الورشة التي تحوّلت إلى مفرخة للفنانين
ستون سنة من الوجود، هو عمر المدرسة الجهوية للفنون الجميلة بقسنطينة، سنوات لعبت خلالها هذه المؤسسة دورا هاما في تطوير التكوين في المجال الفني بالشرق الجزائري كما قدمت أجيالا من المبدعين، وهو ما صنّفها كقطب ثقافي وفني بامتياز.
تعتبر المؤسسة الثقافية العمومية التعليمية الوحيدة المتخصّصة في المجال الفني بقسنطينة، و قد انطلقت فكرة تأسيسها من ورشة الفنان « ديبا» التي كانت متواجدة بالمسرح الجهوي، قبل أن يحول المقر سنة 1964، نحو متحف « مرسي» أو متحف سيرتا حاليا وذلك باقتراح من المجلس الشعبي البلدي آنذاك.
وفي سنة 1968، تم إنشاء المدرسة رسميا و أسند تسييرها لذات الهيئة، مع اعتماد البرنامج البيداغوجي الخاص بالمدرسة الوطنية للفنون بالجزائر العاصمة.
سنة 1969، منحت المقرات المتواجدة بقصر الباي و التابعة للمدرسة، إلى المركز الثقافي ابن باديس، وفي عام 1985 صنفت كملحقة للمدرسة العليا للفنون الجميلة بالجزائر العاصمة، وبعدها بأربع سنوات تم نقل مقر متحف سيرتا، إلى المعهد الوطني للهندسة المعمارية بقسنطينة، و حتى سنة 1998 أصبحت مدرسة جهوية مستقلة بذاتها وفق المرسوم التنفيذي رقم 98 –243 المتضمن إنشاء المدارس الجهوية للفنون الجميلة. و في سنة 2001 ، شرع في بناء المقر الرسمي للمدرسة بمبادرة من السلطات الولائية، وهي بادرة أولى منذ الاستقلال، وفي أكتوبر 2009، تم الافتتاح الرسمي للمقر الجديد الكائن بحي بوالصوف، حيث أطلق عليها اسم « أحمد عكريش».
60 سنة من التكوين خدمة للفن والذائقة
عرفت المدرسة على مدار 60 سنة كاملة، بتاريخ المدينة الفني والثقافي، و حافظت على موروثها المادي واللامادي، من خلال ترجمة مختلف جوانب الحياة في أعمال تحاكي الواقع أو تعيد تلوينه و نحته، حيث تعرض أعمال الطلبة و الأساتذة عادة أمام الجمهور العام و الخاص، خلال ورشات مفتوحة ومعارض ومهرجانات وصالونات وطنية أو محلية أو خلال الأنشطة التي يتم تنظميها على هامش مؤتمرات وملتقيات تحتضنها المدرسة من وقت إلى آخر.
كونت ورشاتها، مبدعين من عدة ولايات في مجال الفنون التشكيلية، كما تخرج منها أساتذة متمكنون حيث كان الهدف من تأسيسها منذ البداية حسب القائمين عليها هو تطوير المجال و بلورة أفكار و إبداعات جديدة، من شأنها مواكبة التطورات السريعة التي يشهدها المجتمع نتيجة العولمة وما جاءت به من تقنيات رقمية تتطلب إبداعا فنيا جديدا، مع إحياء التراث الجزائري المادي واللامادي و توفير المهارات النظرية والتطبيقية اللازمة لفهم الظواهر التقنية للمهن الفنية، وكذا المساهمة في تحسين جودة التعليم الفني في مختلف الأطوار التعليمية و التركيز على التكوين في المهن الفنية الحرة كونها تساهم في تطوير النشاط الاقتصادي والفني للبلاد.
مبدعون ولدوا من رحم المدرسة
يقول عبد العزيز بن طايلة، أستاذ منمنمات بالمدرسة أن المؤسسة قد كونت أجيالا من الفنانين الذين أبدعوا بأعمالهم وأفكارهم الفنية، على غرار الفنان محمد غانم الذي تخصص في الرسم الزيتي في سنوات الثمانينيات وهو الآن مصمم الديكور في التلفزة الوطنية، و محمد خليلي ابن سكيكدة، الذي درس المنمنمات و تحصل مؤخرا على الجائزة الأولى في المهرجان العالمي لفن المنمنات بالعاصمة، إلى جانب المرحوم ندير شيبوب و هو أستاذ سابق بالمدرسة و بوشفرة مسعود و أحمد بن يحيى أحد أبرز الوجوه الفنية في قسنطينة والجزائر وكذا الفنان محمد البشير بوشريحة الذي تشبه ريشته ريشة الفنان العالمي « إيتيان ديني».
