العصرنة لم تؤثر على تراثنا الغنائي
يرتبط اسم الفنان عيسى براهيمي، ابن منطقة وادي الماء بباتنة، بالأغنية الشاوية العصرية، حيث كان ممن طوّروا موسيقاها وأدخلوا عليها آلات عصرية بداية من السبعينيات، ويجمع «داداه عيسى» كما يلقبه محبوه، بين فنون عدة فهو مؤد وكاتب وشاعر وملحن، يتغنى بأرضه الأوراس وكل ما يرمز إليها، له بصمته في الأغنية الشاوية و يتميز فنه بتفرد الكلمات و الموسيقى، خاصة وأنه كتب ولحن لفنانين كثر على غرار ماسينيسا وحسان دادي و ماسيليا والمرحوم كاتشو.
حـاوره: يـاسين عـبوبو
يستلهم عيسى براهيمي، إبداعه الفني من حبه لأرضه الأوراس، ومسقط رأسه بجبال الشلعلع الغنية بأشجار الأرز كما قال في حوار خص به النصر، و هو فنان فخور بهويته، يشتغل منذ تقاعده قبل 10 سنوات، على توثيق الحياة البرية في الحظيرة الوطنية لبلزمة عن طريق الصور، وهو مشروع يشاركه فيه مختصون يحضرون لإعداد موسوعة باللغة الأمازيغية، عن حيوانات ونباتات الحظيرة.
النصر: متى و كيف اكتشفت ذاتك الفنية؟
ـ عيسى براهيمي: أنا من مواليد 1961 بمنطقة ثاسا الجبلية ببلدية وادي الماء بولاية باتنة، مولع منذ الصبا بالفن على اختلاف أشكاله، عندما بدأت أغني وأنا تلميذ في الطور المتوسط بمدينة مروانة، حظيت بالتشجيع من طرف الأصدقاء و المحيط العائلي والدراسي، حيث كان المعلم دائما يطلب مني في المناسبات و التظاهرات التقدم لتنشيط الحفلات سواء في الغناء أو المسرح، ولما التحقت بثانوية مصطفى بن بولعيد بمدينة باتنة، وهي ثانوية ذات صيت وقطب جامع لتلاميذ الأوراس، نميت قدراتي ومهاراتي في سنوات السبعينيات من خلال التعرف على فنانين ومبدعين من مختلف المناطق.
هدفنا الفني إبراز تراث منطقة الأوراس
هل اخترت الطابع الشاوي منذ البداية أم قادك صوتك إليه؟
ـ كلا، أدائي للغناء الشاوي والتأليف و العمل على تطوير الموسيقى الشاوية عموما لم يكن مسارا اخترته لبداياتي لأنني ومثل أترابي من الجيل السبعينيات والثمانينيات كنت أهوى الغناء والطرب الشرقي والطابع الغربي كذلك.
في صباي كنت أغتنم فرصة رعي الأبقار، لأستمع لجهاز الراديو، الذي أهداني إياه والدي و قد كنت أستمتع وأردد أغاني عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، كما أحببت الغناء الكلاسيكي الفرنسي لفنانين مثل كلود فرانسوا و جو داسان وماتيو سارج لاما وبيار باشلي.
نفهم أن للطبوع الشرقية والغربية تأثيرا على موسيقاك الشاوية؟
ـ لم أثبت منذ البداية على الطابع الشاوي والفلكلوري، كما كان لي احتكاك بفنانين و موسيقيين من بجاية، خلال إقامتي فيها لثلاث سنوات منذ 1980، بعد التحاقي بقطاع التعليم لتدريس مادة النشاط الثقافي « التربية الفنية» حاليا، علمت بثانوية تامزريت إيلاثن، في قرية اشتراكية تقع وسط طبيعة ساحرة على ضفاف الصومام، و كانت تلك الفترة من أجمل وأحلى الذكريات، حينها طورت قدراتي الفنية بالعزف على الآلات الموسيقية الإيقاعية خاصة القيتارة التي أفضلها وانبهرت بمستوى التلاميذ والفنانين في القرية.
