أجمع المتدخلون في الملتقى الوطني الموسوم «الجسد.. قراءات أنثروبولوجية»، الذي احتضنته كلية العلوم الاجتماعية بجامعة وهران 2 نهاية الأسبوع المنصرم، على ضرورة إعادة النظر في المقاربات التي كان الباحثون يعتمدون عليها لدراسة الجسد وأبعاده الثقافية والاجتماعية، لأن التكنولوجيات الحديثة والذكاء الاصطناعي، أصبحا يطرحان رهانات وجديدة لتعابير الجسد وتشكيله لرموز الانتماء والهوية.
بن ودان خيرة
وطرح المشاركون في الملتقى الذي نظمته وحدة البحث في علوم الإنسان للدراسات الفلسفية الإنسانية والاجتماعية، بعض الأسئلة التي شكلت أبرز محاوره وهي «كيف يشكل الجسد ويعبر عن مختلف الثقافات الاجتماعية؟، كيف ينظر المجتمع إلى الجسد؟ وكيف تتداخل التصورات الثقافية مع الواقع المادي للجسد؟».
ودعا الجميع، إلى أن يقود الدراسات الباحث المنتمي المحلي، كي يفهم ويفسر الظواهر والسلوكيات، خاصة في ظل هيمنة التكنولوجيات الحديثة والذكاء الاصطناعي الذي أصبح يفرض قيما وانتماءات لمؤسسات تنشئة خفية، وبالتالي فالباحث المنتمي هو الأقرب لمجتمعه بكل تفاصيله، وقد رصدت النصر رؤى وأطروحات لبعض الأساتذة المتدخلين في الملتقى.
* الدكتورة مباركة بلحسن باحثة في الأنثروبولوجيا
التطور التكنولوجي وضع التنشئة الاجتماعية بيد مؤسسات خفية
أكدت الدكتورة مباركة بلحسن، أن التكنولوجيات الحديثة تضع الجميع اليوم، أمام رهان جدي وصعب، لأن مصدر التنشئة الاجتماعية كان المؤسسات التقليدية كالأسرة و المسجد و المدرسة وحتى الشارع، بينما تتم هذه التنشئة اليوم عن طريق مؤسسات غير معروفة تختفي وراء شاشات الهواتف والحواسيب، فبمجرد ولوج الطفل لمنصات التواصل الاجتماعي والألعاب الافتراضية وغيرها، يشكل هذا السلوك ارتباطا بينه وبين هذه الوسائل بشكل يومي، وهذا ما يستدعي الحذر على تصور الانتماء والهوية، حيث إن بعض المراهقين يتصرفون تصرفات غير مفهومة، لأنه لا أحد يعرف ما يتلقونه يوميا من هذه الوسائط والمؤسسات المخفية وهنا يكمن الخطر وفقها، وعليه يجب أن تتضافر جهود الجميع لإعادة النظر في التربية، لأن الفجوة كبيرة بين التنشئة التقليدية والتنشئة المتأثرة بالفضاء الافتراضي والمؤسسات الخفية.
ووصفت الدكتورة مباركة بلحسن، الجسد بأنه ليس كيانا واحدا بل مجموعة من الكيانات وله أبعاد متعددة فهو معطى اجتماعي وثقافي، كما أن الممارسة اليومية وعلاقة الفرد بجسده ليست علاقة شخصية بل علاقة اجتماعية، فكل ما يقوم به الإنسان من سلوكيات وممارسات وتفاعلات، يعبر ويعطي دلائل عن الانتماء لمجموعة معينة ولهوية معينة، و يجعل الفرد ملزما أيضا بالانضباط لهذه القواعد والمحددات المرتبطة بالجسد لتبرير وتأكيد الانتماء لمجتمع معين.
مبرزة، أنه لا يمكن الحديث عن الهوية دون التطرق إلى مقاربات الجسد، مثل السلوك الثيابي والأكل والمشي والجلوس واللغة وغيرها، وهذا ما تنتجه التنشئة الاجتماعية منذ الصغر، مما يسمح بتمييز انتماء معين عن غيره من الانتماءات التي لها علاقة بالبيئة والطبيعة.
