إلهام بورابة
معابر مفاتيح: الترجمة خلق جديد/ حزن الكاتب وحزن المترجم متشابهان ، لكن الفرح يكسبه القارئ./الرواية انتهت لكن الإطناب في إعادة التدوين لوضع كل شيء في مكانه.
من أين أطرقك يا باب القنطرة؟
فلا مفتاح لديّ بنوعه المصنوع أو المنسوخ لأرجع إلى الحيّ الذي تربّيت فيه.
هذه حكايتي السريعة تعمّدت أن أدخل بها أسارير باب القنطرة ليبوح لي بكلّ شيء.
وهاهي الكاتبة نجية عبير تبدأ مثل بدايتي في رواية قصر الصنوبر، وعيناها بأشجار الصنوبر تركّب جملها. والمترجمة آسيا علي موسى تسطّر معها الحروف عربيّة كأنها تتأمّل أجمل خط يحرّك رحلة التغيير في حياة الجزائر المستقلة وحياة كاتبة تستغل فرصة سانحة للتحرر هي أيضا من سيرتها منذ سن الطفولة فدوّنتها سلوانا إلى أن انتهت إلى تعريب فصيح كما ينبغي لتوجّه سياسي مرغوب.
لا يعدو « باب القنطرة» في الرواية غير تسمية مجازية لمدرسة المعلّمات École normale وإلى وقت قريب ونحن في الحي ندعوها هكذا رغم اللافتة الكبيرة المكتوب عليها الآن «المعهد التكنولوجي مريم بوعتورة «. وكان الشارع ابتداء منها إلى مدخل الفوبور لامي ( الأمير عبد القادر) هو كله ما يسمى» نهج السيدات». الحي الذي ولدت ونشأت فيه.
باب القنطرة إذن تسمية مجازية على سبيل الاستعارة المحلية وإطلاق اسم الكل على الجزء فصلا بين المكان الذي تسكنه الكاتبة ( سيدي مبروك) والمكان الذي سيكون محل إقامتها الداخلية طيلة سنوات التكوين الأربع بالمدرسة النورمالية.
كانت صدمة لي ألّا أجد من حي باب القنطرة إلّا لافتات وإشارات . تمثال قسنطنطين القار منذ زمن يخمّن سعادة الطيور الفارة من حوله ذكرته عابرا كأنّها تطرده من مدينة هو بانيها. عبرت تلميحا وهي العبير ينبغي لها أن تسبغ الشوارع والبيوتات والأحياء المتخفية . فأين كبار باب القنطرة ، في محلّاتهم أو في مقاهيهم. أين أطفالها وأحجارها؟ ولا حتى الآثار الرقيقة وهي تشير إلى أنبوبي الغاز المقابلان للمدرسة فكانت هناك لإقامة « جازية ومسيكة» أشهر بيت في باب القنطرة منح بساتينه للعابرين يطعمهم فواكه وثمارا ويسقيهم ماء عذبا من منبع يخفق أكثر من قلب.
استوحشت باب القنطرة صراحة . وذقت مرارة الاغتراب وفراق الأهل. بل حتى جبانة اليهود المتاخمة للمدرسة وكأنها من حدائقها الصامتة ذكرتها لفظا بلا معنى على سبيل العلم بالسيء لا بصفاته ومنظره وأصله فلو حتى ذكرته بابتسامة ماكرة كما تفعل مع زميلاتها في المدرسة .
بله المدينة ، قسنطينة التي لم تحضن نهرها بأربعين ذراعا فقط عبور وصل بها إلى حنين للحيّ الذي نشأت فيه ثم انزوت إلى طعم بخيل كأنّما الرواية هي فقط لمرحلة من حياتها تتعلق بالتكوين بمدرسة داخلية تحبسها عن المدينة وعن الحياة برمّتها . حياة انتقالية لأجل الحرية . تقول نجية عبير: اغتنمت تلك الأوقات مُدركة أنها مُدبِرة لا محالة. وأنني على عتبات تغيير سيقذف بي قريبا إلى عام جديد».
استوحشت باب القنطرة ، إلى أن ذكرت « السيّدات» الحي الذي نشأتُ فيه . ذكرتْه فأحسنتْ ذكره وتذكّره . كأنّما لفّقته لشفتيها بدل القبلة وهي تقطعه مع حبيبها إلى حيث مدرسة المعلمين الذكور ب» فوبور لامي» مدرسة الإخوة بسكري فيما بعد .
