يعتقدُ الكاتب والباحث خالد ساحلي، أنّ فكرة المُواطنة اِنتقلت إلى مستوى آخر يتم الاِشتغال فيه على مُواطنة رقمية مُختلفة في عصر الذكاء الاِصطناعي، إذ لم يعد هناك اِلتباس في مفهوم المُواطنة كتعريف. مُشيراً إلى أنّ المُجتمع الواقعي أصبح يُوازيه واقع اِفتراضي يُؤثر عليه، وبذلك اِتجه النّاس إلى العالم الرقمي للمُشاركة فيه لأنّه حتميّة. كما صار -حسب رأيه- من الأهمية التدرب على المواطنة الرقميّة بشكلٍ جيد، لأجل المُشاركة الفاعلة والتحلي بقدرٍ كبير من المسؤولية، مع اِكتساب القدرة على إنتاج الفِعل والفكرة معًا لتأكيد الإيجابية في هذا العالم الرقمي.
حوار: نـوّارة لـحـرش
للإشارة خالد ساحلي، كاتب وباحث وناشط جمعوي، صدرت له، ثلاث مجموعات قصصيّة عن دار ميم للنشر، هي على التوالي: «لوحات واشية» عام 2008، «الحكاية الزائدة عن الليلة الألف» عام 2009، «جحيم تحت الثياب» 2014. وله رواية بعنوان «الغرق». كما صدرت له مجموعة كُتب في الفلسفة والمُواطنة، منها: «الكتابة والوجود» عام 2012، «فلسفة المعيشي واليومي»، «المجتمع المدني: من التأسيس الغربي المأمول إلى الواقع العربي المأزوم»، إلى جانب إصداره الأخير «في المواطنة»، وهو محوّر هذا الحوار.
كِتابك الأخير «في المواطنة»، فيه دراسات تتقاطع حولها وبشأنها الكثير من الآراء والمفاهيم والتصورات التي تصبُ في موضوعة المواطنة. كيف تقرأ أو كيف تُقارب مفهوم المُواطنة في مُمارساتها الاِجتماعية والإنسانية ومُعايشتها وتحدياتها؟
- خالد ساحلي: من باب الواقعية كتابنا ناقش أزمة المُواطنة في الدول العربية الحديثة إجمالاً، كون المُواطنة علاقة تعاقدية بين المواطن والمجتمع والدولة، فالتفاعل ضعيف وغير مُثمر أثناء أداء القيم لأجل ترسيخها لتكون في خدمة الوطن، ففي ظل الأزمات الراهنة، وخذلان بعض الحكومات لشعوبها وبخاصة في الحرب الأخيرة على غزة ولبنان والخذلان الرسمي لقضية فلسطين، والتحوّل في سياسات بعض الدول التي رهنت وجودها جراء اِنتهاجها سياسة التبعية والرضوخ والتنازل عن قيمها في مقابل اِستيرادها لثقافة غربية دخيلة على شعوبها، فحدث أن صار هناك بديل عند الشعوب في المُقابل، وهو اِنتماء جديد وانخراط هذه الشعوب في العالم الرقمي ومساندتها للقضايا العادلة في العالم حيثُ نابت عن حكوماتها المتخاذلة وأصبح المُواطن الرقمي يُدين لمواطنة عالمية، ويُشارك هيئات وتجمعات عابرة للقارات من أجل الوقوف ونصرة المستضعفين والمظلومين ودولاً تتعرض للعدوان والاِحتلال.
بلا شك واجهت المُواطنة عقبات منها ما هو مُتعلق بضُعف أساليب التنشئة الاِجتماعية؛ والتي هي عملية يتم بها تشكيل الأفراد منذ طفولتهم حتى يُمكنهم المعيشة في مجتمع ذي ثقافة معينة، ويدخل في ذلك ما يُلقنه الآباء والمدرسة والمجتمع لأفراد من لغة ودين وتقاليد وقيم ومعلومات إلخ... وعقبة عمليات نشر المعرفة التي تُعيد إنتاج القيم السّياسيّة والاِجتماعيّة التي تُعيق بناء المُواطنة بمفهومها المُعاصر، حيثُ تُؤثر أساليب التسلط والحماية الزائدة بصورة سلبية على نمو الاِستقلالية والثقة بالنفس، علاوةً على زيادة السلبية وكبح مبادرات التساؤل والاِكتشاف والفِعل.