وأوضحت، أن العمل الثقافي هو علاقة الإنسان بالطبيعة التي ينتج عنها هوية وانتماء، وهذا ما يحتاج لباحثين محليين لإنجاز دراسات في مختلف المجالات لإعادة النظر في بعض المقاربات وإعطاء الأولوية والاهتمام للمؤثرات العصرية، ولمواكبة هذه التغيرات والحد من تأثيرها الكبير على الانتماء والهوية.
وفي مقاربات أخرى للجسد يجب حسبها، مراعاة المجتمع المدروس كذلك وعدم إخراجه من سياقه الاجتماعي، مضيفة أنه مطلوب من الباحثين في الوقت نفسه تثمين ما تم القيام به سابقا، والانتباه لسرعة التحولات الاجتماعية وما يحدث على مستوى الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الحديثة، وهذا رهيب كما عبرت، ويتطلب إعادة النظر في المقاربات والمناهج المتعلقة بأنثروبولوجيا الجسد.
مردفة أن دراسة الجسد هي انتصار للهامش وطرح لثنائية الطبيعة والثقافة، أي متى ينتهي عمل الطبيعة ومتى يبدأ عمل الثقافة، فالأكل مثلا، هو تلبية لحاجة بيولوجية، ولكن تناوله هو انعكاس لطريقة ثقافية، كما أن مسألة الاعتناء بالجسد التي زادت بشكل ملحوظ في مجتمعات العولمة، أصبحت تتجاوز الأطروحات الثقافية، بسبب التقدم الهائل للتكنولوجيات والطب.
* الدكتور عبد القادر بوعرفة مدير وحدة البحث في علوم الإنسان
مصطلح «الجسد الممتد» يعكس تأثير التكنولوجيات
أوضح الدكتور عبد القادر بوعرفة، مدير وحدة البحث في علوم الإنسان والدراسات الفلسفية والاجتماعية والإنسانية، من جهته، أن مصطلحا سوسيولوجيا فلسفيا أنثروبولوجيا يسمى «الجسد الممتد» ظهر مؤخرا وأصبح متداولا، وأن معناه أن الجسد لم يعد محدودا بل ممتدا هنا وهناك، فمثلا الرادار هو امتداد للأذن، والميكروسكوب هو امتداد للعين، وحتى جهاز التحكم عن بعد هو امتداد لليد وغيرها من الأمور التي أصبحت تعبر عن امتداد الجسد في عصر التكنولوجيات أين أصبح الإنسان ممتدا في الآلة.
وأشار الباحث، إلى أن هذا الامتداد أضحى يطرح تساؤلات فلسفية صعبة ومعقدة، منها السؤال عن نهاية هذا الامتداد؟ وما مصير الجسد عندما يمتد لخارج الجسد؟ ، معتبرا أن الهاجس يرتبط بتأرجح الجسد بين المدنس والمقدس، في وقت أصبحت التكنولوجيا تنوب عن وظائفه، مستطردا، أن الفكر الغربي في تناوله للجسد ركز على جانب الغواية والشهوة، فتحول الجسد من منظور علاقة التشكل بين الأنا و الهو، إلى علاقة «هل أنا حر لأفعل في جسدي ما أريد؟» ويطرح هنا مثلا عن الوشم والكي وحتى الختان وغيرها.
وذكر الدكتور بوعرفة، أن مشكلة الجسد ظهرت مع سيدنا آدم حين ارتكب الخطيئة وظهرت سوأته، فبدأت مشكلة الإنسان مع الجسد، وأن التراث الإسلامي والثقافة الإسلامية، اهتما أكثر من غيرهما بالجسد، وأعطى مثالا عن كتاب «ألف ليلة وليلة»، الذي يعد أكبر كتاب حضر فيه الجسد تصويرا أو دراسة أو نقدا مثلما قال المتحدث، حيث إن مؤلفه لم يترك شيئا عن الجسد إلا وذكره، كما تحدث عن كتاب آخرين كذلك ألفوا عن الجسد.
