تتسرب التكنولوجيا ببطء، لتلقي بظلالها على خصوصية المجتمع الجزائري، الذي لطالما عُرف بميزات سوسيوثقافية تصنع اختلافه عن باقي المجتمعات خصوصا في جانب العلاقات الاجتماعية، التي يطبعها التفاعل، لكن تأثيرات التكنولوجيا وتحديدا المنصات التفاعلية بدأت تتسرب إليه تدريجيا، حيث تشتكي أسر من تراجع الحوار داخليا وظهور نوع من العزلة بين أفرادها الذين باتوا يفضلون التفاعل افتراضيا على الحوار الواقعي.
إيناس كبير
إن المتجول في الشوارع يستطيع ملاحظة أن بعض عادات المجتمع الجزائري بدأت تتغير، بينما تغيب أخرى منبئة بالاندثار، ليس لدى الشباب والمراهقين فحسب، بل إن التكنولوجيا استطاعت التفوق على عزيمة فئة من الكهول أيضا.
وعلى سبيل المثال فقد خفتت الأصوات في وسائل النقل، أين كان الأفراد يبدأون صباحا بإلقاء السلام، ثم الاطمئنان على بعضهم، وصولا إلى فتح دردشات حول مواضيع متفرقة بعضها تفريغ للهموم، أو الحديث عن مشاكل اجتماعية وأسرية، بينما يمنح آخرون تركيزهم لصوت المذياع الصباحي، فيتفاعلون مع ما يسمعونه من قصص وأخبار، فتكون بادرة لتشكيل علاقات صداقة، فتنتهي الطريق وقد تحسن المزاج واعتلت الابتسامة المُحيا.
ضجيج المقاهي خف أيضا، بعدما كانت تعتبر مجلسا تقليديا تلتقي فيه مختلف الشرائح العمرية، تناقش كل المواضيع تقريبا من الرياضة إلى السياسة، وهي كلها مظاهر تجعل الحياة داخل المجتمع الجزائري تتميز بالحيوية وتضخ الحياة في أفراده.
أما اليوم، فقد احتلت مواقع التواصل الاجتماعي عادات رقمية جديدة، وانحنت بسبب هذه التأثيرات الرؤوس صوب الهواتف، مانحة الاهتمام لمقاطع «الريلز» و»الفيديوهات القصيرة»، على «فيسبوك» أو «تيك توك»، الأكثر استخداما بين الجزائريين، وبينما كان الفرد يُنوع أحاديثه مع الآخر في مجالات مختلفة، أصبحت الأصابع تتجول من موقع إلى أخر وصار الأفراد يفضلون تقريبا أغلب منصات التواصل الإلكترونية، التي تتشابك فيها العلاقات الافتراضية، عوض وسائل التفاعل والترفيه التقليدية.
هذه هي الخصائص الرقمية التي طبعت المجتمع الجزائري
وفي تشريح للظاهرة قدم الدكتور في الإعلام الآلي، والمختص في الذكاء الاصطناعي، عبد النور بولسنان، إحصائيات تشير إلى أن المجتمع الجزائري وكباقي المجتمعات الأخرى يتبنى التحول الرقمي في عدة قطاعات، إذ حققت البلاد حسبه، تقدما كبيرا في مجال البنية التحتية الرقمية، خصوصا ما تعلق بالاتصال عبر الهواتف المحمولة.
ويقول المختص، إنه ووفقا لموقع “دايتا ريبورتر” نجد حوالي 50.65 مليون هاتف خلوي متصل بالإنترنت، وهو أكبرمن عدد السكان المتراوح بين 46 مليون نسمة، بمعنى وجود زيادة بنسبة 10 % من الناس المتصلين بالإنترنت، وهذا راجع لاتصال شخص واحد بعدة شبكات، أما عن عدد الجزائريين المتصلين بخدمات الإنترنت فيصل إلى حوالي 33.50 مليون نسمة، مقارنة بسنة 2014 حيث كان الرقم 11.3 مليون جزائري، وقد اعتبرها بولسنان، طفرة كبيرة خصوصا في السنوات الأخيرة، مرجعا ذلك إلى تطور الشبكة خصوصا التحول نحو الألياف البصرية التي ساعدت على تضاعف العدد، ويؤكد أن حتى الفروقات بين المناطق الريفية والحضرية في هذا الجانب أصبحت بسيطة، فالتغطيات تتزايد كل يوم وتتطور.
وقد تغيرت التعاملات أيضا داخل المجتمع الجزائري حسبه، وذكر المتحدث أن ذلك يتضح في الخدمات الحكومية الذكية، مثل استخراج الأوراق الرسمية إلكترونيا، وأيضا التعاملات المصرفية والبنكية، وكذا في التعليم، حيث أن معظم المدارس خصوصا في الطور الابتدائي أصبحت تعتمد على منصات التعلم الإلكترونية، وهذا الشيء يعكس، وفقا له، انتشار الاعتماد على الحلول الرقمية، منوها إلى أن هذه الأرقام قابلة للتطور.
