عن منطق الطير و لغــة الآخــر المُهيمِنَـة
-1-
لم يولد العالمُ أبكماً و انتشارُ لغةٍ لا يتمّ إلا على حساب تقهقر لغة أخرى. و لعلّ المشكل في قوة الهيمنة و في ضعف التقهقر لأن هذين عنصران مرتبطان بالإنسان بوصفه وجودا و ليس باللغة بوصفها بيتا للوجود. ليس ثمة من فكر أو إبداع يولد من خارج رحم لغته أو لغة رحمه. و كل ميلادٍ لفكرٍ ما أو لإبداعٍ ما من رحمِ لغةٍ أخرى غير اللغة الأم هو شبيه بحالة كراء رحم أخرى لمدّة معيّنة من أجل احتضان مولود مرتقب. و في حالة كهذه لا يمكن للمولود إلا أن يكون حاملا لخصوصيات رحم من حملته وهْنًا على وهنِ نظرا لالتصاق المشكلات الأخلاقية (الديونتولوجية) بتلابيب وجوده و توريثها لمستقبله الذي لن يشي إلا بما خبأه فيه حاضرُه، و لن يُفصِح إلا عمّا ورثه منه لأن كراء رحم لا يمكن أن يكون إلى الأبد. و المشكل الحقيقي ليس في حتمية اكتساب لغات أخرى، فهذا تحصيل حاصل، و إنما في تضييع اللغة الأصل أثناء اكتساب اللغات الأخرى. و إذا كان هذا لا يتم إلا بذاك، فهنا تمكن الخطورة كلّ الخطورة. فما الفائدة إذن إن كنت أجيد التحدّث و الكتابة و الإبداع بمائة لغة و أجهل لغتي تماما؟
-2-
كلّ الأفكار الكبرى قيلت في لغاتها الأصلية. و كل المبادئ و النظريات التي أثرت على العالم إنما صيغت بلغاتها و من داخل لغاتها و ليس العكس. و يخطئ من يعتقد بأن الحداثة هي اللغة أو أن الحداثة هي لغة أو لا تكون، لأن الحداثة لا تتحقّق باللغة بقدر ما تتحقّق بالفعل الواعي عن طريق اللغة. و لعل الأدب و الإبداع و الفن الذين عادة ما ترتكز عليهم معظم النقاشات حول اللغة و الهوية، و على الرغم من أهميتهم، ما هم في حقيقة الأمر إلاّ جزء يسيرٌ جدا من تمثيل مشكلة اللغة أو من تصوّر حلّ شامل و نهائيّ لعلائقها الظاهرة و الباطنة. و لعل الأدباء واللغويين هم أبعد الناس عن تقرير مصير لغة مرتبطة بمصير أمة بما هي تلاحمٌ و امتزاجٌ و صيرورةٌ تاريخية و إنسانية و وجودية. و مشكلةُ ضعف اللغة الوطنية مشكلة موجودة أصلا في أذهان من يعجزون عن تجاوز عقدهم تجاهها. و لذلك، فهي مستمرّة فيهم نظرا لانقطاعهم عن لغتهم وليس نظرا لانقطاع لغتهم عنهم. و ما يضير فعلا هو استعمال الكثير من المثقفين للغة الأمازيغية درعاً للدفاع عن لغة الآخر المُهيمِنَة. و هي حالة تمثّل أقصى ما يمكن أن يتعرض له المثقف من استلاب لأن الغرض هو تثبيت اللغة الأخرى في كنه الذات و ليس إحياء ما يختلج في كنه الذات من نبع لغويّ أصيل. و لعل هؤلاء المثقفين يصطدمون و يُصدمون عادة بمقولة كون اللغة هي بيت الوجود. و هم يعرفون أن انتشار اللغة الفرنسية في فرنسا، و التي يدافعون عن وجودها في الجزائر بحكم حضورها الفعلي كما يقولون، إنما تم عن طريق محق العديد من اللغات المحلية و تحجيم وجودها و إخراجها من الصراع المحتدم في الواقع و إدخالها بطرق و مناهج متعمّدة إلى مخابر التجربة التعليمية لكي يتم التحكم في تقليم إمكانية رجوعها القوي في الواقع.
