تفيد التكنولوجيا التراث من جانب المساهمة في انتشاره والتعريف به، لكن هذا التطور فرض أيضا مسايرة التغيرات السريعة في تقنيات المعلومات، والانتقال من المجال التقليدي إلى الرقمي لحمايته ومواجهة تحديات جديدة، فضلا عن تكثيف الرقابة على المنصات الرقمية للوقوف في وجه سرقة هذا الموروث.
إيناس كبير
ولعل أكثر ما يجب الاهتمام به هو انتشار صفحات ومجموعات مجهولة الهوية على مواقع التواصل الاجتماعي، تستهدف التراث الجزائري بالسرقة والسطو، على غرار بعض الألبسة التقليدية والأطباق والحلويات، إلى جانب عادات وتقاليد عُرف بها الجزائريون منذ القدم، وهو ما يستدعي تدخل المشرع لضبط ومراجعة واستحداث آليات رقمية لتعزيز حمايته فضلا عن توثيقه إلكترونيا، وحفظه من الاندثار والزوال.
التكنولوجيا والتراث الثقافي بين الضرر والمنفعة
ويندرج تحت الحماية الرقمية للتراث الثقافي معنيان أساسيان، وفقا لما أوضحته، الأستاذة بكلية الحقوق بجامعة الإخوة منتوري بقسنطينة، حركاتي جميلة، حيث يُعنى الجانب الأول بتحويل التراث المادي واللامادي إلى تراث رقمي للمحافظة عليه من الزوال و توثيقه مخافة اندثاره أو فقدان معالمه بفعل التلف، أما الجانب الثاني فيُعنى بحمايته من الممارسات البشرية غير القانونية، مثل القرصنة والسرقة والنهب ناهيك عن الاتجار غير المشروع، وأكدت على أن هذه الممارسات تعرف انتشارا كبيرا خصوصا في الوقت الحالي.
وأردفت حركاتي، بأن كل ممارسة قام بها الإنسان في الماضي أو استحدثها في العصر الحديث، تعد في مجموعها عادات وتقاليد يجب حمايتها وتعريف الأجيال بها لأنها تشكل جزءا من الهوية الوطنية، ومن جملة الموروثات التي تشملها هذه الحماية، أشارت إلى المخطوطات والصور التاريخية القديمة، و التراث السينمائي و التحف الأثرية، والمعمار كالقلاع و الحدائق و المساجد والقصور، فضلا عن العادات والتقاليد، وحتى الأغاني والقصص الشعبية والمرويات.
ويواجه هذا الموروث خطر التلف بفعل عوامل الزمن والمشاكل البيئية والمناخية والتدمير الناجم عن الحروب التي تؤثر على المواقع الأثرية فتتدهور حالتها، ناهيك عن إهمال هذا التراث وعدم المحافظة عليه، كما تطرح حاليا تحديات أخرى من قبيل السرقة و القرصنة والنهب والاتجار غير المشروع بسبب التوظيف السلبي للتكنولوجيا.
ونبهت حركاتي، إلى أن الجزائر معرضة لهذه الجرائم خصوصا من طرف بعض الدول التي تقوم بسرقة موروثنا ونسبه إليها، باستغلال صور منشورة بطريقة عشوائية أو على مواقع التواصل الاجتماعي، ناهيك عن ممارسات غير قانونية أخرى مثل بناء معالم أثرية تشبه إلى حد كبير المعلم الأصلي والترويج له على أنه تراث معماري خاص بدولة ما.
هكذا نوظف الذكاء الاصطناعي لخدمة التراث
وأكدت أستاذة الحقوق، على أهمية استخدام لغة العصر للحفاظ والتعريف بالتراث، حيث ترى بأنه يجب رقمنة هذا الأخيرة حتى يُنقل بطريقة سليمة إلى الأجيال.وذلك باعتماد تقنيات حديثة كالتصوير ثلاثي الأبعاد، في مجال ترميم المخطوطات والصور التالفة، وتحويل المعالم الأثرية إلى صور ثلاثية الأبعاد، فضلا عن التحف الأثرية.
واعتبرت، بأن الذكاء الاصطناعي يعد حاليا أهم تقنية في هذا المجال خصوصا فيما يتعلق باستعادة بعض الأعمال الفنية والمخطوطات والصور، من خلال تحليل بياناتها و توظيفه في عمليات تصليحها، وتصحيح ألوانها أو الحفاظ على هيئتها العتيقة، وتوضيح معالمها أيضا وتطرقت الأستاذة، للحديث عن التوثيق الرقمي للتراث الشفهي وترجمته وهو ما ترى بأنه يساهم في الترويج له فضلا عن استفادة قطاعي الاقتصاد والسياحة منه، وذكرت استغلاله في إنشاء متاحف افتراضية يزورها كثر من السياح عبر العالم بالاعتماد على مختلف المنصات الرقمية، وقالت إن التكنولوجيا تساهم في التغلب على بعض الظروف التي تبعد الزوار عن المواقع الأثرية مشيرة إلى ما عاشته المتاحف الجزائرية على غرار باقي متاحف العالم خلال جائحة «كورونا»، وكيف سهلت التكنولوجيات الحديثة التعامل مع هذا الوضع، وقالت حركاتي، إن هذا التحول يعد بدوره نوعا من الحماية الرقمية للتراث الثقافي والتعريف بما تحتوي عليه المتاحف من آثار وفنون على نطاق أوسع.
