صدرت في الآونة الأخيرة، وحتّى في الأشهر والسنوات القليلة الماضية الكثير من الأعمال القصصية والروائية في صنف الأدب البوليسي، وهذا ما يدعو لطرح بعض الأسئلة حول هذا النوع من الأدب في الجزائر، مقارنةً بمكانته وقيمته وكذا وفرته وانتشاره في خارطة آداب مختلف مناطق وجغرافيات دول الغرب. إذ نجد هذا النوع من الكتابة والأدب مزدهراً ومتطوراً وله جمهوره الواسع. كما له كُتّابه المتخصصون والمتفرغون له.
فهل بالمقابل يمكن القول حقاً أنّ المدونة الأدبية الجزائرية، تخلو من الرواية البوليسية، أو لماذا لا نعثر على روايات كثيرة، أو قصص بوليسية في الأدب الجزائري وحتّى العربي الحديث، بيسر وسهولة كما هو الحال مع بقية الأنواع الأدبية الأخرى؟. وإن كان الأمر كذلك، هل ندرة الرواية البوليسية أو اِنعدامها في ريبرتوار الأدب الجزائري/العربي راجع إلى النظرة المُجحفة لها من قِبل أغلب النُقاد والدارسين الذين يرون ويعتقدون أنّها لا تنتمي إلى فن الأدب ولا إلى حقل الآداب؟ أم المُشكل يرجع إلى الأدباء أنفسهم الذين يُمارسون الكتابة بكلّ أنواعها، ويعزفون عن كتابة الأدب البوليسي، والرواية البوليسية، وينظرون لها كفن دخيل على الأدب العربي؟.
أعدت الملف: نـوّارة لـحـرش
كُتّابٌ وأدباء ونقاد، يتحدثون في ندوة «كراس الثقافة» لهذا العدد، عن «إشكالية/مسألة ووضع الرواية البوليسية»، وهل هي فعلاً غائبة عن المدونة الأدبية الجزائرية، ولماذا قِلة قليلة من الأدباء من يكتبونها. ولماذا النقد يتجاهلها؟، كما يتطرقون في مداخلاتهم إلى أهم العوامل التي تسببت في تعثر هذا النوع من الفن الأدبي.
* مخلوف عامر
الرواية البوليسية تحولت إلى مصدر استخفاف
يقول الناقد والكاتب الدكتور مخلوف عامر: «الرواية البوليسية التي نشأت في الغرب منذ قرون، تُمثل صورة أخرى من تراكمات التجربة الرأسمالية. حيثُ حتَّم الوضع أنّه كما أُنشئ نظام البنوك المُعقَّد، رافقه إنشاء أجهزة ومصالح أدَّت -في الوقت نفسه- إلى أنْ يُصبح السارق أو المجرم على قدْرٍ عالٍ من الذكاء والحيلة ليقوم بفعله ويفلت من العقاب. إلى أنْ اِضطر المنحرفون إلى العمل جماعيا في شبكات من المافيا المنظمة. قد يُعترض على هذا بالقول: إنّ الرواية نتاج الغرب ومع ذلك توجد لديْنا رواية. وهذا صحيح سِوى إنّ الرواية البوليسية تتميَّز بالتعمُّق في مسألة البحث والتقِّصي».
بالإضافة إلى أنّ الرواية البوليسية -كما يُضيف- وهي تطرح لغزاً مُحيِّراً، تُحفِّز القارئ على التفكير في حل هذا اللغز وتشوِّقه بواسطة لغتها السَّهلة وبنائها الإْلغازي المتدرِّج والتنقُّل بين ما يُثار من شبهات، فيندمج القارئ في عملية البحث والتقصِّي سواء أكان في موْقع البوليس الباحث أم كان مُشفقاً على بريء مطارد.