ربما كانت مقولة «الإبداع بلغة الآخر» من أكبر الأكاذيب المتعلقة باللغة على الإطلاق إما لأنها تطيح بالإبداع بمجرّد صدوره أو لأنها تطيح بالمبدع بصفة نهائية لأنه لا يمكن أن يتم إلا في لغة الآخر. أن تكون عبقريا في لغة غيرك فهذا ما لا يمكن أن تصدقه حتى قوانين الطبيعة و الانفتاحُ على العالم لا يتم باقتلاع جذع شجرة الذات من جذوره لأن الذي لا يضيف للغته لا يمكن أن يضيف للغة الآخر. و لعل تلقيم الذات بغير ما يزيد في تأصيل كيانها هو بتر لهذا الكيان و تغريبٌ له في عالم الآخر و التماثيلُ الواقفة في غير ساحاتها تبقى غريبة دائما في نظرات المارّين عبر التاريخ. و لعلّ أغرب ما يمكن أن يحدث لكاتب أن يُترجَمَ له من لغة أخرى إلى لغته الأصلية
أن تدّعي بأن ليس هناك آخر تماما و أن الأفكار وليدة الأنا الكبرى الوحيدة التي ينتمي إليها الإنسان هو نفيٌ للإنسان ذاته من بيت الوجود المتعدّد المختلف و نكران لتاريخه الطويل المبني على الحفاظ على بقائه داخل غابة معرفية عادة ما كانت ميدانا حقيقيا لصراع الأفكار و ليس جنة لتصالحها. و لعل أي انفتاح على الآخر يكون على حساب الذات هو استدعاءٌ ممنهج للآخر ليسكن الذات و ليعيد تشكيلها وفق مشيئته النافذة و رغبته المهيمنة. أن نعترف بضعفنا أمام هيمنة اللغات الأخرى لا يعني رفع الرايات البيضاء و التسليم بخسران المعركة لأن ما تكتنزه اللغات من قدرة على الصبر و على الثأر لنفسها من ظلم ذوي القربى و ظلم الأعداء ، على الرغم من اعتقادنا بضعفها، يفوق بكثير إمكانات متكلّميها ممّن يئسوا من تحقيق ذواتهم الفاعلة داخل لغاتهم. ذلك أن اللغة تتجاوز معركة النظرة القومية الضيقة التي تريد أن تحشر شساعة الكينونة الثابتة في علبة الإيديولوجيا المتحولة. و لعل الكثير من الأفكار المتداولة حول الانتصار للكتابة بلغة الآخر يلفها الموقف المتخندق ممّا هو موجود في لغة الذات من قيم غير موجودة في لغة الآخر و عجز المبدع نفسه عن توفيرها في لغته نظرا لعجزه عن تجاوز عقده التي يحملها عن ذاته من منظور ما تحمله لغة الآخر من إبهار.
-3-
هل حان الوقت فعلا للاعتراف بأن العديد من المقولات بخصوص اللغة و اللغة الأخرى في الجزائر، و التي أصبحت متداولة على أنها حقيقة لا يمكن مناقشتها، تحمل في طياتها الكثير من المغالطات التي لا يريد أي مثقف التجرؤ على ذكرها فما بالك بالتصدي لها بالنقاش و التحليل نظرا لدخولها في نوع من المخيال الطقوسيّ الذي اتخذ مع الوقت صفة المقدس الذي يجب التسليم به كما هو دون مناقشة. و لعل من أهم هذه المقولات و أكثرها تأثيرا مقولةُ استحالة تغيير حقيقة الازدواجية اللغوية في الواقع، كما غيرها من المقولات الأخرى كالادعاء بإضافة روافد جديدة للغة الآخر المُهيمِنَة في حال الكتابة بها، أو الادعاء بتحقيق العالمية و الانتشار بمجرد الكتابة بها. و من يجرؤ اليوم على القول بأن كاتب ياسين أخطأ مجتمعه و أن فرانز فانون أخطأ وطنه و أن مالك بن نبي أخطأ لغته، و أن محمد أركون أخطأ حضارته ؟ في كل هذه الحالات تبدو مشكلة اللغة التي صيغت بها أفكار هؤلاء المثقفين و المبدين ضاربة بحضورها المتأزّم في جذور الذات المتأذية حدّ الأنين جراء هيمنة لغة الآخر. هذا في حالة الجيل الأول المخضرم من الأدباء و المفكرين. أما في حالة الجيل الثاني ممن عرفوا الاستقلال فقط فتلك مشكلة أخرى يتكئ أصحابها على تراث الجيل الأول الذي أصبح مرجعية لهم تضمن لهم الاستمرار في مسارهم الألسني عِوض أن يكون مرجعية لهم في الانفصال عن لغة الآخر يهيئ لهم الدخول في أتون معركة مصيرية تعيد الوضعية المقلوبة الموروثة عن الاستعمار إلى حالتها الطبيعية. و لا فرق هنا بين المقاربات و المواقف الإيديولوجية التي تحملها الأجيال المختلفة حول مشروع المجتمع الذي يدافعون عنه. فقد يلتقي محمد ديب مع مالك بن نبي من الجيل الأول كما يلتقي بوكروح مع صنصال من الجيل الثاني كما يلتقي غيرهما من الجيل الجديد في فرن دلالي واحد يصهر مقاربتهم الوجودية للذات المأزومة و يجمع بينهم جميعا في لسان مبين هو لغة الآخر المُهيمِنة رغم تناقض مواقفهم الفكرية و الإيديولوجية.