برأيك هل تظل المُواطنة كفعل وقيمة ومُمارسة، فكرة مُلتبسة تشغلُ المواطن والمجتمع بكلّ أطيافه وحساسياته، وهي الفكرة التي لها أكثـر من خطاب وأكــثـر من مفهوم وأكثـر من سياق؟
- صحيح، فتعريفات المُواطنة كثيرة، والمفهوم مُتعدّد في الفكر الليبرالي بمدارسه المُختلفة، بل مُتغيراً مضمونًا واستخدامًا في أدبيّاته، ولقد تَمدَّدَ نطاقه من الدلالة السّياسيّة القانونية إلى الدلالة المدنية الحقوقية، ثم إلى مساحات الحقوق الاِجتماعية والاِقتصادية ثم إلى مستوى العدالة في المجال الخاص وتجسير الفجوة بين الخاص والعام، ثم أخيراً في مجال الهويات الثّقافيّة الجماعية وحتّى الاِختبارات الذاتية للجسد في المجال الخاص ومطالبتها بالشرعية القانونية في المجال العام، حتّى وصف البعض المفهوم في دلالاته الراهنة بالسيولة والاِنتشار، وهي السيولة التي يُوصف بها مشروع الحداثة كما ذهبت إلى ذلك هبة رؤوف عزت. وفي ظل العالم الرقمي فقد اِندمج النّاس فيه بشكلٍ واضح، وبطريقة تبدو لهم فعالة ومُواتية للوضع القائم في حياتهم، بسبب طريقة التفاعل الناجعة والسهلة في حصولهم على المعلومات والأخبار، فالمُجتمع الواقعي أصبح يُوازيه واقع اِفتراضي يُؤثر عليه، بذلك اِتجه النّاس إلى العالم الرقمي للمُشاركة فيه لأنّه حتميّة، فصار من الأهمية التدرب على المُواطنة الرقمية بشكل جيد، لأجل المُشاركة الفاعلة والتحلي بقدرٍ كبير من المسؤولية، مع اِكتساب القدرة على إنتاج الفِعل والفكرة معًا لتأكيد الإيجابية في هذا العالم الرقمي. لذا ففكرة المُواطنة اِنتقلت إلى مستوى آخر يتم الاِشتغال فيه على مُواطنة رقمية مُختلفة في عصر الذكاء الاصطناعي، فلم يعد هناك اِلتباس في مفهوم المُواطنة كتعريف، لأنّ الوصول إلى المعلومة سهل من خلال سؤال الذكاء الاِصطناعي الّذي يُحدّد لك الإجابة ويمنحك كلّ ما تُريده، لكن يبقى اللُبس في طريقة توظيف المعلومة واستعمالها، وتجسيدها والتقيد بشروطها وأحكامها، هذا من جهة، من جهة أخرى يبقى المعنى الحقيقي للمُواطنة ذو اِستعمالات مُتعدّدة، وليس مستحيلاً قد تجد غداً الروبوت المواطن من يدري؟
ما مدى دور التنشئة في التأسيس لفكرة المُواطنة؟ وماذا عن سياقاتها في الحياة الاِجتماعية والإنسانية؟
- تلعبُ التنشئة دوراً مُهمًا في التأسيس لدور المُواطنة حيثُ تعمل على غرس القيم والمبادئ في الأفراد من الصِغر وإعدادهم كمواطنين وتوعيتهم بمسؤولياتهم وحقوقهم من خلال: شعور ووعي الأفراد بالعلاقات الاِجتماعية ببينهم وبتجاربهم المشتركة، وينمو هذا الشعور نحو الاِشتراك في تحمل مسؤولية النهوض بمجتمعهم، وكذا تعليمهم الحقوق والواجبات، مع تنمية روح الحوار وقبول الآخر، وهذا يقع على عاتق دور المؤسسات التعليمية والإعلام؛ الّذي يعمل على التواصل والترابط، والاِرتباط، فالاِتصال الحديث يمنح الفرد دوام تواصل مُتعدّد لعلاقات كثيرة يحصل من خلالها على معلومات هائلة ونوعية تجعله في قلب مجتمع من المعلومات حتّى وإن كان في بلد مُتخلف، وذلك من خلال تنقله عبر وسائط الانترنت وشبكات التواصل الاِجتماعي الرقمية، وتحويل النقاش من السّياسة إلى المجتمع المدني، والـتفاوض الاِجتماعي الدائم مع الفاعلين الاِجتماعيين.