وفي ذات السياق، يُواصل ذات المتحدث: «لقد تعمَّد الكُتَّاب في الأدب العربي قديماً أنْ يُطعِّموا كتاباتهم بِمَا يضمن عنصر التشويق ويرفع الملل عن القارئ إنْ بالميل إلى الاِستطراد أو بتقديم فكرة فلسفية في ثوْب قصصي. ويبدو أنّ هذا ما ورثه الأدباء اليوم ودعموه بِمَا أفادوه من الكتابة الروائية الغربية ونظروا إلى الرواية بوصفها جنساً مُتعالياً عن التسلية التي هي من خصائص الرواية البوليسية. فالكاتب عندنا غالباً ما ينظر إلى نفسه من خلال لغته المتفرِّدة أو الصعبة وخياله الّذي يُبعده عمَّا يبدو له سوقياً فلا يرضى بأن يتنازل ولا أنْ ينزل من بُرْجه النرجسي. لذلك قد تجد كاتباً كبيراً حين يستخفُّ بآخر غيرةً أو حسداً يقول ساخراً: (فلان يكتب رواية بوليسية)».
صاحب «الهوية والنص السردي»، قال مُتسائلاً ومُجيباً في ذات الآن: «(أجاثا كريستي) التي اِشتهرت بكتابة روايات الجرائم، كتبت أيضاً روايات رومانسية. فهل يستطيع الكاتب العربي أن يتنقَّل بين النوْعيْن؟ أعتقد أنّه عاجز عن ذلك. ولو وجدت محاولات فهي لا ترقى إلى الرواية البوليسية، بالرغم من أنّ مجتمعاتنا مليئة بالسُرَّاق والمجرمين وتُجار المخدِّرات وبالسجون. فكتابتها ليست مجرَّد نزوة أو رغبة ذاتية، إنّما هي بقدر ما تبدو بسيطة ومُسلِّية، فهي –في الوقت ذاته- بنية بالغة التعقيد تقتضى حنكة وذكاء، لأنّها من إفرازات مسار معقَّد اِمتدَّ على مدى قرون. فضلاً عن أنّ بعض كُتَّابها يستندون إلى وثائق من صنع البوليس مِمَّا له علاقة بحرية الاِطلاع على الأرشيف».
واختتم قائلاً: «لنفرضْ أنّ كاتباً عربياً أراد أنْ يصوِّر بطلاً بارعاً في التحقيق، وأنّ النتيجة ستنتهي إلى القبض على المجرم أو تبرئة المتَّهم. فإنّه –حتْماً- لن يكون مقتنعاً بِمَا أقدم عليه ولا يمكنه أن يدَّعي بأنّه سيُقنع قارئه. فالواقع يبقى أقوى من الوهْم».
* عبد الحفيظ بن جلولي
وجدانية العربي من بين أسباب عدم الاِهتمام بالرواية البوليسية
يعتبر القاص والناقد عبد الحفيظ بن جلولي « فن الرواية على العموم مجال المُمكن في إنتاج متخيل يُحايث الواقع ويتفاعل معه، إذ السرد هو الفضاء الّذي يتأسّس على أرضيته نسق الحدث، الّذي يتميّز بالتّشويق أساساً، كجسر يقود إلى فك العقدة التي تتطور وتنمو مع الحدث، ومفهوم العقدة لم يعد يحمل معنى وحيدا وهو بلوغ المسارات أفقاً مسدودا، فالعقدة قد تكون هاجسًا يشمل الرواية ككل كما هو الحال في الرّواية السيكولوجية، لأنّها تطورت هي أيضاً مع تطور الفن الرّوائي، ويبدو أنّ النّظر إلى العقدة ذاتها في مقاربة الرّواية التي ما هي في الأخير سوى مرَافَقة حكائية تستأثر فيها اللّغة بنُظم إشكاليات الإنسان في مزاحمته للوجود القائم على أعتاب القلق الوجودي والمأساة، وكثير من العثرات التي تجعل من الحياة الإنسانية قابلة لأن تُحكى لتعيد للإنسان ما سرقه منه الواقع بكلّ فجاجته، وهنا ينبثق مفهوم العقدة كحالة مصاحبة للإنسان في مواجهته لإشكالياته الوجودية من خلال أسئلته المؤرّقة، التي تتفجر من خلال التطورات العسيرة والمنتجة لميلاد المدينة الكائنة بين فكي حداثتها المستمرّة ووعيها بالألم الإنساني، الناتج عن اِنطحانٍ في خضم آلة الواقع الّذي تنبّهنا إلى ديكتاتوريته الرّوائية من خلال عقدةٍ ما، يسعى السّارد إلى فك غموضاتها عن طريق أداة اللّغة القابضة على جداول الجمال في مستويات نسج المعنى، في إطار هذا التوارد الجمالي لفك معضلة الأرق الوجودي المصاحب للإنسان تطوّر فن الرّواية من الواقعية إلى الخيالية والبوليسية والسحرية والواقعية السحرية والرواية الجديدة».
