ما مدى اِرتباط الجامعة بالفضاء الاِجتماعي وبالواقع الفعلي للمواطن الجزائري، وما مدى أهمية وضرورة إدراك الجميع بمدى أهمية هذا الشريك الحيوي والجوهري «الجامعة» في السياسات والاِستراتيجيات التنموية، خاصةً وأنّها بشكلٍ أو بآخر تعتبر حاضنة للتفكير الاِستراتيجي لمُختلف المقاربات التنموية، وصانعة وداعمة للتصورات السّياسيّة والقانونيّة، والاِقتصاديّة والاِجتماعيّة. وإلى جانب كلّ هذا لها أدوار مفصلية في المجتمع وفي الحياة والفضاءات الاِجتماعية. وليست فقط كما يقول أستاذ العلوم السياسيّة، الدكتور لطفي دهينة «مكانٌا لتلقين العلوم وفضاء للبحث العلمي ومناقشة جديد الأبحاث والدراسات، التي تكون في مجملها نظرية صرفة أو حتّى تطبيقية، لكنّها لا تحوز إلاّ اِهتمام فئة صغيرة من المهتمين والباحثين في هذا المجال». إنّما الجامعة، من المفروض أنها لعبت وتلعب دوماً دوراً محوريًا في المجتمعات وفي نهوضها وإقلاعها الاِقتصادي والاِجتماعي والتنموي الحقيقي، وفي تنشيط الحياة الاِجتماعية والسّياسيّة. والاِنفتاح أكثر على المجتمع والتفاعل معه والمساهمة الفاعلة لتطويره. حول هذا الموضوع «الجامعة والفضاء الاِجتماعي»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد، وفيه قراءات ومقاربات متنوعة، مع مجموعة من الدكاترة والباحثين الأكاديميين المختصين في العلوم السياسية وفلسفة القيم، من مختلف جامعات الوطن.
أعدت الملف: نـوّارة لــحرش
- الأستاذ والباحث إبراهيم بولمكاحل: الجامعة لها قدرات قيادية تؤهلها أن تلعب أدوارا ريادية
يقول الأستاذ والباحث في العلوم السياسية، الدكتور إبراهيم بولمكاحل إنه: «لطالما مثلت العلاقة بين الجامعة -كمؤسسة تعليمية- وبيئتها بشكلٍ عام موضوعًا ذا أهمية بالغة، فالجامعات تقوم بأدوار وتقدم وظائف متعدّدة، سواءً على صعيد تكوين نخب علمية مثقفة مشبعة برصيد مُهم من المعلومات أو من حيث اِكتساب المهارات والقدرات القيادية التي تؤهلها أن تلعب أدوارا ريادية ومتقدمة في خدمة وتوعية مجتمعاتها وعلى أصعدة متعدّدة اِقتصادية كانت، أو إدارية وسوسيو-ثقافيّة وسياسيّة كذلك».
ثمَ أردف قائلاً: «دور الجامعات مهمٌ جداً لجميع القطاعات داخل الدولة والمجتمع. ولكي تستطيع أن تُقَدِم الإضافة وتُساهم في تَقَدُم ورقي المجتمع لابدّ أن تكون مُواكبة لكلّ ما يحدث في بيئتها الخارجية، لذلك نجد أنّ الجامعات في الدول المُتقدمة تعمد إلى بنـاء وتكييف محتوى مقرراتها ومناهجها بِمَا يتماشى مـع متطلـبات المجتمـع بكــلّ مكوناته، حـتّى تـكون مُطلعة ومُلِمة بمتطلباته وتقديم الحلول المُناسبة. وتُعتبر القضايا التقنية والسوسيو-اِقتصادية، وكذلك المرتبطة منها بشؤون التنميّة المُستدامة من أهم القضايا التي تتناولها الجامعات في أبحاثها».