أيضًا هل قيم المُواطنة مخرجات سياسة أم مسألة تنشئة اِجتماعية؟
- نعم على اِعتبار قيم المُواطنة من مرتكزات السياسة الليبرالية فقد شهد المفهوم تغيرات عديدة في مضمونه واستخدامه في الأدبيات الليبرالية بمدارسها المُختلفة، واتسع نطاقه من الدلالة السّياسيّة القانونية إلى الدلالة المدنية الحقوقية، ثم إلى مساحات الحقوق الاِجتماعية والاِقتصادية ثم إلى مستوى العدالة، وكلّ ذلك تحوّل إلى تقليد تقوم التنشئة الاِجتماعية بنقله وتعليمه.
كيف يُحافظ مفهوم المُواطنة على معناه ودلالاته في سياق تطوّر العولمة وتأثيراتها؟
- السياقات التّاريخيّة مُهمة جداً لمعرفة تطوّر المفهوم واستعمالاته المُتعدّدة، وبخاصة في الفترات التي مر بها والأوضاع المُختلفة التي واجهها، فالحاجة مُلحة إليه في الوضع الراهن، وبالخصوص في ظل ظهور مصطلح المواطنة العولمية.
المجال السياسي يأخذ بدراسة المواطنة ويُوليها اِهتمامًا كبيراً في الدراسات والأبحاث
في الكِتاب -أيضاً- إشارة إلى أهمية السّياقات التّاريخيّة في إنتاج المفاهيم، والتي هي حجر زاوية لكلّ العلوم، ولا تقف على مجرّد التعريفات والتوضيحات والتوجيهات؛ بل هي عملاً منظماً منتجًا صالحاً للمُشكلات. برأيك إلى أي حد تكمن أهمية هذه السياقات، خاصةً في ظل سياقات أخرى، منها سياقات العولمة؟
- صحيح لقد اِقترن مفهوم المواطنة بمفهوم العولمة وأصبح المصطلحان مترابطان ومتداولان وبخاصة في الأوساط الأكاديمية، ولأنّ تأثير العولمة كبير على مجالات مختلفة كونه واقعًا فإنّ أكثر المجالات التي نال حظًا واسعًا من التأثير كان المجال السياسي، ولأنّ المجال السياسي يأخذ بدراسة المواطنة ويُوليها اِهتمامًا كبيراً في الدراسات والأبحاث، ورافقها من خطواتها الأولى لتأسيسها، ولأنّ العولمة ظاهرة لا زال الجدل حاصل حولها، وحول اِنتشار أفكارها الدائم والعالمي، لأجل أفكارها من سوق واتصالات ومؤتمرات وبيئة، ورغم غموض بعض أفكارها في العالم الثالث، إلاّ أنّ الهيمنة الغربية تعمل أكثر على تحقيقها لأجل غايات مُحدّدة.
ولأنّ أفكار العولمة اِنتشرت من خلال وسائل الإعلام، ووسائل التواصل، والانترنت فإنّ مفهومها عاد من جديد في صورة حقوق الإنسان. فالعولمة فرضت أفكارها وعملت على اِنتشارها على اِعتبارها «عملية مستمرة، تكشف كلّ يوم عن وجه جديد من وجوهها المتعدّدة». ومفهوم العولمة لا يقتصر على مجال معرفي دون آخر، بل هو حاضر في التخصّصات العلمية والمجالات المعرفية، والمفهوم مبني وفق أبعاد مُتعدّدة ومُختلفة، فكلّ باحث في حقل من الحقول المعرفية يفهمه اِنطلاقاً من مجال تخصصه، ومن هنا كان التفاوت في معنى العولمة ومظاهرها لاِختلاف مفهومها من مجالٍ إلى آخر.
وبين مُناصر للعملية العولمية وبين مُعارض لها، فالرأي الأوّل يعتبرها ساهمت في نمو الاِستثمار والتبادل التجاري، وفي الإنتاج، وفي التطوّر التكنولوجي والتقني، وفي اِنتشار الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويُقابل وجهة الرأي هذه رأي المُعارضة التي تراها: اِنتهاك وتدمير للطبيعة وضرر للبيئة، وتسليع ومُتاجرة بثقافة الشعوب، وهي السبب في اِزدياد معدل الهجرة، وفي اِنتشار أمراض حديثة، وفي توسع دائرة المخدرات والمهلوسات، فكلّ هذه الآثار أوجدت حركات سياسيّة واجتماعية مُناهضة لها؛ ومن هنا تأتي صعوبة إيجاد تعريف جامع للعولمة.