وكلّ هذه التصنيفات –حسب بن جلولي- ما هي سوى تعبيرات عن واقع مُلازم للإنسان في تشكلاته وتحوّلاته الأبدية التي لا تنتهي سوى بنهاية العالم وحينها تكف اللّغة عن مدِّ العدم بسرِّ جماليّاتها.
صاحب «شمس المدينة» أضاف قائلاً: «تأتي الرواية البوليسية في خضم هذا السياق الجمالي الّذي يحاول تفكيك الوعي الإنساني بواقعه وراهنه، فهي تنبني أساسًا على هاجس الكشف لأنّ الحدث يتطوّر فيها اِنطلاقًا من جريمة ما، فـ(الأدب البوليسي قصة أو رواية قوامها اِكتشاف رجل من رجال البوليس أو التحرّي جريمة تبدو أنّها كاملة)، طبعًا التشويق يلعب الدور الأساس فيها، ويُؤرخ لبدايتها بقصة (جرائم شارع مورغ) لإدغار آلان بو عام 1848، والتاريخ يحمل دلالة زمنية جد مهمة في إمكانية الفصل في عدم تطوّر هذا الشكل الروائي في الجزائر والعالم العربي، لأن الذائقة ترتبط ببيئتها، فرغم أنّ الموسيقى عالمية وإنسانية إلاّ أنّ الأذن الموسيقية العربية ترتبط بالإيقاع وهو ما يُشكل برهان سماعها ودليل تواصلها في الواقع، فالتاريخ الآنف الذكر يجعلنا على تماس مع بدايات الاِستعمار الّذي يعتبر في حد ذاته جريمة، وهو ما تفتّح عليه الوعي الغربي في إدراكه للعالم. وعليه كانت مفاتيح الجريمة متوفرة اِبتداءً كحالة واقعية وعنصر مُتاح للفهم والمعالجة السردية عبر منوال الرّواية.
عنصرٌ آخر -حسب بن جلولي- يحيل إليه التاريخ الآنف الذكر هو تشكل الحداثة الغربية التي من خلال المدينة/الورشة التي تبحث عن هوامش الاِنبثاق داخل الصيرورات البشرية التي لا تحيد عن منطق المواجهة، والطفرات النّاتجة عن التعدّد والتناقض، فالمدينة في نهوضها الحداثي شهدت تحوّلاً في سلوكات الأفراد نتيجة للتطوّر الّذي يحرّك مفاصلها نحو الأفق الأفضل. مِمَّا سهل الدخول إلى عالم الجريمة عن طريق التناقضات المستحدثة التي رافقت مسار الدخول في الحداثة، فتنوّعت مستويات الجريمة وأدوات تفكيك علاقاتها بالإنسان الشاهد على تطوّر الحياة من البساطة إلى التعقيد.
ويبدو أنّ هذه المسارات -كما يقول بن جلولي- هي ما جعل النقاد يستثنونها من الأدب بمجمله والأدب الرّوائي على الخصوص.