حسنا، لا شيء من باب القنطرة إذن إلّا قرع باب لإنزال الأمتعة أو حملها . باب بوجهين ، وجه مشرق إلى الخارج وآخر بتجعايد عسيرة كما النهايات.
تأرجح قلبي بين الوجهين. أنا التي دخلت المدرسة في سنّ صغيرة إبّان حملة تلقيح صحي وقائي وأعطتني الممرّضة قطعة سكر وضعت عليها قطرتين من « البترول». دسّتها في فمي دسّا فاستغربت ذوقها لكني تعوّدت بعدها سرقة قطع السكر ودكدكتها بين أسناني لا أهاب التسوّس الذي كان أبي يحذّرني منه.
اختلطت عليّ الذكريات وأنا أقرأ للكاتبة جهدها في مقاومة سكاكر جدّتها ومأزمها النفسي والأخلاقي لأنّ نظام المدرسة يمنع الحلويات خاصة، محافظةً على صحة الطالبات المعلّمات. إنّها وفية لمبادئ المدرسة وقيمها .
أجل ، نظام المدرسة النورمالية صارم جدا . وأتعجّب لماذا الاحتفاظ باسم « مدرسة نورمال» ولها المقابل في العربية كما وضعه المعجم التونسي للتعريب التربوي فأطلق عليها مدرسة ترشيح المعلمين. يعني مدرسة النخبة التي لا يُنتسب إليها إلا بعد امتحانات ومسابقة تصفوية . فيما بعد صارت ما يسمى معهد التكوين التكنولوجي تبعا لتغيّر سياسة التكوين والتعليم بالجزائر.
أهّم ما في رواية باب القنطرة إذن هو « المدرسة النورمالية» . وأعتقد أن الكاتبة لم تختر عنوان باب القنطرة إلا لإثارة الدهشة . فماذا يعني عنوان مثل « المدرسة النورمالية»؟ إنه يليق لكتاب تربوي في دائرة المعارف. إنّما في الأدب لابد من « مجاز» . أمّا أنا لو كنت اخترت لجعلت العنوان « السّيّدات» لأنّ نهج السيدات يربط بين المدرستين / مدرسة الطالبات المعلّمات ومدرسة الطلبة الذكور. وكذلك للسبب الذي سيتضّح من تلقاء جماله في نهاية القراءة.
لم يفاجئني نظام المدرسة الداخلي ، فأنا قد عرفته في قصر الصنوبرمع «فلّة والأخت ماري». فوق ما درسته في معهد علم النفس ضمن مقياس مناهج التربية وعلم النفس. وكان الدكتور بوطغان أستاذ المقياس يذكّرني بأن أصل كلّ منهاج تربوي أروبي هو عربي. من باب بضاعتنا ردّت إلينا. فنظام المدرسة النورمالية الفرنسية مأخوذ من صفات المؤدب للقلقشندي والتي أحصاها كما يلي:
للمؤّدِب( المعلم) صفات يجب التحلي بها وهي:
صفات جسمية / حسن القد ووضوح الحسن
صفات عقلية / فطنة العقل ، نظافة الذهن، حدّة الفهم
صفات خلقية : العدل، العفة ، سعة البال.
ظلّت الكاتبة في الرواية تراوح بين حياتها في المدرسة والعودة في آخر الأسبوع إلى بيت العائلة ، بين باب القنطرة وسيدي مبروك ، مستغلة الطريق بينهما للفسحة وتذكرتسكعها في الصغر. لا أظن أن هناك عبرة في سرد حياتها العائلية غير التوضيح بأنها عاشت حياة غير مستقرة بسبب زوجة الأب. لكن الأب الذي هو بدوره معلّم ملأ حياتها بالعناقيد اللذيذة .
تقول الكاتبة : سأباشر في مهمة لست متحمسة لها ولكني أحب التعليم حتى أني لم أفضّل عليه حياة بوهيمية . لطالما حلمت بالفنون الجميلة. ص 240
من محبتها لوالدها وتأثّرها به صارت التربية عادة بالنسبة لها . قد اعتادت على أب معلّم فصارت هي بكلها « تربية». / يقينا ، إن التربية عادة. إلى أبي/ نجية عبير في الإهداء.
