أثار التهافت على جلسة بيع بالتوقيع للكاتب السعودي أسامة المسلم، خلال فعاليات معرض الكتاب، زوبعة كبيرة أثارت الدهشة لدى قطاع هام من الكتاب والإعلاميين والنقاد و جمهور المثقفين والمتابعين في الجزائر، فأمواج الرأي تتلاطم منذ يومين أو أكثر، بين مستغرب كان إلى الأمس يعتقد أن الشباب لا يقرأ أصلا، وبين من استهجن فكرة أن يفضل القراء الشباب الفنتازيا وقصص الجن والخوارق، على الأدب «الحقيقي»، دون أن ينظر أحد إلى أفق الواقع ليرى عمق الهوة بين جيلين أحدهما «متصل»، يحصل على الأدب عن طريق الخوارزميات ومنصات التحميل و التسويق الإلكترونية، التي تنحت ملامح قارئ مختلف وتصنع شهرة كاتب قد لا يعدو ما يقدمه وجبة أدبية تجارية سريعة الاستهلاك.
نور الهدى طابي
هوية رقمية تحقق النجومية
حادثة الكاتب السعودي التي أثارت ضجة هذه السنة في صالون الجزائر الدولي للكتاب، ليست الأولى من نوعها، فقد سبق لمستخدمي الشبكات التواصلية وتحديدا فيسبوك المنصة الأكثر تفاعلا في الجزائر، أن تعاملوا بنفس الدهشة مع شهرة الكاتب الشاب عبد الرزاق طواهرية، الذي صنع اسمه «ترند» طبعة سابقة من طبعات المعرض، ورغم ما أثير حول كتاباته من جلبة آنية، إلا أن الأصوات خفتت سريعا وانتقل اهتمام الفيسبوكيين إلى حدث آخر، دون التعمق في السؤال حول التوجهات القرائية للجيل « زاد»؟ وظاهرة أدب الفنتازيا المتصاعد مده؟ ولا كيف يختار هؤلاء القراء العناوين؟ وما الذي يصنع النجوم من الكتاب؟ وهل غيرت تطبيقات الرقمنة مجرى الإبداع؟ وما هي مقاييس النجومية الأدبية؟ وغيرها من الأسئلة.
صدمة المثقف الجزائري تكررت مجددا، عندما سرقت الكاتبة الجزائرية الشابة «سارة ريفنس» صاحبة 24 سنة، الأضواء في فرنسا وأحدثت زلزالا في عالم الأدب بحجم مبيعات كتابها « الرهينة»، الذي يندرج ضمن خانة الأدب المظلم، والذي بيعت منه 350ألف نسخة في فرنسا وحدها، إذ فوجئ الجميع بالشهرة الكبيرة التي حققتها الشابة و بالنجاح الساحق لأعمالها، وحجم الجماهيرية التي تحظى بها بين القراء الشباب في الداخل وفي أوروبا، لدرجة أن الصحافة الفرنسية لقبتها سنة 2023 بـ «الظاهرة».
تتقاطع سارة ريفنس مع عبد الرزاق طواهرية، و أسامة المسلم، في نقطة واحدة هي الهوية الرقمية التي اشتغل عليها هؤلاء وسمحت لهم بالانتقال من العالم الافتراضي إلى النجومية، فطواهرية مثلا يحصي 51 ألف متابع على فيسبوك مع نسبة تفاعلية كبيرة مع متابعيه.
أما أسامة المسلم، فيعتمد على استراتيجية تسويق رقمية ترتكز بالأساس على توظيف خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي للترويج لأعماله من خلال قراءة مقاطع منها وتسجيلها على شكل « ريلز» لإنستغرام أو « شورتس»، لتيك توك، فضلا عن البث المباشر، زيادة على التواجد بقوة على المكتبات الإلكترونية، وإن لم يكن كاتبا معروفا بالنسبة لمن سمعوا اسمه أول مرة خلال معرض الجزائر الدولي للكتاب، فإن الواقع يثبت شهرته الكبيرة بين فئات من القراء الشباب العرب، إذ سبق أن سجلت لقاءاته في معارض عربية نفس التدافع و الضجة.
سارة ريفانس، من جهتها بدأت مسيرتها الأدبية عبرة مدونة إلكترونية خاصة، و قد سبق لها أن كشفت عن الأمر في حوار أجرته معها مكتبة «مولا» في مدينة بوردو بجنوب غرب فرنسا، حيث صرحت الشابة الجزائرية أنها «تحب كثيرا قصص الرومانسية السوداء كون وقائعها تدور في أجواء مظلمة بحضور شخصيات مضطربة تشكو من الاكتئاب».
وتابعت: «في البداية كنت أكتب لمنصة رقمية ولم تكن لدي علاقة مباشرة مع القراء ولا أراهم. لكن بعدما بدأت بجلسات التوقيع في المكتبات ودور النشر، تفاجأت بالعدد الكبير من الناس الذين يطلبون توقيعي».