وأضافت بأن هذه التقنية الحديثة تساعد أيضا على حماية التراث الثقافي من المخاطر البيئية، كالتنبؤ بتغيرات المناخ ومراقبته في المواقع الثقافية والتخفيف من آثارها، وذلك بالتدخل في الوقت المناسب لحماية التحف.
تحيين التشريعات لمواكبة مفرزات التكنولوجيا
وأفادت حركاتي، بأن قانون حماية التراث الثقافي ما يزال بحاجة إلى تعديل من أجل التكريس التشريعي للرقمنة مواكبة للتطورات، وأضافت بأنه سيكون هناك تعديل قريب لهذا القانون، خصوصا في ظل الاهتمام كبيرا من طرف السلطات و على رأسها رئيس الجمهورية، ووزيرة الثقافة والفنون، من أجل رقمنة التراث الثقافي الحديث في الفترة الأخيرة، حيث أقيمت مؤخرا دورة تكوينية للقضاة من أجل حماية التراث الثقافي، فضلا عن مساعي الدولة لتسجيل التراث في اليونيسكو، وهو ما تعتبره الأستاذة، خطوة مهمة في مجال الحماية الرقمية للموروث من السرقة والنهب.
من جانب آخر، أكدت المتحدثة، ضرورة التوفيق بين توظيف التكنولوجيا في التعريف بالتراث، وحمايته من أضرارها، وذلك عن طريق النصوص القانونية، وأوضحت بأن التشريع يجب أن يلعب دورا عقابيا محوريا، وعقبت :» لابد من تجريم هذه الأفعال، وانضمام كل دولة إلى الاتفاقيات الدولية التي تنص على حماية التراث الثقافي من هذه السرقات والنهب والقرصنة، مع ترجمة محتوى هذه الاتفاقيات إلى قوانين داخلية تجرم هذه الأفعال، والإسراع في تسجيل التراث في المنظمات الدولية المعنية بحمايته. «
جهود حثيثة
أما عن الإنجازات التي قامت بها وزارة الثقافة في هذا المجال، فذكرت الأستاذة بكلية الحقوق، بجامعة قسنطينة، تطبيق الزيارة الافتراضية للمعلم الأثري «تيمقاد»، الممكن ترجمة محتواه إلى عدة لغات، حيث يتحصل الزائر من خلاله على شرح للمعلم بطريقة أقرب إلى الواقع.
إلى جانب استحداث نموذج مماثل يخص معالم تيبازة الأثرية، و رقمنة الأفلام السينمائية الجزائرية منذ سنة 1962.
كما أشارت حركاتي، إلى تجربة المكتبة الوطنية الجزائرية بالحامة في مجال الرقمنة، والتي بدأت برقمنة الصور والمخطوطات منذ سنوات، مواكبة لكل التطورات التكنولوجية الحاصلة كاقتناء عتاد متطور على غرار الماسحات الضوئية وآلات التصوير، فضلا عن تكوين المورد البشري.
مسؤولية كل الأطراف
ولإنجاح عملية رقمنة التراث الثقافي، لابد من توفر نوعين من الوسائل، وفقا للأستاذة بكلية الحقوق، جامعة الإخوة منتوري قسنطينة 01، حنان بلمرابط، يوجد عتاد الإعلام الآلي الذي يجب أن يكون دقيقا وسريعا في عملية معالجة البيانات، بالإضافة إلى نظم البرمجة، وبرامج معالجة الصور وترميمها، فضلا عن المادة الخام التي تتخذ أشكالا عدة من نصوص مكتوبة، خرائط، مقاطع مصورة، أو تسجيلات صوتية.
وعلى الرغم من أهمية توفر التقنية وتطورها، تعتبر المتحدثة عملية الحماية الرقمية للتراث الثقافي مشروعا متكاملا، يتدخل في إعداده وتنفيذه عدة فاعلين وأطراف متشابكة التخصصات، على غرار الإعلام الآلي، اقتصاد، تاريخ، تراث، وذلك لأجل تخطيط ودراسة مختلف الإجراءات والأدوات اللازمة للرقمنة، والوقوف على مختلف العوائق سواء كانت تقنية، اقتصادية، قانونية، أوسياسية ومحاولة إيجاد حلول لتجاوزها على المستوى العالمي أو العربي.
وعن توعية الأفراد بأهمية التراث، أوضحت بلمرابط، بأن الحديث في هذا الجانب يحيلنا إلى أهمية وسائل التواصل الاجتماعي التي تهتم بنشر التراث الثقافي الجزائري مثل «فايسبوك»، «يوتيوب»، من خلال الاستثمار في الميزات التي تتمتع بها هذه المنصات كسهولة الاستخدام والمرونة، والمحتوى المتنوع الذي توفره، مما يجعل مستخدميها في تفاعل مستمر مع الجهات المهتمة بالتراث سواء كان ماديا أو غير مادي.
كما أوصت الهيئات والمؤسسات المختصة في التراث الثقافي، بضرورة الانتشار على مختلف المنصات للعمل على التعريف به و التوعية بضرورة حمايته والحفاظ عليه.
إ.ك