وعن الخصائص الجديدة التي أصبحت واضحة في المجتمع الجزائري، أشار المختص في الذكاء الاصطناعي، إلى أنه وبحسب موقع «دايتا ريبورتر» فإننا نجد حوالي 54 بالمائة من الجزائريين أي حوالي 24.85 مليون نسمة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا يعطي دفعة كبيرة حسبه، في جانب الاتصال الفوري أين يكون الاتصال أكثر ليونة بين أفراد العائلة وحتى الأصدقاء، باستخدام منصات مثل «فيسبوك»، «واتس آب» و»إنستغرام».
وتتغير عادات الأفراد بفعل هذا التواجد في الفضاء الرقمي، يُتبع المتحدث، حيث أصبح الجزائري يطرح انشغالات في شتى المجالات مضيفا، بأن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت تعرف حركية كبيرة وبالأخص من طرف الشباب الذين اختاروها لإدارة وتسيير مشاريعهم الخاصة ومؤسساتهم، حيث يتجهون إليها للترويج لسلعهم المختلفة، كما زاد الاعتماد على شركات النقل والتوزيع المنتشرة تقريبا في أغلب المدن وفقا له، وذلك بفعل التجارة الإلكترونية.
والجزائري أصبح يناقش أيضا آراء سياسية خصوصا القضايا الرئيسية سواء وطنية أو دولية كما يقول الدكتور في الإعلام الآلي، مذكرا بالتفاعل الكبير مع القضية الفلسطينية بعد أحداث طوفان الأقصى ومجازر غزة كما أن آراء هذا المستخدم أصبحت جد واضحة.
البيانات أغلى من الذهب
ورغم التطور الرهيب الحاصل، إلا أنه يرى بأن الأمر أصبح جد حساس، خصوصا لدى المجتمع الجزائري الذي يعد مجتمعا محافظا عموما مقارنة بمجتمعات مجاورة، وربط ذلك بالاستخدام الخاطئ من طرف الأغلبية لوسائط الاتصال الحديثة، وعلق بولسنان قائلا:»يظن البعض أنهم وحيدون في العالم الافتراضي، دون وعي بأنهم يشاركون معلوماتهم مع أطراف أخرى»، متحدثا عن خطورة هذا الأمر على الخصوصية الفردية وكذا المجتمعية، موضحا أن فيروسا صغيرا يمكن أن يُحدث خللا في أنظمة حفظ البيانات فيجعل صور المستخدم تصل إلى شخص آخر، وكذلك الرسائل التي يمكن فضحها للعلن. وقال المختص في الذكاء الاصطناعي، إننا نعيش اليوم حاضرا تعد البيانات فيه أغلى من الذهب، وهي ذات قيمة كبيرة للكثير من الشركات وكشف، أن هذه الجهات يمكن أن تستخدمها بشكل مدمر لضرب العلاقات الاجتماعية، خصوصا داخل الدول التي تملك أصلا وفرعا واضحا وتملك هذا النوع من الحفاظ على خصوصيتها وهويتها الثقافية.
وينعكس ذلك وفقا لما ذكره، في أن المجتمع الذي كان ملتزما على سبيل المثال بعادات وأشياء تميزه مثل اللباس التقليدي، عادات وتقاليد يمكن أن يتأثر بثقافات أخرى تزيحها وتحل بدلها أخرى، مثل الدعوة إلى تغيير عادات الأكل والتحول إلى مجتمعات نباتية.
التهديد مضاعف لدى الأطفال والمراهقين
ومقارنة بما كان عليه المجتمع الجزائري سابقا، يوضح الدكتور في الإعلام الآلي، والمختص في الذكاء الاصطناعي عبد النور بولسنان، أن أمورا كثيرة تغيرت، وعلق قائلا :»سابقا كنا نسمع صخب الأطفال أسفل العمارات يمارسون ألعابا محلية، الآن يجلسون كلهم في جماعات مرتبطين بهواتفهم يمارسون ألعابا إلكترونية مثل بابجي و فري فاير»،
ويضيف المتحدث، أن التفاعلات داخل المنازل أيضا تراجعت بشكل كبير، وهذا التأثير حسبه، ستكون له تبعات مستقبلا خصوصا إذا تحدثنا عن الإدمان الإلكتروني الذي يعاني منه أغلب المستخدمين في الوقت الحالي، ويقول المختص:»أصبح الفرد يستخدم هاتفه في كل وقت قبل النوم وبعده، وحتى بين ساعات النوم، وكأنه حامل لشريحة تعطي معلومات عنه في كل وقت».
كما عرج للحديث عن التطور الذي تعرف النماذج اللغوية الكبيرة، مثل «شات جي بي تي»، وأفاد أن المستقبل القريب سيشهد توفرها بقوة، فضلا عن تطورها أين ستتحدث مع الناس بشكل عادي وكأن المستخدم يخاطب كائنا حيا، كما يمكن لها ممازحته أيضا وفقا للنسبة التي يريدها الإنسان أي أن مفهوم التسلية والمشاركين فيها سيتغير.