من هذا المُنطلق -حسب الدكتور بولمكاحل- «يُنظر إلى الجامعات، على أنّها مؤسّسات بأدوار رئيسية في عمليات التغيير والتطوّر الاِجتماعي والتنمية. فبالإضافة إلى دورها في خلق وإنشاء العديد من الشركات الناشئة الجديدة وتوفير المواد البحثية والقِوى العاملة ذات المهارات العالية، تُساهم الجامعة في بناء مؤسسات جديدة وفاعلة للمجتمع المدني، وأيضا تطوير قيم ثقافيّة جديدة من شأنها أن تُساعد على تحقيق الأهداف الاِجتماعية والتنموية المُحدّدة لإحداث التحوّل على جميع الأصعدة. ما يُؤدي إلى نشر وزيادة الوعي العام وتوفير الشروط المُناسبة لاِتخاذ قرارات واختيارات عقلانية تُساهم في حل مشكلاتهم وتحسين أوضاعهم».مُضيفاً في ذات النقطة: «لذلك نجد الجامعات في الدول المُتقدمة تحظى وتحتل مكانةً مُتقدمة ضمن أولويات سياسات دولها، بحيثُ تُتاحُ وتُهيَّأُ لها كلّ الشروط والتسهيلات للقيام بأدوارها في التغيير، فسنغافورة كنموذج رائد في هذا الشأن، لعبت الجامعة دوراً محوريًا في نهوضها وإقلاعها الاِقتصادي والاِجتماعي. كما تمّ تسخير الكثير من الإمكانيات بهياكلها ومواردها البشرية لتحقيق أهداف التغيير والتطوّر الاِجتماعي ومتطلباته، وتمّ تبعًا لذلك إدماج مُختلف المشكلات الفعليّة للمجتمع ضمن مُقررات التدريس، بالشكل الّذي كرّسَ مسؤولية الجامعة الأخلاقية والاِجتماعية تُجاه المُجتمع».المُتحدث، أشار إلى نموذج آخر يتمثل في اليابان، حيثُ يتم فيها وضع وتطوير البرامج بشكلٍ يتماشى مع المشكلات المطروحة في محيطها العام، ويتم دوريًا تقديم برامج في ميادين تتصل بتنمية المجتمع والعمل على خدمته.
ومن هنا -كما قال- نجد أنّ الجامعات في الدول المُتقدمة تعمل بشكلٍ مستمر على تغيير أنماط التعليم فيها وتكييفها مع كلّ المستجدات بمختلف أصنافها. في المقابل نجد أنّ للجامعات دوراً ثانويًا إن لم يكن منعدمًا في تنمية وخدمة المجتمع في العديد من دول العالم الثالث.
بحيثُ تُواجه الجامعات -حسب رأيه- عددا من المعوقات والمشكلات البنيوية التي تحول دون تمكنها من القيام بوظائفها بالشكل الكامل، لذلك توجب الاِبتعاد عن بعض الممارسات والتقيّد في المقابل بإجراءات ضرورية لإعادة الفرصة للجامعة للعب دورها الريادي في خدمة مجتمعاتها. ولَخَصَ المُتحدث أهمها في بعض النقاط، منها «توفّر الإرادة السّياسيّة لإشراك الجامعة وضرورة اِنفتاحها على المجتمع وتعزيز تواجدها كطرف فاعل في عمليات التغيير والتطوير والتنمية، أين يتم إشراكها والتنسيق المتواصل معها، وطلب الاِستشارات والدراسات الضرورية في مجالات البحث والتطوير لمختلف قضايا المجتمع ومشاكله وطموحاته».
إضافةً كما قال، إلى «توسيع دائرة التمويل لتشمل مصادر من الخواص والمستثمرين، لتجاوز إشكالية العجز وضُعف الميزانيات المُخصّصة لقطاع التعليم العالي الّذي تواجهه أغلب الجامعات في عالمنا العربي، بحيث يُلاحظ أنّ نسبة المساهمات غير الحكومية ضئيلة جداً، إن لم تكن منعدمة، إذ يبلغ حجم التمويل الرسمي حوالي 80 ٪ من مجموع التمويل المُخصّص للبحوث والتطوير، وهذا ما يُؤدي إلى قِلة معدل الإنتاج العلمي واِنعدام مُحفزاته، وأيضا يقضي بشكلٍ كبير على التنافسية في إعداد البحوث وإفراغها من جدواها وفعّاليّتها في التغيير نتيجة عدم اِرتباطها بسوقٍ يستهدف شراء المعرفة».
وخلص في الأخير، إلى أهمية إعادة مُراجعة محتوى البرامج والمقررات والمناهج بالشكل الّذي يجعلها مُترابطة مع أهداف وأبعاد التنمية الشاملة. ودعم اِقتصاد المعرفة، وإخراجها من النمطية التي تقتصر على التلقين التقليدي وتدوير المـعلومات، وفتح المجال للإبداع والاِبتكار الفردي وتكريس التكوين المقاولاتي. ووضع إجراءات صارمة لتطبيق نظام متابعة تقييمي للبحوث والأعمال المُقدمة ضمن مشاريع البحوث الجماعية. وضرورة تحقيق التوازن بين مجال البحوث النظرية والتطبيقية.