كاتشو و ماسينيسا ودادي و ماسيليا غنوا كلماتي
لا أخفي عليكم أن لاحتكاكي بفنانين من بجاية دورا في صقل موهبتي الفنية وتطويرها، وكان لطبيعة الصومام ونهرها المتدفق تأثير على نفسي، فقد تعلمت هناك الرسم و كنت أرسم لوحات للطبيعة إلى جانب الغناء والكتابة الشعرية.
بعد قضاء مدة تزيد عن ثلاث سنوات ببجاية، كنت قد عدت إلى مسقط رأسي وادي الماء، حيث واصلت التدريس في نفس المادة، و حرصت دوما على تلقين واكتشاف المواهب وسط تلاميذي في مختلف الفنون من الموسيقى إلى الرسم، كما كنت أنشط الرحلات، وذلك قبل أن التحق بالمركز الثقافي بمدينة مروانة، لأغير القطاع من التعليم إلى الثقافة مع ذلك لم يتغير المضمون فقد استمريت في نفس المهام.
ماذا عن انطلاقتك الفعلية في الغناء والكتابة والتلحين؟
ـ في سنة 1984، كنت أشرف على مجموعات صوتية خلال الحفلات بين المتوسطات وبين الولايات أيضا، وبحكم خبرتي لسنوات كنت أميز وأكتشف المواهب، و أوجه كل موهبة إلى الاختصاص الذي يمكن أن تبرز فيه بمن فيهم أعضاء فرقة «أمناي»، و تعني تسميتها «الفارس»، والتي تأسست سنة 1985، وضمت شبابا صنعوا لأنفسهم أسماء لامعة، من بينهم الفنان علي شيبان، المعروف بالاسم الفني ماسينيسا، والذي كان معروفا بحنجرته المتميزة، إلى جانب مواهب أخرى من وادي الماء برزت مع فرقة أمناي، أذكر على سبيل المثال عمار بروال الذي يتولى آلة القيثارة وأحمد مرزوق على الطبل ومزهود في الإيقاع.
تقول إن دخول إيقاعات عصرية على الموسيقى الشاوية كان بداية من سنة 1985 مع فرقة أمناي؟
ـ يمكن القول إنه مع فرقة أمناي، كانت الإضافة الجديدة هي إدخال الآلات الموسيقية العصرية على الأغنية الشاوية، التي عرفت بالقصبة والبندير، وقد أدينا أغان شاوية تراثية وقدمنا ألبوم الفنانة ديهيا غرس المال غرس إنركب ذابركان أوما يحلى"الذي صدر سنة 1981". و لم يكن يقتصر غناء الفرقة على الطابع الشاوي، فأدينا طبوعا مختلفة نزولا عند طلبات الجمهور السطايفي والقبائلي و رددنا أغاني إيدير وكان لنا حضور ومشاركات عدة رغم حداثة الفرقة آنذاك. شاركنا سنة 1986 في مهرجان الأغنية الأوراسية، وفي 1987 شاركنا في مهرجان عيسى الجرموني بأم البواقي وبالموازاة مع النشاط الفني، كنت أكتب الأغاني للفرقة بالشاوية و قد سجلنا منها أمناي و أوسان عدان، وأهمطوث وكان لكل عضو من الفرقة دوره ولمسته وقد أضاف أستاذ الموسيقى ميلود ناصر الشريف، لمسته أيضا.
عيسى الجرموني خامة صوتية لن تتكرر
أما عن تسمية الفرقة بأمناي، فذلك لدلالتها ورمزيتها و التغني بصفات الفارس بمنطقة الشاوية من شجاعة وإقدام ومن الكلمات التي جاءت في أغنية أمناي « أمناي يسلاداي أكر غر لفجر أرفذ أقستور أعمرث إيمورا أتسنذ إيوذان...» لهذا فإن هدف الفرقة كان توظيف الفن لخدمة المنطقة وإبراز تراثها اللغوي باللسان الشاوي بعد إدخال الآلات الموسيقية العصرية.