وهو ما اعتبره المختص في الذكاء الاصطناعي بالأمر الخطير، الذي يتطلب حماية المجتمعات خصوصا الأطفال الذي يشكلون عصب هذا المستقبل الجديد، بداية من المدارس، وبحسبه يجب توفير محتويات تعليمية توعوية تتحدث عن التكنولوجيا وأخلاقيات استخدامها، حتى يكون لهم نموا صحيحا خصوصا في جانب الحفاظ على البيانات وسلامة العلاقات الاجتماعية.
فعل التواصل في المجتمع الجزائري كان يصب في قالب إنساني
يصف الأستاذ بكلية علوم الإعلام والاتصال، والدكتور في علم الاجتماع عبد الله دراع، المجتمع الجزائري، بأنه تميز على الدوام بسمات سوسيوثقافية جعلته يختلف تقريبا عن كل المجتمعات الإسلامية العربية، مشيرا إلى أن من أبرز هذه السمات هي متانة العلاقات الاجتماعية، وانتشار مظاهر التعاون والتكافل والتضامن.
أما عن أكثر صفة يختص بها المجتمع، فهي إجادته لفعل التواصل المبني على الاهتمام بالآخر باستخدام لغة تعبيرية متنوعة، وهذا التفاعل متجسد وفقا له، في الحياة العامة بين كل أفراده وشتى طبقاته، وأتبع دراع بأنها ثقافة متجذرة ورثتها الأجيال عن بعضها، وتعد مظهرا من مظاهر الاهتمام بالآخر من خلال محاولة الاطمئنان على حالته، وتقديم المساعدة إن أمكن.
يضيف المختص في علم الاجتماع، أن الجزائريين يشتهرون أيضا، بتحية السلام المقرونة بالابتسامة، والاطمئنان على الوضع الصحي والاجتماعي والعائلي و المالي للآخر، فتكون هذه التحية حسبه، مطبوعة بالتضامن وروح الأخوة.
وقد استمرت هذه الصفات يقول المتحدث، إلى غاية ظهور التحولات التكنولوجية التي مست البنية الثقافية للأفراد ناهيك عن هوية المجتمع ولفت الأستاذ بكلية علوم الاعلام والاتصال، إلى أن وسائل التواصل الحديثة وسعت الهوة في جانب الالتقاء المجتمعي، وعلق قائلا :»أصبحنا نتواصل ونسأل عن بعضنا عن بعد» وأردف، بأن هذا التفاعل الجديد أفقد المجتمع الجزائري بعض العادات مثل تبادل الزيارات في كل المناسبات تقريبا، وتفرقت الأجساد بالرغم من محافظتها على الترابط العاطفي.
قصص مواقع التواصل تطغى على أحاديث أفراد المجتمع
وقال دراع، إن المجتمع أصبح رهينة للعالم الافتراضي، ومن بين المظاهر التي فرضها إدمان التواجد على الفضاء الإلكتروني وبالخصوص موقع «فيسبوك» الذي حول المستخدم إلى مستهلك، تغير الاهتمامات بالمواضيع التي يتابعها، وأرجع الدكتور ذلك إلى تغير الانشغالات تِبعا لمدى التأثر خصوصا في جانب الابتعاد عن الواقع.
مضيفا، بأن القضايا التي أصبحت تطغى على أحاديث مختلف الفئات العمرية وحتى المثقفة، هي التي تُثار على مواقع التواصل الاجتماعي بصفة عامة و»فيسبوك» بصفة خاصة.
وأوضح المتحدث، بأن بعض المحتويات الإلكترونية تسطح العقل والعلاقات والاهتمامات، وهي غير بناءة كما تصيب المشاعر بتبلد، وتبعد الأفراد عن ملاحظة الظواهر الحقيقية التي تفيد المجتمع، والتي ينبغي إيجاد حلول لها، إلى جانب تحول المغريات التي تقدمها إلى تسويق لمنتجات تكنولوجية لا تتكامل مع الأسرة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية التقليدية في تربية الجيل الجديد وتشكيل هويته، وفي هذا الخصوص أفاد قائلا :»أصبحنا نلمس تحولات ثقافية في الهوية المجتمعية لهذا الجيل، وهي تختلف من حيث التكوين الثقافي و الذهني النفسي عن الأجيال التي تربت على يد مؤسسات التنشئة التقليدية مثل المساجد والمدارس، والتي تمثل في الأساس نتاج ثقافة وهوية المجتمع».
ويرى الأستاذ بكلية علوم الاعلام والاتصال، والمختص في علم الاجتماع عبد الله دراع، بأن المجتمعات اليوم تقف أمام تحد كبير من أجل الحفاظ على هويتها وخصوصيتها الثقافية ونقلها إلى الأجيال القادمة، ورغم التيار الجارف للتكنولوجيا والتأثر الملموس بها، أكد أن مؤسسات التربية لم تستسلم وستبقى تقوم بواجبها.