- الأستاذ والباحث لطفي دهينة: المورد البشري الجامعي مُطالب بالاِنفتاح أكثر على مجتمعه
يقول أستاذ العلوم السياسيّة، الدكتور لطفي دهينة: «عادةً يُنظر إلى الجامعة على أنّها مكانٌ لتلقين العلوم وفضاء للبحث العلمي ومناقشة جديد الأبحاث والدراسات، التي تكون في مجملها نظرية صرفة أو حتّى تطبيقية، لكنّها لا تحوز إلاّ اِهتمام فئة صغيرة من المهتمين والباحثين في هذا المجال».
مُضيفاً: «في الحقيقة هذه النظرة قاصرة وتختزل المشهد في جزء صغير من أدوار الجامعة، التي يُفترض أنّ لها أدوار أكبر من ذلك بكثير، بوصفها (عضوا فعّالاً) في بيئتها تُؤثر فيها وتتأثر بها، وتربطها علاقات متينة وأواصر قويّة مع المجتمع بوصفها شريكاً مهماً في تطويره وتنميته».
ومستدركاً واصل بنوع من الاِستطراد: «صحيح أنّ الجامعة اليوم بعيدة عن المأمول بسبب عِدة عوامل تحول بينها وبين أداء دورها على أكمل وجه، سواء في التكوين والتعليم أو في بناء شراكات مجتمعية قويّة تُمكنها من المساهمة بفعّاليّة في تنمية المجتمع وتطويره، ولعلّ من أهم هذه العوامل هي أنّ التعليم بصفة عامة هو منظومة متكاملة تتشاركها عِدة أطراف، وأي خلل في جزء منها يؤدي بالضرورة إلى التأثير سلبًا في بقية الأجزاء، والجامعة تستقبل منتوج المدرسة الجزائرية وتتعامل معه، وبالتالي فإنّ أي حديث عن الإصلاح لا يجب أن يبدأ من الجامعة، بل حتمًا يجب أن يمس المدرسة حتّى يتسم بالفعّالية والجدية، ولا تحدث حالة من الاِنفصام بين حلقات سلسلة التعليم التي تجعل كلّ طرف يسبح في فضاء لوحده، دونما قدرة على التنسيق مع بقية الأطراف لإنجاح العملية، وفي هذا الصدد نسجل أنّ كثيرا من الدول تقوم بإشراك الأساتذة والخُبراء الجامعيين في إعداد المناهج التربوية لمختلف المستويات بدايةً من الاِبتدائي وصولاً إلى الثانوي، وهذا ما يُعزّز علاقة الترابط بين مُختلف الأطوار التعليمية وتكون نتائجه إيجابية ومفيدة».
من جهةٍ أخرى -وحسب ذات المتحدث- «فإنّ اِنكفاء الجامعة على نفسها جعلها غير قادرة على مُواكبة التطوّرات والتفاعل مع المجتمع لتقوم بالدور المنوط بها، بوصفها تضم نخبة المجتمع الذين يمتلكون زمام العلوم، وبإمكانهم -لو تَوَفَّر لهم مناخ جيّد للعمل- تقديم الإضافة اللازمة لتنمية المجتمع، وتزويده بالأفكار والدراسات النظرية لتطبيقها على أرض الواقع والاِستفادة من آخر ما توصل إليه البحث والعِلم».
ليس هذا فقط، إذ يُفترض -كما يُضيف المُتحدث- أن تقود هذه النخبة المُبادرات الفاعلة لتنشيط الحياة الاِجتماعية والسّياسيّة ولِمَ لا تستلم زمام قيادة المجتمع، وعدم الاِكتفاء بدور المُتفرج الّذي ينظر للمجتمع نظرة شفقة أو نظرة اِزدراء نتيجة ما يُعانيه من مشكلات وفشله في تحقيق التنمية.
وهو يرى في ذات السياق، «أنّ المورد البشري الجامعي مُطالب اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى بالتخلص من الفكرة التقليدية، التي تقضي بأنّ وظيفته هي القيام بالعملية التعليمية داخل أسوار الجامعة، والاِنفتاح أكثر على مجتمعه، فهو فردٌ من المجتمع بل هو نخبة هذا المجتمع وتقع على عاتقه مسؤولية قيادته والمساهمة الفاعلة لتطويره، مطالبٌ بالقيام بالعملية التعليمية والخروج بمنتوج الجامعة من أفراد وعلوم إلى المجتمع ليستفيد منها، مطالب بالقيام بالمبادرات البناءة التي تعود بالنفع على المجتمع والمواطن، وهو فوق ذلك مطالبٌ بجعل الجامعة تتجه خارج أسوارها والتنسيق مع مختلف الفعاليات المجتمعية لتقديم الإضافة المرجوة خدمةً لمحيطها، وتُساهم في صياغة الخُطط التنموية المحلية وحتّى السياسات العامة، بفضل ما تتوفّر عليه من متخصصين وخُبراء في مختلف المجالات».