هذا النوع من التربية العاطفية الذي هو أرقى من الفن ، هو السبيل إلى الحرية.
ومن أجل أن تصل لهذه الخلاصة عاشت الكاتبة تناقضات عديدة بين:
الأهواء والتقشف في المشاعر/ النظام والفوضى/ الشغف والمعرفة/ الأحلام والسكون/ العبقرية والخيال/ الألم واللذة/
تكمن روعة هذه التناقضات في تحدّي الكاتبة مستوى واقع يعرف الجمال في النجوم اعتبارا بالمثل العربي الذي أخرجته من قاعدته النحوية إلى قاعدة قدميها المعروف بالسؤال : يا أبي ، ما أجملُ السماء؟ نجومُها. لأن مفهوم ذاك الزمان أن النجوم لا تسقط.
لقد سقطت النجوم عند قدميها في المدرسة وهي محبوسة بين جدرانها العالية. وسط زميلات يفقنها استيعابا للمعرفة ففاقتهن بقدميها . لقد عاشت قدماها كما عاش العالم .هي التي لم تكن تتجاوز « فيلا الأمل» ومحيط غابتها هاهي يطوّق خصرها شاب عنابي في رقصة يهيم بها . ثمّ هاهي تتزيّن له وتتسلّل خارج المدرسة أيضا لمخاتلة أنفاسه .
فأيّ عادة يا نجية عبير؟ وكلّ هذا الثقل التربوي مركزه الفن. الفن أن تفكّر في نفسك وتدعو الجميع أن يتمثّل بك. وهكذا دعاك والدك للتمثّل به. بفنه وأسلوبه في الحياة وليس بكونه مربّيا. هو الذي جعل لك في بهو البيت بيانو تعزفين عليه فعشت طفولتك متناسبة مع شخصية الوالد. إذن الفن هو هذه المناظرة التي وضعتها في جملتك/ يقينا ما التربية إلا عادة / إلى أبي. ترمين بالنظام المدرس النورمالي عرض عاطفة تسمح لك بالرقص فرقصت تردّدين أغاني الشغف والعشق .
إن حياة المدرسة النورمالية مثل حياة الراهبات ولا أبهة لهذا المظهر في حياة الجزائرالحرة . حتى أسئلة الامتحانات الترشيحية تشبه أسئلة القس التي كانت توجه للفتيات في الكنيسة.
تقول الكاتبة: بمنأى عن وسطنا تمزّق يمكن لأيّ روح حساسة أن تسمعه ونحن كلنا آذان صاغية . وأنا أشعر بي فسيلة دُسّت في تربية غريبة أجهل تكوينها».
ثم يبدع التعريب ظلالا أخرى،
تأتي للمدرسة أستاذة لغة عربية من لبنان. فتتفاجأ الطالبات المعلمات . لا يفهمن أن تكون عربية مسيحية؟
المهم أنها عربية وعلمن أن الأمر يتعلّق بالتعريب حين أضافت السيدة المديرة فصلا بالعربية من خطابها المعتاد كل دخول مدرسي جديد.
إنه إدخال أوّل نظام تربوي لا علاقة له بالمدرسة النورمالية الفرنسية. فاختفت كل العادات الأولى من احتفال بيوم ميلاد المسيح واحتفالات عيد الفصح ولأوّل مرة منذ دهر المعمّرات الكبيرات يغادرن وتدير لهن المدرسة الجزائرية الجديدة الظهر.
وهكذا لن تكون هناك خضروات للتعميد . قطع خطاب السيدة الحبل السري كما انقطع بين فرنسا المحتلة والجزائر المستقلة.
جاء على حرف الكاتبة: « حقبة جديدة لا تنبئ بالحسن. يقول القدامى»
بينما تتطاول أمنية معليّة: المستقبل لهن، أليس كذلك؟ هنّ المعرّبات ينشدن: نحن السيدات هنا.
فترد المزدوجات « نحن من يربح. بما أننا مزدوجات اللغة . وهكذا نظلّ السيدات إلى الأبد مهما قيل ومهما حدث.
بهذا الأسلوب الصريح تنتهي المدرسة النورمالية وتنتهي رواية باب القنطرة فأتأكّد أن الكاتب لن يترك وراءه إلا مؤلفاته وخيال يوصلنا إليه.