لماذا انتهت فرقة أمناي وكيف تواصل المشوار بعدها؟
ـ في الحقيقة لم يكن تفككا لأعضائها، وإنما شاءت الأقدار بعد أن كبر الشبان الصغار وتطوروا، أن يسلكوا طرقا أخرى، وكان ذلك سنة 1989، واصلت المشوار باسمي الفني عيسى براهيمي، فيما أسس علي شيبان ومجموعة الموسيقيين المنبثقين عن فرقة أمناي فرقة جديدة، حملت تسمية ماسينيسا، وبقينا على اتصال وتبادل للأفكار، وكنت في كل مرة أكتب ألبومات أغان لفنانين عدة من منطقة الأوراس، وبالنسبة لي واصلت المسيرة الفنية كتابة وتلحينا وفي مجال الغناء أيضا، وكنت قد أنتجت أول ألبوم ثنائي رفقة ماسينيسا سنة 1987، في أستوديو بوعزيز نجل الشهيد علي النمر بمروانة، من إخراج صالح بومعراف وكان ذلك بإمكانيات بسيطة، وأنتجت بعدها ألبومي الثاني سنة 1991 بعنوان «إفراسن» مع موسى مباركي، الذي كان تلميذا في المركز الثقافي بمروانة، إلى جانب فرق أخرى لشبان وفنانين، أذكر منهم توتو سعيدي ورضا خماري ونورالدين عوف، وكذا حمى قرعيش و حمى برحال حيث اشتغلنا كمجموعة واحدة.
كنت أقوم بالتسجيل والتعديلات الصوتية في استوديو الإخوة بلعيدي زينو وعمار بباتنة، وكان لي مشوار طويل معهم في سنوات التسعينيات، قبل أن أتوجه إلى استوديو طبنة الذي سجلت فيه ألبومات «أممي» «بدغ فيخف نوذرار»، «إكرن إطيارن».
من غنوا من كلماتك أيضا؟
ـ هنالك العديد من التلاميذ والفنانين المغمورين الذين استطاعوا بموهبتهم الصوتية أن يحققوا نجاحات والبعض لم يسعفهم الحظ لعوامل عدة، على الرغم من الخامات الصوتية التي يتمتعون بها، كتبت لأسماء مثل ماسينيسا وحسان دادي والمرحوم كاتشو وماسيليا، و قد برزوا خلال فترات، كما يوجد أيضا فنانون فرضوا أنفسهم مثل هشام لوراسي و كمال لمودع و الشاب فاروق، وابن مروانة علاوة طوطو وفاتح سليماني من إينوغيسن، والشابين طارق وفؤاد من تكوت وآخرين.
أوضح بأنني لم أنقطع عن الغناء حينما كنت أشتغل في الكتابة، ولا أزال مغنيا إلى يومنا هذا ولدي استوديو بسيط بمنزلي، فلطالما كنت شغوفا بالمجال وقد كان لي مرور في حصة سباق الأغاني الإذاعية، و نلت حينها المرتبة الثانية بعد الشاب خالد بأغنية حول المرأة الأوراسية، كما شاهدني جمهوري على التلفزيون، وكانت أول حصة أشارك فيها سنة 1995 هي «نجوم وأنغام»، وأظن أن قلة الإمكانيات في تلك الفترة حالت دون دفع الأغنية الشاوية أكثر.
ذكرت أنك شاركت في مهرجان عيسى الجرموني فماذا يعني لك هذا الفنان؟
ـ هو مدرسة وتاريخ، صوته معجزة وخامة لن تتكرر لقد كان شخصية فنية متميزة و مولعة بالفن، بل لقد عاش لأجله كان يتجول فلا يرجع إلى منزله إلا بعد أشهر، وقد استطاع أن يؤدي جميع المقامات والأوزان، سجل بحنجرته التاريخ بعد أن كان أول الأفارقة الذين اعتلوا مسرح الأولمبيا سنة 1936، مبرزا الغناء التراثي الأوراسي، وكنت إلى جانب فنانين قد زرت منزله ببلدية متوسة، إحياء لذكراه ومعروف عن صاحب أغنية «الفوشي» و»عين الكرمة» مناهضته للاستعمار في بعض أغانيه.