وهنا ذهب إلى تأكيد أنّ نجاح الجامعة فيما هو مطلوبٌ منها مرهونٌ بتوفّر إرادة قوية للنهوض بها وتخليصها مِمَّا تُعانيه من مُشكلات، تتعلق أساسًا باِستقلاليّتها في العمل وتحسين ظروف العاملين بها، حتّى تسمح لهم بالخروج من بوتقة التفكير في الظروف الاِجتماعية التي يعيشونها، وتفتح لهم آفاقاً لتطوير قدراتهم على المساهمة الإيجابية في بيئتهم المحيطة.
مُشيراً في الأخير إلى أنّ هذه الإرادة هي مفتاح إعادة النظر في دور الجامعة، والتعامل معها على أساس كونها منارة للإشعاع العلمي والثقافي، ورائدة للمجتمع من خلال الاِنفتاح عليه والمُساهمة بمختلف المبادرات والدراسات لمعالجة مشكلاته.
- أستاذ التعليم العالي عبد اللطيف بوروبي: الشريك الحقيقي في وضع الخُطط والبرامج التنموية
الأستاذ والباحث الدكتور عبد اللطيف بوروبي، يُؤكد على ضرورة وحتمية إرجاع الدور الأساسي للتكوين في التعليم العالي، أين تكمن أهمية مراكز البحث والمؤسسات التعليمية كشريك حقيقي وجوهري لأي تطور، كما هو الحال لدور الجامعة كدافع لأي سياسات واستراتيجيات تنموية حالية ومستقبلية باِعتبارها أكبر مجتمع مدني في الظرفية الراهنة، فهي حاضنة النُّخب وقاطرة لدفع الإصلاحات إلى الأمام لتحقيق التنمية المُستدامة والحُكم الراشد. إلى جانب كونها الشريك الحقيقي في وضع الخُطط والبرامج التنموية.
وأضاف موضحاً: «تكمن أهمية مُراجعة الفهم والتفسير للعلاقة الجديدة–المُتجدّدة، والدور القيادي للجامعة في أنّها تُمَكِّن النُّخب أو أفراد المجتمع على حدٍ سواء من التحقّق من الأُسس النظرية التي تُعيق دون أن تكون هناك ديناميكية للإصلاحات من منطلق اِقتراح حلول وتقديم بدائل في الواقع الميداني لصانع القرار، ومن خلال أنّ هناك ما يشبه الإلمام أو إحاطة جيدة علمية بالبديل الأمثل».
حيثُ تظهر -كما يقول المتحدث- «أهمية الجامعة كمؤسسة تعليمية مُتعدّدة الاِختصاصات، إنّها فضاء للبحث في السُبل والآليات الكفيلة التي تمكننا من الإقلاع التنموي الحقيقي بعيداً عن أي مُزايدات سياسوية من منطلق الحيادية وعدم الاِنحيازية في تقديم نتائج البحث والمُتعلقة خاصةً بالتنمية المُستدامة والحُكم الراشد، وكيفية تجسيد ذلك في الواقع المُعاش للمواطن الجزائري».
فتعدّد المجالات البحثية الجامعية -حسب رأيه- كفيلٌ بتنوع البحوث ونتائج ذلك أنّها تشمل مختلف المجالات المُشَكِلة للقطاعات المُرتبطة بالواقع التنموي، مِمَّا يُمَكِّنُ من اِقتراح الحلول الموضوعية والقابلة للتطبيق الفعلي في الواقع. وهذا ما يجعل من الجامعة مركز تفكير اِستراتيجي مُتعدّد الاِختصاصات والمجالات يُساعد على بلورة أحسن الاِختيارات وأكثر الاِستراتيجيات العقلانية في بلورتها، والتي لا محالة ستنعكس إن كان التنفيذ والتجسيد في الواقع جيّداً وعقلانيًّا على واقع الأفراد والمجتمع.
