إيناس كبير
خص العلامة عبد الحميد بن باديس النشء باهتمام بالغ، فقد اقترب من مشاغل الجيل الجديد وأصغى لاهتماماته، حيث كان يرى فيه البذرة التي يجب أن تُروى على أرض الجزائر المكافحة وشبابا وجب إعداده لتولي زمام القيادة و استلام مشعل التحرر، لذلك آمن بضرورة شحذ الهمم وتحويلها إلى طاقات إبداعية ورياضية.
رؤية تنويرية حضارية جعلت الشيخ يصنف من أهم الأصوات الفكرية الجزائرية في القرن العشرين، عبر إعادة بناء المجتمع من الناحية النفسية والفكرية، ولم يحصر ذلك في العلم الديني فقط، بل أدرج أيضا وسائل حديثة على غرار الرياضة لتهذيب السلوك وترويض القوة البدنية، وعلى خشبة المسرح شكل ذائقة فنية ذات أبعاد وتوجهات تخدم القضية الجزائرية فكريا وثقافيا، ورأى في ذلك سبيلا لبعث نهضة وطنية تُخرج البلاد من حالة الجمود والركود إلى حالة الحيوية والنشاط.
يا نشء أنت رجاؤنا
وحسب أحمد مريوش أستاذ تاريخ الحركة الوطنية والثورة والتعليم العالي بالمدرسة العليا للأساتذة ببوزريعة، فإن رؤية رجال الإصلاح بمن فيهم الشيخ عبد الحميد بن باديس، ارتكزت على الناشئة والشباب بشكل خاص، ولم تقتصر على جانب التعليم المسجدي فحسب، بل توسع مفهوم النهضة ليشمل وسائل أخرى تمثلت في الحركة الكشفية التي كانت مدرسة موازية للمدارس الحرة، وأتبع محدثنا بأن هذا النشء الذي رأى فيه ابن باديس رجاء الخلاص من الاحتلال لا بد أن يتربى وفق رؤية مبنية على الجانب الديني لكنها حداثية أساسها التنوير، وذات نمط كشفي في مجال تهذيب السلوك اليومي، والانضباط، فضلا عن تعلم القانون.
وقد اعتمد ابن باديس على منهج تجديدي يوضح الأستاذ، ففي نظر الشيخ لا يمكن محاربة الاستعمار في ظل التصورات القديمة، بل لا بد من إيجاد نمط جديد لبناء المجتمع بناء سليما، وأعقب بأن هذا الهدف أساسه التنوع في الوسائل، وبذلك تحولت مدارس جمعية العلماء المسلمين والكشافة الإسلامية إلى مشاتل لرواد الثورة من أمثال الشهيد العربي بن مهيدي، فضلا عن الدعاة ومستشاري الثورة الذين كانوا يتولون تسييرها في مناحي مختلفة.
فهذه الطاقة التي وظفتها فرنسا في الفلاحة وخدمة الأرض فقط، يقول الأستاذ، رأى فيها الشيخ سواعد تبني مستقبل الجزائر، كما كان يعتبر المثقف هو العمود الفقري للمجتمع وبإمكانه الخوض في مجالات أخرى، فكرية و سياسية وثقافية، وهؤلاء هم الذين أسسوا فيما بعد الحركة الطلابية الخاصة بجمعية العلماء المسلمين.
من جانبه، أفاد الدكتور عبد الرزاق قسوم، بأن الباحث في حياة ونشأة وتاريخ الشيخ عبد الحميد بن باديس، يتأكد بأن هذا العالم الجليل كان يملك موهبة شمولية تتمثل في إصلاح كلي وشامل للمجتمع، مع الوعي بما وصلت إليه الأمة من تقهقر لا يمكن تجاوزه والسكوت عنه، مضيفا بأن الشيخ أعد الشباب لإعانته في هذه المهمة لأنه آمن بأنهم الضامن لعملية التنوير والتجديد.