كيف يمكن أن نُنكر، من منطلق عصبية آنية ضيقة، المثقفَ الأمازيغي الذي يدافع عن اللغة العربية بوعي و نبني برجا من الأوهام للمثقف العربي الذي يهاجمها بعنف و حقد غير مبرّرين؟ و هل يمكن أن تكون مقولة كاتب ياسين المشهورة عن الفرنسية، على الرغم من حداثة تواجدها المرتبط بفترة الاستعمار الفرنسي، فعلا نضاليا و فتحا حَداثيًّا ينمّ عن عبقرية إنسانية و شجاعة واعية بمطالب الذات و لا تكون مقولتُه المشهورة عن اللغة العربية، على الرغم من حضورها الضارب في جذور التاريخ مكانا و زمانا، انغلاقا و إقصاءً و ربما عنصريةً مبيّتة لا يريد المثقفون التطرّق لها؟ و كيف يمكن أن لا تكون مقولة مالك حدّاد عن اللغة والمنفى غير اعتراف رهيب بانهزام مرير للذات المتعطشة للغاتها الأصلية أمام قوّة حضور لغة الآخر المُهيمِنة في اللاوعي الذي يتحرك من خلاله المبدع من أجل التعبير عمّا يختلج في ذاته؟ و كيف يمكن أن تصل منظومة إنسانية توحدها مواثيق تاريخية تحيل إلى روابط قوية و متجذرة إلى التنصل من ذاتها باتخاذها للغة الآخر لسانا ناطقا بحالها؟ و هل ثمة من طير يغرّد بغير لسان حاله؟
-4-
ثمة تردّد غير مبرّر عند المثقف الراهن من التعرض للعديد من الأفكار التي أنتجتها الرموز الثقافية الجزائرية المُكرّسة، خاصة من أسماء الجيل الأول البارزين، نظرا لارتباطها بمرحلة تاريخية مخضرمة من جهة، و نظرا لارتباطها بانتماء ما كتبوه في المرحلة الثورية و بعد الاستقلال إلى الأدب الثوري الرافد للفعل الثوري و الرافد للإيديولوجية المسيطرة على دواليب السلطة في مرحلة الاستقلال من جهة أخرى.
و ربما كان أحد أخطاء الثورة التحريرية التي لا تزال آثاره بارزة كما تبعاتُه في أرض الواقع إلى اليوم هو تهاونُها الفظيع في الفصل في إشكالية اللغات الوطنية بوصفها أداة نضالية و سلاح تحرير و إشكالية لغة الآخر بوصفها أداة كولونيالية و غنيمة حرب نافذة في ترسيخ الاستعمار الذي تريد اجتثاثه و الثورة عليه، و ذلك على الرغم من صرامتها العظيمة مع ما هو أخف وقعا و أقل خطورة على مصير المجتمع من مشكلة اللغة الوطنية. فبتحريرها للمواثيق المُؤسِّسة للفعل الثوري بلغة الآخر المُهيمِنة فصلت الثورة التحريرية بصرامة بين المستعمِر و بين لغته عوض أن تفصل بصرامة في وضعية المستعمِر و لغته.
و لعل استفحال العديد من الإشكالات السياسية و الإيديولوجية و الثقافية في بنية الخطابات الثقافية كما تُطرح على الساحة باستمرار، و منها إشكالية اللغة، إنما مردّه إلى صياغة المواثيق السياسية و الثقافية التي انبنت عليها مؤسسات الدولة الوطنية بلغة غير اللغة الوطنية. و قد انعكس على ترجمة هذه النصوص إلى اللغة الوطنية حيث خلقت الترجمة هامشا معينا من التأويلات المتأتية من الظلال و الإيحاءات التي تولدها لغة الصياغة( اللغة الأصل) و اللغة التي ترجمت إليها فيما بعد (اللغة الهدف). و لعل كل ما يهم مصيرنا و وجودنا و ثقافتنا من قرارات حاسمة إنما يتم التفكير فيه إلى اليوم، كما يُناقش و يُضبط و يُحرّر من داخل لغة الآخر المُهمِينة بعيدا جدا عن أحزان اللغة الوطنية الأصل و عن أفراحها.
ثمة عنصريات و عنصريات مضادة نائمة في كنف الخطاب الثقافي الجزائري المتأزم بعقده الموروثة عن الممارسات السياسية و الإيديولوجية التي تتخذ من اللغة درعا و مطيةً، لا لإثارة النعرات الثقافية التي تمتلك في جعبتها رصيدا هاما من التفرقة فحسب، و إنما لإعادة تشكيل الوعي الثقافي و الإيديولوجي للأجيال القادمة بما يخدم مصلحة لغة الآخر المهيمِنة بوصفها ممارسةً واقعية تسيطر على المخيال المتأزم بما يعانيه في واقعه من توعّكات مرتبطة بمحاولاتها الخاطئة للدخول إلى الحداثة المتنورة الواعية من الأبواب الموصدة أو من الأبواب المؤدية إلى دهاليز مظلمة.
سعيدة في:14/09/2015