وهذا حسب قوله: «ما جعل من ضرورة التفكير الجيّد ومُراجعة الاِختلالات التي حالت دون تفعيل دور المراكز البحثية والمؤسسات الجامعية، كالنسق المعرفي الكلي المُرتبط بالبحث في الجامعة جوهر التحليل لفهم الاِنتقال الديمقراطي يتماشى مع المطالب الداخلية ويُساعد على إيجاد الحلول للمشاكل المطروحة وفي دعم التوجه نحو إنجاح التجارب التنموية».
وتقودنا هذه العلاقة القائمة –حسب المتحدث- على اِعتبارها أكبر مجتمع مدني إلى الربط بين مفاهيم وظواهر لم يكن مُمكنا في السابق ربطها ببعضها البعض مثل التشاركية، والحوكمة، والتنمية المُستدامة والبناء المؤسساتي كوحدة نسقية كاملة، كحل لإشكالية غياب تنمية مستدامة –مثلاً-، وفي فهم وتفسير واقع المجتمع الجزائري. في الأخير -يُؤكد المتحدث- تظهر أهمية مُراجعة منظومة القوانين التي تُسيّر الجامعة من حيث البرامج وطبيعة التكوين ودور الإدارة، بالإضافة إلى ربطها بالواقع الفعلي للمواطن الجزائري من خلال آليات ميدانية لتحقيق التنمية المُستدامة والحُكم الراشد. وضرورة إدراك الجميع بمدى أهمية هذا الشريك «الجامعة» في السياسات والاِستراتيجيات التنموية، بكونها حاضنة للتفكير الاِستراتيجي لمختلف المقاربات التنموية، وكإطار تحليلي مركزي في وضع التصورات السّياسيّة والقانونيّة، والاِقتصاديّة والاِجتماعيّة بأساليب علمية تفيدنا في تحقيق التنمية المُستدامة والحُكم الراشد.
- المحاضر والباحث عبد الرزّاق بلعقروز: الجامعة هي قُمرة قيادة المجتمع
يؤكد المحاضر والباحث الأكاديمي المتخصص في فلسفة القيم، الدكتور عبد الرزّاق بلعقروز: «للجامعة وظائف ثلاث، هي أوّلا، التَّعليم، أي تزويد المتعلم بالمعارف والسُّلوكات التي تُكسبه صفة الإنسانية، وإعانته على تنمية ملكاته الفكرية والعملية، والغرض من التَّعليم هنا، كما يقول اِبن خلدون، ليس هو حشو الأذهان، وإنّما تنمية الملكات، والوظيفة الثانية، هي إنتاج البُحوث والكُتب التي تُلَبي الحاجات البيداغوجية والتحدّيات التي يُواجهها المجتمع، والثالثة، هي خدمة المجتمع...».
ثم أضاف موضحاً: «ومعنى خدمة المُجتمع إمداده بالمشاريع والخُطط وأدوات التَّنمية الفكرية والاِقتصادية والاِجتماعية والأخلاقية، وهذه الوظائف الثلاثة، التعليم وإنتاج البحوث وخدمة المجتمع، مترابطة، فالتعليم هو نقطة الاِنطلاق، وإنتاج البحوث هي العلامة على تحقُّق الدُّربة العلمية والمنهجية، وخدمة المجتمع هي الثَّمرة الواقعية للمعرفة الجامعية».
أمّا عن العلاقة الحالية للجامعة بالمجتمع، فهي -حسب رأيه- أقرب إلى القطيعة منها بالتَّواصل، فالجامعة اِنحصرت في التَّعليم النّظري وباتت أكثر أبحاثها مكرورة لا تقدم إبداعاً جديداً، وبالتالي اِنفصلت عن إشكالات المجتمع وعن مطالبه الحيّة والواقعية، كما أنّ الخرق بينهما يزداد اِتساعًا وبزمنية متصاعدة.
وفي ذات السياق، أضاف بنبرة متذمرة: «الجامعة في جزيرة منفصلة عن تحديات الحياة، وتحديات الحياة غير مؤسسة على مشاريع علمية ومعرفية تلبي مطالب التَّنمية الوطنية في الفكر والثقافة والاِقتصاد. ويبدو أنّ الأسباب الموصلة لهذه الحال مركبة وعديدة منها: اِنغلاق الجامعة الجزائرية على ذاتها، وضآلة تواصلها مع الجامعات الأقوى في العالم. قلة الميزانيات المُخصصة للأبحاث العلمية ولحالة الأستاذ والباحث كذلك الّذي لا يمتلك المؤهلات العلمية لتطوير ذاته علميًا. ودخول مستوى معين من حالة الشَّعبوية إلى فضاء الجامعة، فهي أشبه بالمؤسَّسة التَّعليمية التربوية، وفضاءً لأجل التَّوظيف والمهنة، ولنيل شهادة معينة لأجل الترقية الإدارية والمالية».