ترويض القوة البدنية لتفجير قوة حقيقية
اهتم الشيخ عبد الحميد بن باديس بهوايات الشباب ودعمها، بحسب الدكتور عبد الرزاق قسوم، كما كشف عن القوة البدنية لديهم وعالجها معالجة حقيقية بحيث أنه فجر طاقاتهم التي سيضعونها في خدمة الجزائر.وقد قال الدكتور، بأن الشيخ كان يقوم برياضة المشي، بينما طلبته من الشباب يلعبون ألعابا مختلفة في مقدمتها كرة القدم وألعاب القوى، وذلك إيمانا منه بأن العقل السليم في الجسم السليم، وهي فكرة ترجمها العلامة إلى أن الجهل والأمية هما ضعف ينبغي إزالتهما بالتعليم، وكذلك القوة البدنية التي تتحول إلى ضعف بدون ممارسة الرياضة، والقضاء على كل مظاهر الضعف لدى الشباب يقول قسوم، سوف يمكنهم من مواجهة الحياة والتصدي للتحديات التي تواجههم.وأورد في هذا السياق، بأن كل الوسائل التي استخدمها في التعليم عقليا كان أو عمليا، تؤكد بأنه كان يحضر طلبته للثورة، وكان يشعل حماسهم من خلال ما يكتبه من أبيات يحثهم فيها على عدم الرضوخ للاحتلال، وأردف الدكتور، بأن أسلوب توظيف النص القرآني أيضا لدى الشيخ كان تعليميا، يصنع من خلاله الوعي وبناء القوة الجسدية والنفسية.
علاقته بمولودية قسنطينة
يقول الدكتور عبد الرزاق قسوم، إن الذين عاشوا مع الشيخ عبد الحميد بن باديس ينقلون بكل أمانة ودقة أنه أول من أطلق اسم «المولودية» على فريق «مولودية قسنطينة»، ويرجع ذلك إلى ظهور اهتمام شعبي بالملاعب وكرة القدم آنذاك، لذلك أراد الشيخ إضفاء طابع إسلامي على هذه اللعبة كرد مضاد على توجه فرنسا نحو الشباب، وبحسب الدكتور فإن أول ما قام به العلامة، هو نسب التسمية إلى مولد النبي صلى عليه وسلم كناية على أنه هو من أحيا الأمة، ثم اعتمدت باقي الفرق الرياضية الاسم حتى تتميز عن الجمعيات التي أنشأها الاحتلال.
وشجع العلامة عبد الحميد بن باديس مولودية قسنطينة ودعمها معنويا، وبقي بعد الشيخ أحمد حماني وفيا ومناصرا لها، وأعقب قسوم، بأن جوهر تأسيس الفريق كان إصلاحيا دعويا، لجذب بقية الشباب إلى الفئة الملتزمة والتأثر بعملها وطبعها فضلا عن مشاركتها المبادئ والوعي.
كما أراد الشيخ وفقا لمحدثنا، أن يبين للشاب الجزائري بأنه ليس فرنسيا بل ذو هوية وشخصية جزائرية، وثقافة وعقيدة وبهذا يكون قد تميز عن الشباب المحتل، وحسبه، فإن الاحتلال حاول عرقلته و كان يرفض وجود كيان منافس يتولى توعية الأمة بواقعها ويعرفها على حقيقتها وينير المستقبل، وعلق الدكتور قائلا: «بل إن أكثر ما أربك فرنسا هو عمل الشيخ الذي كان يضرب في العمق ويتوجه نحو العقول والقلوب والضمائر لكل فئات الأمة أطفالها وشبابها وكهولها».
المسرح وسيلة من وسائل إصلاح المجتمع
واهتم الشيخ عبد الحميد بن باديس بالمسرح أيضا، وفقا لما حدثنا به الدكتور عبد الرزاق قسوم، وقد جاء ذلك استجابة لطموح ومتطلبات الشباب، الذي ظهرت ميولاته آنذاك نحو السينما والتمثيل، فعمل الشيخ على توجيه هذا الاهتمام واستخدمه كوسيلة من وسائل إصلاح المجتمع وتعليمه باعتماد أسلوب التقمص، ولأن جمعية علماء المسلمين كانت ملتزمة بقضية الوطن فقد وظفت ذلك في التمثيل أيضا، ويقول قسوم إن الشيخ كان يقدم للتلاميذ مسرحيات تخدم المجتمع خلال الاحتفالات والمناسبات. وأضاف، بأن طلبته قدموا مسرحية تناولت شخصية الصحابي بلال الحبشي، وقد أُسقطت دلالات مضمونها على مقاومة الاستعباد والظلم، ودفع سبل الراحة لتحمل كل أنواع الشقاء في سبيل الحرية، ويقول محدثنا إن الحضور كان يتفاعل مع المسرحية لأن رسائلها كانت قوية ومؤثرة.