ويبقى السّبب المُحتمل في عدم ظهور الرواية البوليسية في الجزائر والعالم العربي -حسب اِعتقاد بن جلولي دائماً- هو اِختلاف المسارات والظروف التّاريخيّة التي تنتج كينونة أو مفهومًا ما، فغياب عنصر الجريمة في علاقتها سواء بالاِستعمار أو بمسار الحداثة، يكون قد صعّب التواصل مع هذا الشكل الرّوائي، وخصوصًا إذا وضعنا في الحسبان العداء التّاريخي للاِستعمار والحساسية اتّجاه مفهوم الحداثة كعنصر من عناصر الاِنسلاخ عن الهوية.
وخلص إلى القول: «يبقى هناك عامل يبدو أنّه قد يفسّر شيئًا من عدم الاِهتمام بالرواية البوليسية، وهو وجدانية العربي على العموم، فالدكتور حسن حنفي يرى بأنّنا حتّى حينما نفكر، فإنّنا نفعل ذلك بعواطفنا، والجريمة وتحليلها أو تفكيك علاقاتها بالمجتمع تدخل في إطار الناجز خارج المتاهة السردية الحدثية المتوافقة مع الإبداعي، طبعًا في جانب من جوانبها، وإن كنتُ أعتبر أنّ الرواية البوليسية تتوّفر على عناصر الرواية الفنيّة، كما إنّنا كعرب، اِنتقلنا تاريخيًا من تراث شعري سماعي إلى السرد، فحللنا بفضاءاته محمّلين بثقل الإيقاع والإصاتة والسّماع، وهي الجماليات التي قد نندرجُ بها في يسر في عالم السرد من خلال الشِّعريّة التي يبدو أنّها تغيب في سرد الرواية البوليسية، التي تشكلت في الوعي الغربي الّذي أنتجها كذلك، فما بالك بمن لا علاقة له بتاريخيتها البتة».
* محمّد الأمين بحري
من التعسف أن نقفز على الشروط التأسيسية للأجناس
يقول الناقد والأكاديمي الدكتور محمّد الأمين بحري: «قرأتُ منذ فترة اِستغراب بعض المثقفين غياب جنس الرواية البوليسية عن الساحة العربية، والمُثير أنّ أحدهم (الأستاذ عبده وازن)، اِختتم شكواه قائلاً: (لم يبق من عذر لدى الروائيين لمثل هذا التقاعس بعدما بات السؤال البوليسي على مرمى أيديهم؟)، مُبرراً موقفه بتوافر الشرط الحوادثي (في الساحة العربية المُشتعلة بالصراعات الطائفية والحروب».
ذات المُتحدث يُواصل قائلاً: «يُؤشر هذا الطرح (الغرائبي) للموضوع على عُمق أزمة المُثقف العربي في فهم الإشكالات الفنيّة للأجناس الأدبيّة وارتباطها بواقعه، بينما تتبدى الهوة سحيقة بين الشروط الفنية التأسيسية لهذا الجنس السردي وطبيعة الأحداث في البلاد العربية (وهي أقرب إلى الحروب الأهلية الفوضوية منها إلى المنظومة المؤسساتية للواقع البوليسي). لهذا فإنّ عملية إسقاط هذا اللون الروائي على الكتابة السردية العربية دون مراعاة الخصوصيات التّاريخية والحضارية، وكذا الشرط الفني لولادة الأجناس في السرد العربي، تبدو معادلة عبثية، لغياب مقومات الظاهرة بداية بالشرط الفني ومروراً بالاِصطلاح، وانتهاءً بالوعي بالوقائع».