تتربع المدرسة على مساحة 163 ألف متر مربع، وتحتوي على جناحين، أحدهما إداري مكون من طابقين و يضم مكاتب بيداغوجية ومصالح إدارية تحيط ببهو المدرسة المخصص للاستقبال، كما يتوفر الطابق الأرضي على قاعة لعرض أعمال الطلبة.
ويحتوي الجناح البيداغوجي على 15 ورشة، منها ما هو مخصص لفن الخزف و الطبع السيريغرافي والنحت والرسم الزيتي والرسم و التصميم والتخطيط و التصميم والتهيئة و المنمنمات و التصميم والاتصال وكذا ورشة متعددة النشاطات، زيادة إلى 18 ورشة دراسية تتسع لـ 500 طالب، وقاعة محاضرات بطاقة استيعاب تصل إلى 244 شخصا، وقاعة معارض تسع 120 طالب وبهو يقع عند المدخل تكفي مساحته لاستقبال 100 شخص.
انتقاء نوعي
يكون الالتحاق بصفوف المدرسة لمن هم بين 17 و25 سنة، عن طريق مسابقة تجرى في شهر سبتمبر من كل سنة على مدار يومين، أين يخضع المسجلون في أول يوم إلى اختبار في الرسم الفحمي، ويجتازون في اليوم الثاني امتحانا في الألوان والثقافة الفنية، ويشترط في المسجلين حصولهم على شهادة التعليم المتوسط فما فوق ويتحصل الطلبة خلال مشوارهم الدراسي على منحة مالية وينهون المسار بشهادة.
كما تستقبل المدرسة عددا معتبرا من المترشحين الأحرار من أصحاب المواهب وذلك خلال يومين في الأسبوع، لكن دون منحهم الحق في الحصول على شهادات معتمدة.يخضع الطلبة لبرنامج تدريسي متنوع، حيث تكون الدروس في أول سنتين « جذع مشترك» تطبيقية في الرسم ودراسة الألوان والتشكيل بمادة الطين وفن المنمنمات و الاتصال البصري و التجهيز الداخلي والخط العربي وفن الخزف. وفي السنة الثالثة « ما قبل التخصص» يقوم الطالب بإنجاز العمل الفني بطريقة أكثر تحررا معبرا عن أحاسيسه وأفكاره دون الخضوع لأية قيود، أما السنة الرابعة والأخيرة فيتم خلالها تحضير مذكرة ومشروع التخرج.كما أن أغلب الأعمال التقنية تتم داخل الورشات على مدار 4 سنوات، وتكون مكملة للدروس النظرية في تاريخ الفن والحضارات والمنهجية وعلم الجمال والأدب العربي وفيزياء الألوان واللغتين العربية والفرنسية.
تتوفر المدرسة على مكتبة، بها مجموعة من الكتب المتنوعة و الفريدة في مجالات عدة إلى جانب وثائق ثرية و قيمة تخص الفن المرئي وشتى التقنيات المستعملة في الفنون الجميلة، ويشرف على المكتبة طاقم من المرشدين و تضم ملحقة للإعلام الآلي.
جُدران وأروقة بلمسات فنيّة
جدران المدرسة وتحديدا الجدران المجاورة لحجرات الورشات التطبيقية، مزينة بلوحات فنية تمتزج فيها الألوان و تتراقص عليها الأضواء والظلال، لتضفي على الرسومات سحرا جميلا، حيث تظهر مختلف الأعمال المرسومة يدويا، قدرة فائقة لدى الطلبة على التحكم في الألوان والتلاعب بأساسياتها.
