالقسوة و عدم الاستقرار، و الترحال الدائم إلى اليوم، و هي منتشرة بالجزائر و هاجر بعضها إلى فرنسا حسب الأديبة جاكلين أرنو.
و جد قبيلة كبلوت هو معلم قرآن و قائد عسكري بمنطقة عين غرور بقالمة شرقي الجزائر، أين توجد زاوية أجداد ياسين الذين أقاموا نهضة علمية و ثقافية و اجتماعية بالمنطقة مما جعلهم عرضة لانتقام الغزاة الفرنسيين عام 1852 عندما اعدم الجيش الفرنسي رجال كبلوت بينهم 6 من زعماء القبيلة في واحدة من أبشع المجازر الاستعمارية في ذلك الزمن، و كانت حجة الجيش الفرنسي قتل زوجين فرنسيين بحمام يقع قرب عين غرور، و هي حجة واهية حسب كاتب ياسين الذي تأثر كثيرا بالعنف و الأذى الذي لحق قبيلته فكانت اغلب منجزاتها تدور حول تلك الحقبة المأساوية و ما تبعها من أحدث تعرضت لها الأمة الجزائرية طيلة الفترة الاستعمارية. و قد صمم الفنان الجزائري جمال شادي سنة 2009 بعين غرور، تمثالا يرمز إلى لقب عائلة كاتب إحدى فروع قبيلة كبلوت كما يرمز أيضا إلى كاف السايح الموجود بالمنطقة، و نسر عاش هناك خلال تلك المأساة الدامية التي تعرضت لها قبيلة كبلوت التي تشتت بعد ذلك، و ظلت كذلك إلى اليوم في بقاع كثيرة بألقاب متعددة بعضها مازال متوارثا بمنطقة قالمة إلي اليوم بينها لقب كاتب.
و يعد أبطال رواية نجمة لخضر، مصطفى، مراد و رشيد من قادة قبيلة كبلوت الذين أحبوا نجمة رمز الأرض و الوطن و تمسكوا بها جميعا و دافعوا عنها بكل قوة. قد بدأ كاتب ياسين تعليمه بالمدرسة القرآنية في وقت كانت فيه اللغة الفرنسية تكتسح بقوة، فنصحه والده القاضي المتعلم أن يدخل المدرسة الفرنسية و يتقن لغة المستعمر حتى تكون له سلاحا قويا في مواجهة العدو و بعد تحرير الوطن يمكن لياسين العودة إلى الجذور محصنا بالعلم وثقافات العالم ليواصل رسالة البناء و التحرر و الإنسانية.
و كانت وصية والد ياسين « اترك العربية في الوقت الحالي، الفرنسية تهيمن بقوة، عليك أن تهيمن عليها، و تترك وراءك كل ما غرسناه في طفولتك الأولى، و لكن بمجرد أن تتقن الفرنسية يمكنك العودة إلينا بأمان، العودة إلى نقطة البداية».
و لذلك ذهب ياسين إلى المدرسة الفرنسية التي اسماها «فم الذئب» الذي التهمه سنة 1945 في مأساة ماي الأسود التي قلبت حياة كاتب ياسين رأسا على عقب، 8 ماي 1945 كان يوما للانتصار على النازية و يوما لإراقة دماء الجزائريين في سطيف و قالمة و خراطة.
و بعد تلك المأساة دخل السجن و شطب من التعليم الفرنسي و أصيبت أمه بالجنون حتى ماتت، و بدأت مرحلة أخرى من حياة كاتب ياسين حياة اليتم و الفقر و قيادة العائلة بعد وفاة الأب سنة 1952 و الهجرة و الإبداع الخارق في الرواية و المسرح و النضال و التحرر. ظل كاتب ياسين يتنقل بين الجزائر و فرنسا بعد الاستقلال باحثا عن العمل في كل مكان حتى في حقول البطاطا لمساعدة عائلته بالجزائر، و مر بمرحلة فراغ صعبة وصفها بالمنفى الداخلي.
و خلصت جليلة دشاش إالى القول بأنه و إلى غاية القرن الحالي يبقى كاتب ياسين كاتبا حداثيا مجددا و مؤلفاته تبقى على قدر كبير من التطور و العصرنة، و ربما ستبقى كذلك متجددة لزمن طويل، و مجالا خصبا للدراسة و التحليل و التكوين و التعليم الجامعي عبر العالم.
فريد.غ