ثمّ أضاف مستدركاً: «يجدر بنا قبل إطلاق دعوات جزافية لاِجترار أجناس أدبية عريقة ومنسجمة مع بيئتها الغربية، أن نتساءل بأناة: هل توصلنا إلى تحديد مفهوم مصطلح (البوليسي) عربياً، سواء أكان ذلك على المستوى السياسي، أو العسكري، أو الثقافي حتّى نقوم بتجنيسه جزافياً على المستوى الأدبي؟ ثمّ إذا نحن قمنا ببحث مصطلحي؟ وميداني ووظيفي لمصطلح (البوليسي) في الساحة العربية، هل يمكن مماثلته (جدلاً) بمفهوم نظيره في النُظم السياسية والعسكرية والثقافية الغربية؟».
وهنا يعتقد صاحب «البنيوية التكوينية» بأنّه من التعسف والجور أن نقفز على كافة المفاهيم والشروط التأسيسية للأجناس. ونعمد إلى غرز جنس أدبي في الثقافة العربية لمجرّد وجوده المُؤسس عند الغرب.
وفي مسعىً لتوضيح فكرته، يضيف: «يبدو من النشاز عقد مقارنة ظالمة بين أصالة الرواية البوليسية عند الغرب وانسجامها مع مؤسساته وأنظمته الاِجتماعيّة والسّياسيّة، ومحاولة إسقاطها بصورة فجة على الساحة الأدبية الجزائرية أو العربية دون تقدير أو فهم لمسوغات التجنيس. وتنتفي المقارنة مرّةً ثانية في ظل غياب الوعي بِمَّا يقتضيه هذا الجنس من تمثل مفاهيم حضارية كـ:(العدالة واختراقها) و(البوليس والمجرم)...الخ، التي تستحيل شيئاً ساخراً إذا ما تحدثنا عنها في الواقع أو الفن العربيين».
ولهذا السبب -يرى الدكتور بحري- أنّه من الشطط بمكان أن تجد هذه الفكرة مصوغاتها الفنيّة إلاّ في حالة اِفتراضية جيدة هي كتابة رواية بوليسية من جنس الخيال العلمي، إن جاز -طبعاً- دمج اللونين السرديين.
ويضيف في هذا المعطى تحديداً: «أمام هذه الإكراهات والمآزق الثّقافيّة، التي تجعل المثقف مجرّد كائن مجترّ لأجناس وتسميات دون مراعاة أشراطها الفنية سنتساءل مع أهل الكتابة والنقد: هل ما يزال الروائي العربي في هذا العصر يكتب ضمن لون روائي معين؟».
واختتم قائلاً: «إذا نحن حاولنا جدلاً تصنيف ما يُكتب في الساحة العربية وفق الأجناس المعروفة للرواية (الغربية). لصنفنا جلها في خانة اللاجنس، أو ربّما سيتحتم علينا كبديل أن نختلق أجناسنا الروائية من صلب بيئتنا المتفردة، بدلاً من الاِستجداء العبثي لأجناس منتفية المقومات والأُسس الفنيّة، فضلاً عن غرائبية مفاهيمها عن واقعنا اللابوليسي واللاأمنى على كافة الأصعدة. وإن شئنا الاِستمرار بالعزف على نفس الإيقاع، سنقترح على دُعاة اِستجداء الأجناس الغربية في الكتابة العربية أن يبحثوا عن أسباب غياب أجناس سردية أخرى كرواية الفروسية (Le roman de chevalerie) في السرد العربي، لما كانت الفروسية في واقع الحال مرتبطة بالإنسان العربي تاريخاً وحضارة؟؟».
* محمّد بن زيان
نصوص جزائرية قاربت عوالم هذا النوع وتمّ الاِلتفات إليها بالدراسة
من جهته الكاتب والناقد محمّد بن زيان، يقول: «بدايةً تُواجهنا إشكالية التحديد والتصنيف، وفي ما يخص الموضوع يقول الأستاذ عبد القادر شرشار: (إنّ محاولة تحديد الرواية البوليسية أمرٌ صعب في نظرنا، وذلك للتطوّر الكبير الّذي عرفه هذا الجنس الأدبي، هذا إذا سلمنا أنّ الرواية البوليسية جنس أدبي ينتمي إلى حقل الآداب. وبالطبع فإنّ أيّة محاولة لتحديد جنس أدبي أو تقنينه، تعني وضع نهاية له، وبالتالي تحكم عليه بالتحجر والتقوقع). وما أشار إليه شرشار، قد يُطرح أيضا بتفاوت في مواضيع متصلة بأجناس وأنواع أخرى من المنجز الإبداعي».