وواصل الدكتور، بأن المعلمين على غرار أحمد حماني و عبد المجيد حيرش و محمد العيد آل خليفة والبشير الإبراهيمي، كانوا يقدمون هذه التمثيليات في العديد من المناطق، يعالجون من خلالها قضايا من واقعهم المعيش، حيث كانوا يكتبون المسرحيات ويمثلها الأطفال والشباب.
وأوضح الدكتور، بأن اقتناع الناس بأهمية النهج الباديسي والأهداف التي يصبو إليها والتضحيات التي قدمها، كل هذا جعلهم يثقون فيما يقوم به ويقتنعون بكلامه، وهذا ما دفعه إلى التفكير في تكوين فرق مسرحية من الفتيات، وأفاد قسوم بأن الشيخ قبل وفاته اتصل بسيدة تملك ثانوية بدمشق واتفق معها أن يرسل إليها فوجا من البنات لتعليمهن، لكن الموت لم يمهله لتحقيق هذا الأمل.
وذكر قسوم، بأن جمعية المزهر القسنطيني، التي تهتم بالتمثيل والموسيقى كانت من بين المشاريع التي أنشأها، وقد سار الشيخ أحمد حوحو على النهج ذاته، وكان يقدم تمثيليات باللغة الشعبية حتى يشرح للناس القضية الجزائرية واحتياجاتها.
وأشار، إلى أن هذه المشاريع والأفكار التنويرية، فتحت جبهات عديدة حارب ضدها عبد الحميد بن باديس، أولها الاحتلال الفرنسي الذي كان يعطل المدارس ويعتقل المعلمين، ويوقف صحف الجمعية، وعقبات أخرى وضعها أمامه من يخالفونه الرأي و عمدوا إلى تشويه سمعته.
مفهوم متعدد الأبعاد والجوانب للنهضة
ولم يكن مفهوم النهضة عند بن باديس، دينيا بحتا بل اتخذ نطاقا أوسع وتناول جوانب ثقافية عديدة فكرية و اقتصادية ودينية، ويقول أستاذ تاريخ الحركة الوطنية والثورة أحمد مريوش، إن الدين لم يكن مجرد طقوس وعبادات بالنسبة له، بقدر ما تعمق في قضايا المجتمع، كما اتخذ الشيخ من المقاهي كذلك منابرا للإصلاح والتعليم وخاض مع أفراد المجتمع في قضايا اجتماعية كثيرة.
وبالنظر إلى هذه التفاعلات المجتمعية المختلفة، لفت مريوش، إلى أن شخصية الإمام كانت منفتحة على العالم الخارجي، فمفهوم النهضة لديه كان متنوع المشارب، حيث أسس جمعية التربية والتعليم للتكوين المهني بمفهومه الحديث اليوم، فاعتنت بمجالات عديدة كالميكانيك والكهرباء فضلا عن اهتمام الشيخ بالجانب الاقتصادي، بإنشاء بعض المشاريع الخيرية.
وأضاف، بأنه كان يبرمج رحلات خلال الاجتماع السنوي للجمعية، تشبه ما يطلق عليه اليوم الخرجات الميدانية، وكانت مُخرجاتها تُنشر في جريدة البصائر بهدف نقل فكر الجمعية إلى الشعب الجزائري في المدينة والريف، وتابع مريوش، بأن الشيخ كان يحتك بالشباب خلال هذه الخرجات ويحدثهم عن المسؤولية التي تنتظرهم ويحفزهم على الوقوف إلى جانب الوطن، وعقب بأن ما نلاحظه اليوم هو امتداد لهذه الأفكار لكن بأطر وفلسفة جديدتين أكثر وضوحا عما كانت عليه في السابق.