* مهدي سويح أستاذ بكلية العلوم الاجتماعية جامعة وهران 2
كل سلوكيات الفرد هي تعبير عن هوية وانتماء
في مداخلة حول «تواجد الجسد في الفضاء الخارجي» ، قال الأستاذ مهدي سويح، من كلية العلوم الاجتماعية جامعة وهران 2، إن كل ما يصدر عن الفرد إزاء أفراد آخرين، هو تعبير عن هوية ومحاولة لإثبات الذات، فكل السلوكيات المعبر عنها في مجتمع ما هي تعبير هوياتي وانتماء، وإن التكنولوجيات الحديثة لها تأثيرها على الفرد وبالتالي على المجتمع، فهي تحمل بعض التفاصيل التي تظهر للجميع بأنها بسيطة، بينما تعد عامل تغيير في الواقع.
وذكر الأستاذ سويح، أن الهاتف النقال مثلا، كان يظهر في البداية كجهاز عادي، لكن بعد سنوات أنتج تغييرات رهيبة في المجتمع، وهو ذات الوضع مع شبكات التواصل الاجتماعي والإنترنيت، حيث تغيرت الذهنيات والعقليات و أصبحت تطرح اختلافات كبيرة، وعليه يجب على الجميع الانتباه لهذه الأمور خاصة فئة الباحثين، قصد الوصول لتحليل هذا الواقع المتغير والمتحول بشكل مستمر بنوع من الموضوعية.
مبرزا، أنه من خلال دراسة استكشافية للكم الهائل للأطروحات الموجودة على مستوى كلية العلوم الاجتماعية لجامعة وهران 2، تبين أن هناك تغير اجتماعيا رهيبا حينما يتعلق الأمر بتواجد المرأة في الفضاء الخارجي، أين يتواجد الجسد التواصلي، حيث بدأت المرأة بخروجها من الفضاء المنزلي إلى الفضاء الخارجي، تهتم بمظهرها شيئا فشيئا، مقتنعة أن الجسد وسيلة من وسائل إثبات الذات.
ومن خلال الملاحظة اتضح حسبه، أنه عندما يكون الباحث امرأة تعالج مسألة تواجد المرأة في الفضاء الخارجي من منظور «الجسد التواصلي»، وتتبنى طريقة تحليلية مغايرة للباحث الرجل الذي يدرسها على أنها كائن يكافح ويصارع لإثبات وجوديته في الفضاء الخارجي، حيث أن هذه الملاحظة موجودة حتى في الدراسات الغربية وفق المتحدث.
وقد اعتبر أن هذا الاختلاف في المقاربتين، هو في الحقيقة تكامل يعكس مدى تعقيدات الواقع الاجتماعي، ولكنه في الوقت نفسه يسمح بفهم كيفية التغيرات الاجتماعية، حيث أن التصور التقليدي يضع دائما المرأة في المطبخ ويحدد المنزل كمكان مناسب لها، وأن الشارع يبقى حكرا على الرجل.
* الدكتورة بن زيان خيرة مختصة في علم الاجتماع الثقافي
الجسد نافذة لفهم البنيات والمؤسسات
تؤكد الدكتورة بن خيرة زيان، مختصة في علم الاجتماع الثقافي، أن الجسد أصبح موضوعا مطروحا في عدة تخصصات أكاديمية، وهو موضوع مرتبط بحياة الأفراد والمجتمعات ووسيلة تعبير أساسية تحمل معاني مرتبطة بعادات اجتماعية، مما يتطلب وفق المتحدثة، تركيز الدراسة على عدة أبعاد وكيفية تأثيرها على تشكيل الهوية، ودور الجسد في التعبير عن الهوية والانتماء، وكيف تستخدم رموزه وإشاراته في التواصل والتفاعل الاجتماعي.
مشيرة، إلى أن العديد من الدراسات، تركز على الجسد كواقع ونص اجتماعي ثقافي يعبر عن انتماء وهوية المجتمع، ولا تركز على الجسد كظاهرة بيولوجية، فكل مجتمع له خصوصيات ثقافية واجتماعية تميزه عن غيره من خلال الممارسات الطقوسية والدينية والجمالية وغيرها. ومن هنا تكون للجسد حسبها، دلالات تعبر عن هذه المكونات فالجسد يعتبر نافذة لفهم البنيات والمؤسسات الموجودة في المجتمع، فمثلا رمزيات الجمال تختلف من مجتمع لآخر كما عبرت.