مُضيفًا: «البعض ربط الرواية البوليسية بسياق وبحيز، سياق حضاري أفرز تعقيدات وأيضًا حيز مديني مركب ومُتشابك، وغياب مقومات ذلك في فضاءنا العربي والجزائري، له اِنعكاساته التي قد تُشكل مدخلاً من مداخل إثارة إشكالية غياب الرواية البوليسية عن مدونتنا الروائية. فالرواية البوليسية في بداياتها ومساراتها حسب ما يذكره الدارسون المهتمون، اِرتبطت بأسماء لها وزنها في عالم الأدب وهو ما يُمثل دحضًا لبعض الأطروحات التي صارت شبه مُسلمة عند بعض كُتّابنا الذين ينظرون نظرة اِستصغار وتتفيه للرواية البوليسية فبوجدرة مثلاً في اِنتقاده لياسمينة خضرة، وصفه بكاتب روايات بوليسية. وكِبار الكُتّاب يستثمرونها ويرجعون إليها كالكاتب إمبرتو إيكو الّذي ذكر في تصريح مطالعته لها لما يريد الاِستراحة وتوظيفه لتقنياتها في رواياته» .
بن زيان قال موضحاً: «يمكن مقاربة إشكالية غياب الرواية البوليسية، اِعتبار غياب تعقيدات المدينة الغربية، واعتبار النظرة المُتعالية المتصلة بالنسق النمطي والتنميطي الّذي حكم التوجهات. ولكنّه غياب مقترن بمفارقة، فالرواية البوليسية ظلت محل رواج ولقد صدرت ترجمات كثيرة لما كتبه رواد الرواية البوليسية كجورج سيمنون وآغاتا كريستي، كما أنّ هناك بعض النصوص جزائرياً وعربيًا التي قاربت عوالم هذا النوع من الرواية ولقد اِلتفت إليها البعض بالمُتابعة والدراسة ومن الدارسين المهتمين عندنا في الجزائر الأستاذ عبد القادر شرشار. ويستحضر البعض أسماء ففي مصر يشير بعض الدارسين إلى اِسم محمود سالم كأوّل كاتب مصري حاول ممارسة هذا النوع من الكتابة، وكان منجزه متمثلاً في سلسلة المغامرون الخمسة. واقترب منها بعض الكُتّاب الآخرين وربّما نستحضر هنا نجيب محفوظ في روايته (اللص والكلاب)، مع أنّ الأمر لا يتصل برواية بوليسية بالمقومات المعتبرة عند أهل الاِختصاص».
أمّا في مدونتنا الجزائرية، فبرز -حسب بن زيان- اِسم «ياسمينة خضرة» برواياته في التسعينيات التي حقّقت له تكريسًا في الساحة، وهناك بعض النصوص في المدونة السردية الجزائرية التي اِقتربت من عالم الرواية البوليسية فإضافة لياسمينة خضرة، نذكر الروائي محمّد جعفر في روايته «هذيان نواقيس القيامة» والكاتبة نسيمة بولوفة في روايتها «نبضات آخر الليل»، ومراد بوكرزازة في سلسلة من رواياته الأخيرة. كما أنّ هناك نصوص يمكن اِعتبارها مستندات مساعدة على حبك روايات بوليسية كالكِتاب الّذي كتبه الكاتب والطبيب تامي مجبر عن عمليات التشريح التي قام بها كطبيب شرعي.