هل أنت من مؤيدي أم من معارضي فكرة عصرنة الأغنية الشاوية؟
ـ أظن أن الأغنية الشاوية خلافا لباقي الطبوع، يمكن أن تتقبل مزيج التراثي و العصري، وهي ميزة تطبع الأوراس حيث نجد عددا كبيرا من الفرق الفلكلورية التي تعنى بالتراث الشاوي، مقابل عدد أكبر من الفرق التي تؤدي الأغنية الشاوية العصرية، كما توجد فرق تؤديهما معا ومثال ذلك فرقة الفنان جمال بورحلة، الذي يتمتع بحنجرة قوية تصدح على أنغام القصبة والبندير، كما يبدع في الموسيقى العصرية، وتبقى الأغنية التراثية زادا للطابع العصرية الذي تميزه الآلات الموسيقية.
ما تعليقك على إدراج اللهجة العامية في الأغاني التي تصنف ضمن الطابع الشاوي وأنت الذي تكتب باللهجة؟
ـ يجب أن نميز بين الأغنية الشاوية التي كلماتها بالشاوية وبين الأغنية الأوراسية التي تنطق بالعامية ولحنها شاوي الأغنية الأوراسية وليدة ظروف ومراحل زمنية، و التغني بكلمات اللهجة العامية الجزائرية على وقع أنغام الطابع الشاوي أتى من أجل فهم الكلمات لغير المتحدثين باللسان الشاوي، في حين أن الأغنية الشاوية لها جذور تمثل امتدادا لطبوع منها طابع الحيدوس و هو طقس أمازيغي قديم في شمال إفريقيا يجمع بين الكلمات واللحن والرقص، ولما تكون الكلمات معبرة وذات دلالة فهنا لا يمكن تغييرها.
موسوعة بالأمازيغية لحظيرة بلزمة
تستلهم كتاباتك وأشعارك من الطبيعة فماذا تعني لك جبال الشلعلع ؟
ـ بيئتي التي ترعرعت ونشأت فيها هي مصدر إلهامي كلماتي وأشعاري وألحاني وطفولتي تحمل أحلى الذكريات عنها، كيف لا تلهمني المرأة الأوراسية بلباسها الملحفة وبحليها من الفضة، و الطبيعة الساحرة لجبال الشلعلع بأشجار الأرز (إيذقل) الشامخة منذ قرون، تلك الأشجار لو تعلمون تأبى النمو في علو يقل عن ألف متر، وهي دائمة الاخضرار و لا تنحني ، وإذا ما نبتت في الكهوف فهي تخترق الصخر، وفي الحر والبرد يبقى الأرز صامدا وباسقا بمعنى أن خصائص الشجرة وحدها تلهمك، لهذا قررت بعد تقاعدي منذ 10 سنوات، تكريم هذه الأرض بإعداد موسوعة عن الحيوانات والنباتات بإقليم الحظيرة الوطنية بلزمة التي تضم جبال الشلعلع.
حدثنا عن المشروع وعن مستقبلك الفني أيضا؟
ـ لا يمكنني الانقطاع أو التوقف عن الفن، وأنا على نشاط دائم مع فنانين من أبناء المنطقة، وأعمل حاليا في استوديو بسيط بمنزلي أبث عبره ما تجود به قريحتي من أغان عبر فضاء التواصل الاجتماعي.
أشتغل بالموازاة مع ذلك على توثيق الحياة البرية للحظيرة الوطنية بلزمة بالتنسيق مع مختصين، وذلك حفاظا على قيمة وثروة الأرض التي ولدت وترعرعت فيها، إذ يحز في قلبي أن أرى أجيالا تهمل موروثها الذي يمثل هويتها، بكل عناصره من الطبيعة إلى الفن إلى اللغة.
ي.ع