وفي حوار آخر لها، نشره المتجر الفرنسي «فناك»، أضافت سارة ريفنس قائلة: «لم أكن أتوقع تحقيق مثل هذا النجاح، فضاء قصة «الرهينة» كان بمثابة ملجأ للعديد من الناس خلال شهور عدة، الأمر الذي جعلني أتعرف على قراء جدد وألتقي بهم»، منوهة أن «مواقع التواصل الاجتماعي وبالخصوص موقع «تيك توك»، لعبت دورا محوريا في ترويج القصص التي كتبتها وجلب قراء جدد خصوصا بعد نهاية الحجر الصحي».
تيلجرام و المدونات الإلكترونية بوصلة جيل التقنية
ريفانس، كانت قد أشارت في الحوار الذي يعود لتاريخ 12 نوفمبر 2022، إلى أنها بدأت النشر أول مرة على مدونة إلكترونية وأنها حققت الانتشار في غضون أشهر، وكان ذلك تحديدا في فترة الحجر الصحي التي فرضتها الجائحة، إذ زاد استهلاك الناس للإنترنت و تغولت مواقع التواصل و المنصات الإلكترونية بشكل التهم جزءا كبيرا من الحياة الواقعية للأفراد بما في ذلك علاقتهم بالكتاب الورقي.
وتعتبر المدونات الإلكترونية « بلوغ»، منصات مهمة للشباب اليوم وتحديدا لجيل التقنية أو الجيل « زاد» الذي يحدد الديمغرافيون فترة ميلاد أبنائه بين منتصف التسعينيات وحتى منتصف العقد الأول من القرن 21، ويقال إن أفراده لا يشعرون بأي تمييز ملموس بين حياتهم المادية أو الرقمية.
وتتمثل هذه المدونات المتاحة على « وات باتد» في كونها مواقع مفتوحة للنشر الحر، يمكن لأي شخص أن ينشر عليها ما يريد، كالسؤال عن كتاب أو اقتراح آخر أو حتى الكتابة والنشر، وأيضا تداول ملخصات للكتب والروايات، حيث تتوفر بشكل مقروء أو مسموع أو مرئي، وهو ما يجعلها مادة كثيرة الاستهلاك نظرا للسرعة في التلقي التي تضمنها لمتصفحيها وهم كثر.
ومن بين أشهر المدونات الثقافية في الجزائر مدونة « قرأت لك» التي تسجل أكثر من 21 ألف مشترك، و تقترح عليهم كتبا وملخصات للقراءة والتحميل في عديد المجالات، هناك أيضا مدونات عربية شهيرة مثل مدونة «قراء»، إلى جانب أخرى باللغتين الفرنسية والإنجليزية تعود لشباب وشابات يمارسون الكتابة الأدبية.
تأتي المكتبات الإلكترونية في مرتبة متقدمة جدا كذلك، من حيث تحديد التوجهات القرائية لهذا الجيل، وذلك لتوفرها على نسخ مجانية قابلة للتحميل قد تكون مكلفة أو غير متوفرة في المكتبات الحقيقية، وعلى سبيل المثال سجلت مكتبة « فلة بوك» العربية أكثر من 80 مليون تحميل لرواية الفنتازيا « أرض زيكولا»، مقابل 44 مليون تحميل لرواية الفنتازيا و الخيال « أنتيخريستوس» للكاتب أحمد خالد مصطفى، الذي يعد الأشهر بين شباب الجيل زاد.
عالم آخر، يعيشه هذا الجيل على موقع تيلجرام، الذي يوفر قاعدة تحميل ضخمة للعديد من الأعمال الأدبية الجديدة والكلاسيكيات أيضا، ويعتبر الموقع الأكثر استخداما بين طلبة الجامعات، ومن بين أشهر المدونات التي يقترحها تيلجرام على مستخدميه « روائع من الأدب العربي»، و مدونة «إقتباسات وروايات» التي تحصي 700ألف متابع، ويصل معدل التحميلات عبرها إلى 10 ملايين نسخة لبعض العناوين.
مواقع التواصل سوق الكتاب الجديدة
وتعتبر خاصية التشبيك أكثر ما يميز المواقع التفاعلية، التي يعتمد عليها الكتاب الجدد بشكل كبير في عملية التسويق لأعمالهم، فهؤلاء يتواجدون بشكل كبير على المنصات ويتفاعلون بصورة مباشرة مع متابعيهم من القراء، وتعتمد استراتيجية التسويق عموما على « الجرعات» و « التحديات»، و»الاقتباسات» لتوسيع دائرة التشبيك و اكتساب عدد أكبر من المتابعين، فيحقق الكاتب بذلك الانتشار كمرحلة أولى، قبل الانتقال إلى الواقع للقاء قرائه ومتابعيه.
وتقوم عملية الترويج عبر الجرعات، على نشر مقاطع من الرواية أو العمل ومشاركتها وتداولها بكثرة عبر شبكة المتابعين والمشتركين في حساب أو قناة الكاتب، أو على مدونة إلكترونية معينة، أما التحديات فيطلقها الكتاب ويشارك فيها متابعوهم بقوة « مثل تحدي قراءة رواية في ساعة واحدة، أو عشر روايات في أسبوع» وهكذا.