لقد عملت الدولة المُهيمنة وشركائها من الدول الغربية على إنشاء مُؤسسات ومُنظمات دولية هدفها تسهيل عملية اِنتقال النظام الرأسمالي بسلاسة، وتحت مبدأ الفخ الاِقتصادي باِستغلال هذه المنظمات التي تُرَّوِجُ للنظام الرأسمالي وتفرض تطبيقه كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية رائدة النظام الّذي صنعته، لذلك تتكفل بالدفاع عليه والترويج له في كلّ بقاع العالم وبالطُرق المُختلفة، غيرَ أنّ من أنصار الرأسمالية والعولمة من وقفوا في وجه هذا النظام من خلال اِستغلال الرأسمالية وبتبني إيديولوجيات مُخالفة ومُعارِضة لها، بمعنى الصورة رأسمالية والباطن مُخالف حتى تملك الحق في النقد والمعارضة، والمناوؤون هُم من: الطبقات المُهمشة، والطبقات العاملة، والحركات الثوريّة المُناوئة للعولمة، والحركات البيئية، وهذا ما دفع بمفهوم جديد يطفو إلى السطح باِسم: العولمة القادمة من الأسفل.la mondialisation de bas
إفرازات العولمة لها آثار على مفهوم المواطنة. كيف تقرأ هذه الآثار، وكيف يمكن معالجتها؟
- ما فتحته العولمة من نوافذ وأفاق واسعة للمُواطنة التقليدية قد أعطى لمفهومها مدى مُتسعاً، وفي هذا الاِتساع اِزداد المفهوم اِلتباسًا وغموضاً وتعقيداً، وقام حوله الكثير من الدراسات والبحوث لتميزه بالاِنفتاح على الأفكار الجديدة وعلى التحوّلات التي يشهدها العالم، وبخاصة في ظل تراجع المفهوم التقليدي، وتراجع مفهوم الدولة القطرية، وتراجع دورها في حياة النّاس، وارتبطت الحياة اليوميّة بالمُتغيرات التكنولوجية الحديثة، وخضوعها لنظام عالمي يتجاوز الحدود الجغرافية والسّياسيّة فاتخذت المُواطنة لها معنى جديداً مُختلفًا عن كلّ المعاني القديمة والحديثة؛ فبعدما كانت المُواطنة لها حدود داخل الدولة على اِعتبار العضوية فيها تمنح الدولة فيها حقوقًا محدودة، واِلتزامات، تجاوزته إلى اللامحدود أي إلى العالم أجمع.
وأي دور للمُثقف أو لخطابه في سياق المُواطنة؟ وهل يمكن أن يصنع خطاب المُواطنة أو بعض قيم هذا الخطاب؟
- للمُثقف دورٌ كبير يقع على عاتقه في تداول خطاب المُواطنة وبلورته ومُمارسته، لأنّ للمُواطنة قواعد وأُسس وعلى المُواطن اِكتساب مُؤهلات بعينها لمُمارستها، فالعِلم من أهم شروطها فمن خلاله يمكن للمُواطن الاِطلاع على كيفية أن يكون مُواطنًا (من الناحية القانونية ومن الناحية الاِجتماعية والسّياسيّة والأخلاقية) وعليه تفادي الاِنحراف والخروج عن القانون من خلال الاِطلاع على القوانين والمراسيم والتقاليد والأعراف القانونية، وبأن يكون مُحاربًا للفساد بأنواعه، تاركًا للأنانية، غير مُنغلق على الذات، مُكسراً للعزلة من خلال خلق روابط اِجتماعية داخل الجماعة التي تتكفل الدولة بإدارتها وباقي الجماعات من خلال قوانين تنظيمية لأفرادها على قدم المُساواة، مُسقِطًا كلّ نظرة عرقية أو طائفية أو قومية أو جنسية أو عرقية، مُتسامح ومُقبلاً على التنوع والاِختلاف. وكلّ هذه القواعد تجد المُثقف أقرب إليها من غيره على اِعتباره يُؤمن بالاِختلاف طريقًا للحرية، لذا فهو مُتابعًا نَبِهًا، وخِطابه مُهم كناقد يقوّم السلبيات ويقيم الإيجابيات بدراسة وتمعن.