كما تغطي جدران الأروقة الأخرى، أعمالا من جبس وطين، تحمل بصمة الطلاب كذلك، وهي لوحات منحت للمكان روحا و جعلت كل زاوية من المدرسة تنبض بالحياة.و حسب مديرة المدرسة الجهوية للفنون الجميلة السيدة هند بوداو، فإن هذه الجداريات أنجزت بأنامل طلبة السنوات الأربعة ضمن ورشات فنية حرة أشرف عليها الأساتذة، وقد عرفت سنة 2017 كما قالت، تنظيم ورشة في فن المنمنمات لمدة أسبوع، فيما تعود بعض القطع النحتية الأخرى للمكونين، مضيفة، أنه يتم تأطير وتنظيم الأعمال التطبيقية حتى يتمكن الطالب من إطلاق العنان لقدراته وملكاته الفنية، و التعبير عنها واقعيا.
مساع لتطوير البرنامج التعليمـي
قالت المديرة، إن هناك مساع لإدراج تخصصات جديدة في البرنامج التعليمي، وقد تم مؤخرا حسبها، التأكيد على ضرورة إدراج تخصصات مثل الخزف والترميم و الطباعة على مختلف الأسطح، على اعتبار أن الفن مجال خصب من شأنه أن يساهم بشكل كبير في تطوير الاقتصاد الوطني والرقي بالتنمية.
وأضافت، أن المؤسسة تسعى لتطوير برنامجها هذه السنة، حيث تم تحويل يوم الخميس، إلى يوم حر تقام خلاله ورشات فنية متنوعة بتأطير من أساتذة ذوي كفاءة، أين تكون للطالب الحرية في اختيار الورشة التي يريد الالتحاق بها، مع تقديم دورات تكوينية للطلبة في الترميم والخزف والطباعة، حيث تم الانتهاء من تجهيز ورشة الطباعة والخزف و سيتم الانطلاق في التكوين على مستواها هذا الموسم كما قالت، إلى جانب التخطيط لخرجات نحو المتحف حتى يتعلم الطلاب تحليل اللوحات وفهمها.
« التصميم الخطي» أكثــر التخصصات طـلبا
وتابعت المديرة حديثها قائلة، إن المدرسة سجلت في السنوات الأخيرة، إقبالا كبيرا على تخصص التصميم الخطي « الديزاين غرافيك»، يليه التصميم الداخلي ثم المنمنمات، فيما تراجع الطلب على النحت والرسم و الرسم الزيتي، وقد عرفت السنة الماضية، تخرج 12 طالبا منهم 8 ناقشوا مذكراتهم في مجال « الديزاين غرافيك» و3 في التصميم الداخلي وطالبة وحيدة في مجال المنمنمات، أما هذه السنة فشهدت تسجيل طالب فقط في تخصص الرسم.و يعود إقبال الطلبة على اختيار هذه التخصصات إلى كونها تواكب التطورات التكنولوجية والرقمية التي يشهدها العالم، فضلا عن كونها مطلوبة بقوة في سوق العمل والتوظيف.وتعرف المدرسة، تراجعا كبيرا في الطلب على التسجيل فيها خصوصا من خارج الولاية، نظرا لعدم توفر الإقامة، ناهيك عن موقعها الذي يبعد عن محطات النقل وحسب المديرة، فإن هناك أولياء يغيرون آرائهم بخصوص تسجيل بناتهم بمجرد زيارة المكان بسبب موقعه، و أن هناك طالبة نجيبة انسحبت هذه السنة لذات السبب.
وفي هذا الصدد، يضيف عبد الحكيم هاشمي، وهو أستاذ رسم زيتي بالمدرسة، أن الشهادة، كانت تتيح للطلبة في السابق فرصة العمل في مختلف المؤسسات الثقافية وكذا التربوية بالطورين المتوسط والثانوي، مع إمكانية العمل في المؤسسات الإعلامية كمصممي صفحات وديكور ورسامي كاريكاتوري وغيرها، لكن الأمر اختلف بعد أن أصبحت المدرسة الجهوية للفنون الجميلة تابعة للقطاع الثقافي، مضيفا، أن حامل الشهادة لا يمكنه الآن مواصلة الدراسات العليا بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بالعاصمة مثل السابق، مع أن ذلك ممكن بالنسبة إليه في مدارس فرنسا وإيطاليا.
رميساء جبيل