يتداول الكتاب كذلك، اقتباسات من كتبهم على مواقع التواصل، إما عبر تسجيلات صوتية أو كنصوص صغيرة مرفقة بصورة.
ويعتمد بعض الكتاب على فريق كامل لتسيير حساباتهم على المنصات التفاعلية مع استخدام الهاشتاغ وتتبع الترند بشكل مستمر، وأيضا الرد على التعليقات و التفاعل معها، بهذا تكون عملية الترويج للكاتب والكتاب معا قد تمت قبل نزولهما إلى المكتبات ووصولهما إلى المعارض.
لماذا الفنتازيا و الأدب المظلم
عندما كانت الكاتبة البريطانية جى كى رولينج، على متن القطار المتجه من مانشيستر إلى لندن، خطرت ببالها فكرة رواية مختلفة جمعت خيوطها بسرعة وفي 30 جوان 1997 أطلقت أول جزء منها « هاري بوتر وحجر الفلاسفة»، ترجمت الرواية إلى 80 لغة، وبيع منها إلى الآن 500 مليون نسخة حول العالم، لتصبح قصة الساحر الصغير الأكثر مبيعا في التاريخ، متقدمة على كلاسيكيات الأدب العالمي.
في تلك السنة فتحت جي ي رولينغ، شهية الشباب على أدب الفنتازيا الذي استحوذ لاحقا على اهتمام الكتاب أيضا، خصوصا بعدما عادت إلى رفوف المكتبات ملاحم خيالية أخرى، على غرار روايتي «الهوبت» و»سيد الخواتم»، للبريطاني جون رونالد تولكين، والتي بعثتهما السينما من جديد رغم أنهما كتبتا في الأصل بين 1937 و1947.
عربيا احتلت روايتا «أرض زيكولا» بكل أجزائها لعمرو عبد الحميد، و»أنتيخريستوس»، و»يوتوبيا « لأحمد خالد مصطفى، إضافة إلى رواية « الفيل الأزرق»، لأحمد مراد و» خوف» لأسامة المسلم، رفوف المكتبات الواقعية والإلكترونية بين 2008 إلى غاية 2024، وصنعت الحدث على مواقع التواصل الاجتماعي، ويرتبط الاهتمام الكبير بهذه الأعمال حسب بعض القراء الذين سألناهم، بتأثير السينما، فحتى وإن تجاهلها جمهور المثقفين، فإن السينما حققت لها الاعتراف و ساهم كثيرا في ذلك التأثير القوي الذي تتركه قصص «الجن والسحر والماسونية و الخوارق والماورائيات والظلام» على نفسية هذا الجيل، بدليل أن الغالبية التي شاهدت أفلام ومسلسلات مثل « صراع العروش» و» توايلايت»، عادت لتحميل الروايات الأصلية، لأجل فهم بعض الأحداث التي أسقطتها الكاميرا.
تأتي هذه المعطيات وأخرى، لتفسر الانتشار الكبير لكتاب الفنتازيا الذين يظهرون فجأة في المعارض الكبرى ليثيروا الدهشة، رغم أن هناك من يرى أن جماهريتهم الطاغية الكفيلة بإثارة الفوضى في أماكن تواجدهم، ليست سوى تجمعا لمراهقين لا يشكلون وزنا ثقافيا.
هروب إلى عوالم أخرى وبحث عن الأجوبة
سألنا قراء شباب عن سر اهتمامهم بهذا اللون الأدبي و أبحرنا عبر بعض المدونات للبحث عن أجوبة حول الموضوع، فكانت الردود متقاربة تصب في معظمها في نفس القالب هو الهروب إلى عوالم أخرى.
قالت إيمان طالبة جامعية بكلية الإعلام ولاتصال بقسنطينة « أقرأ لأسامة المسلم و أحمد خالد مصطفى و عمرو عبد الحميد، وقد اكتشفتهم عبر منصات التواصل الاجتماعي أين وقعت على الكثير من التعليقات والمنشورات حول رواياتهم، ولا أخفيكم أني اكتشفت عالما عجيبا، يجعلني أهرب إليه من واقعي أحيانا، لأن الفضول والحماس في الروايات من هذا النوع يوقفان تفكيري للحظة».
أشرف، تلميذ في الطور الثانوي، اعتبر أن هذا النوع من الأدب يصنع الأحلام ويمنح القدرة على التخيل، وقال إنه يستلهم من شخصيات الروايات ويستقي منها القوة لأن عالمها يشبه عالمه المليء بالتساؤلات.
أما سارة ناشطة على منصة « قراء» العربية، فأوضحت « هناك تشويق كبير و حقائق تتكشف عن عالم الجنة وعن الماسونية وأذرعها، هناك نهايات غير متوقعة و تدفق مستمر للأدرينالين».