وكذا خلو الجامعة -حسب المتحدث- من رؤية معرفية وعلمية واضحة، تعرف نقطة الاِنطلاق ونقطة الوصول، وخُلوها أيضا من مراكز الأبحاث التي تضُم طاقات علمية وفكرية أكثر قوّةً وتميُّزا في العالم، وليست مراكز عبارة عن فُرص عمل لباحث لا يتوفّر على آفاق علمية.
صاحب «روح الثقافة» واصل حديثه في هذا الشأن، قائلاً: «أعتقد أنّه ولأجل تدارك هذه النَّقائص فيما يخص الجامعة الجزائرية، وكي نتحقّق بالجامعة النوعية فإنّه لابدّ لنا من اِعتبار الجامعة هي قُمرة قيادة المجتمع ككلّ، بمعنى أن تستعيد الجامعة والأستاذ الجامعي قوتهما من حيث منزلتهما الاِجتماعية، فالجامعة هي التي تجتمع فيها جهات المجتمع جميعًا، إنّها منبر لقاء العقول والتحاور لأجل تنمية الفكر والقيم الاِجتماعية». مُؤكداً في ذات المعطى، على ضرورة «توفير الميزانيات الكافية لأجل بناء العقل العلمي، وتخصيص الميزانيات هنا، ليس للاِستهلاك فقط، بل لأجل الدخول إلى أسواق العالم المعرفية، فمن لا يخصص ميزانيات كافية لأجل تطوير البحوث ويطالب بجامعة متميزة كمن يطلب من البقرة أن توفّر له الحليب دومًا وهو لا يوفّر لها طعامها».
لذا -يُضيف المتحدث- «نلاحظ أنّ الطاقات الجزائرية الموجودة في الجامعات العالمية، قد توفّرت لها الإمكانات والميزانيات والحريات، والجامعات التي وفّرت لها ذلك هي على يقين بأنّها ستحصل فيما بعد على أضعافها في المعرفة وفي التجارة، ونُلاحظُ أيضا كيف اِرتفعت الأسهم المادية للعُلماء المبتكرين وكيف أصبحت قيمة الدول حاليًا تتعين اِنطلاقًا من قوّتها العلمية ونشاطاتها في الأبحاث والمخابر».
وهنا أردف مؤكداً: «جديرٌ بنا صرف القول إلى الأمر الحاسم لأجل بناء جامعة تفكر وتنتقد وتعلم وتُخَلِّقُ. أن يكون تعليم الإنسانيات هو منبعها في التَّميز والتَّطوير، وليس الغرض هو فقط إضافة ما هو معنوي إلى ما هو مادي، وإنّما تطوير العلوم المادية نفسها، مثل علوم الطبيعة وعلوم الطب وعلوم الاِقتصاد، ودور الإنسانيات هو تعليم العقل أن يفكّر بروح النقد والتطوير والإبداع والتجدُّد، فالاِقتصاد مثلاً الّذي ينحصر في تحقيق الربح مع الوسائل القديمة هو اِقتصاد محدود، لابدّ من أن يتعلم العقل الاِقتصادي ليس فقط الربح والخسارة، وإنّما تكون له قوّة خيال يتجاوز بها الصُّعوبات، وقدرة على النّقد يتحرّر بها من النماذج السائدة، وقوّة إبداع يقوى بها على حل المشكلات».
واختتم بقوله: «إنّ جامعاتنا الفقيرة في العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، فضلاً عن إمكاناتها التي لا تكفيها لأجل الإبداع وخدمة المجتمع، عليها أن تولي الأهمية للعلوم الإنسانية والاِجتماعية، ليس فقط من أجل العدد، وإنّما كي تصبح الإنسانيات هي القضايا المشتركة بين كلّ التخصُّصات، فالإنسانيات هي مفتاح التَّطوير ومفتاح الخروج من الأزمات، فالإنسانيات التي تُعَلِم الأخلاق وتُعَلِم الإبداع وتُعَلِم كيفية تحفيز التَّفكير كي يتجدَّد دومًا، هي سلاح الأمم في منعطفاتها التاريخية الكُبرى نحو البناء والإنجاز، ونحو خلق ثقافة قوية وناجحة».