ما الّذي يمكن قوله في ثقافة وخطاب المقاومة من خلال السرديات الجزائرية؟ وهل شكلت هذه الأخيرة، روافد الـمقاومة الثقافيّة للاِستـعمار؟ وهل هناك سرديات بعينها شكلت هذا المعطى؟ وكيف تجلت ثقافة المقاومة في مواجهة الخطاب الكولونيالي، خاصة في السرديات؟ وهل يمكن اِعتبار سرديات السبعينيات أكثر السرديات التي شكلت مدونة ثقافة المقاومة.
أجمع المتدخلون في ملف «السرديات الجزائريّة وثقافة المقاومة»، في «كراس الثقافة» لهذا العدد، على مدى أهمية ومركزية ثقافة المقاومة في مواجهة الخطاب الكولونيالي، مؤكدين الدور البارز الّذي لعبته الثقافة الجزائرية في مواجهة الخطاب الكولونيالي. كما تناولوا جُملة من الموضوعات أبرزها كيفية مُواجهة الثقافة الجزائرية للخطاب الكولونيالي (قبل الثورة، وأثناء الثورة، وبعدها). وكذا إبراز أصول الخطاب النقدي المُضاد للكولونيالية وتحديد آبائه الشرعيين الذين ينتمون إلى العالم الثالث، وبخاصة الجزائر التي مثلت الاِستعمار الغربي في أقصى تجلياته. كما تناولوا -وكلٌ حسب مُنطلقاته ومرجعياته- مقومات ثقافة المقاومة من خلال السرديات الجزائرية، مؤكدين من جهةٍ أخرى، أنّ المقاومة الثقافيّة، تجلت على مستوى الخطاب الأدبي، فيما يُعرف (بالخطاب المُقاوم أو المُضاد للكولونيالية)، وأن البُعد المُقاوم برز أكثر في الخطاب ما بعد الكولونيالي.
أعدت الملف: نوّارة لحـرش
* الباحث الأكاديمي والناقد علي خفيف
السرديّات الجزائريّة مثّلتْ مرتكزًا هامًّا لمُقاومة الاستعماروالخِطاب الكولونيالي
يرى الباحث الأكاديمي والناقد، الدكتور علي خفيف، من جامعة عنابة، أنّ السرديّات الجزائريّة -إلى جانب بقيّة الأجناس الأدبيّة الأخرى- مثّلتْ مرتكزًا هامًّا للمُقاومة الثّقافيّة للاِستعـمار الفرنسي الغاشم، وللخِطاب الكولونيالي بصفة عامّة، وقد كان ذلك من خلال نوعين من السرديّات.
أوجزها المُتحّدث كما يلي: «النوع الأوّل: الـمُقاومة الثّقافيّة من خلال السرديّات الشعبيّة، مُـمـثـَّلةً فـي القصص الشعبي وفـي الـمرويّات الشعبية والأحاجي، وقصص الــمغازي والبطولات الشعبيّة التي يرويها القوّالون في الأسواق، كـما ترويها الـجدّاتُ والأمَّهاتُ في البيوت، والتي غالبًا ما يكون الهدفُ الـخفـيُّ منها اِستنهاض الـهِـمم، من خلال اِستحضار كثير من الأبطال التّاريـخيين، ونـماذجَ بطوليّةٍ مقاوِمةٍ من الـماضي الـمليء بالبطولات والأمـجاد، تكون حافزاً على البطولة والتضحيات وصناعة النصر».
أمّا النوع الثاني، -حسب ذات المُتحدّث-، فيتمثل في الـمقاومة الثقافيّة من خلال الكتابات السرديّة الفنيّة، مُـمَـثّلةً في الرواية والقصّة وبعض الأجناس الفنيّة الشبيهة. وهنا رَكَزَ أكثر على دور وأهمية الـمُقاومة الثقافيّة الجزائريّة للخطاب الكولونيالي، من خلال الرواية، تحديداً باِعتبارها الجنس السردي الأكثر هـيـمنةً ونضجًا.
وفي ذات المعطى، واصل قائلاً: «سأتّـخذ الروائيَّ محمّد ذيب نـمـوذجًا، لأنّه يُعتبر من أهـمِّ روّاد الـمُقاومة للاِستعمار بالكتابة في الأدب الـجزائري، كما أنّ الـمُقاومةَ الثقافيّةَ للاِستعمار قد تـجلَّت واضحةً من خلال رواياته كثيرًا، ويبدو ذلك جليّا في ثُلاثــيــتِه (الدار الكبيرة، والـحريق، والنّول)، هذه الثّلاثية التي اعتبَرَها بعضُهم ثلاثيةَ الـجزائر، لأنّـها تُعبِّر حقيقةً على مقاومةٍ ثقافيّةٍ شُجاعةٍ، بتعبيرها على معاناة الـمجتمع الـجزائري بكلِّ فئاته وأطيافه، تحت نير الاِستعـمار الفرنسيّ الغاشم».
مُؤكداً أنّ الـجزء الأوّل، أي الدّار الكبيرة، يُعبٍّر بواقعيّة منقطعةِ النّظير على الواقع الـمأساوي لـمـجموعة من الأُسَرِ التي يـمكن اِعتبارُها عَيِّنةً نـموذجيةً لكلّ الأسرِ الـجزائريَّةِ التي تَقْطُنُ الـمدينةَ آنذاك، حيثُ تعيش ظروفًا مزريّةً معًا، تتقاسَمُ الـجوعَ والفقرَ والتَّهميشَ والعنصُريّةَ والقهرَ والإذلالَ والقَمْعَ الاِستعماري في مُـجَـمَّعٍ سكنيٍّ واحد.
وأردفَ: «يُعبِّرُ مـحمّد ديب بعُـمق عن مآسيها وبؤسها من خلال كلّ تفاصيل الدّار الكبيرة وشـخصياتها: عمر، وعيني، والـجدّة، والبنات وكلّ سُكّان الدار الكبيرة.. ولا أدلَّ على ذلك من مشْهَدٍ تُكرِّرُهُ لَالَّا عيني، حين تضع الـماءَ يَغلي في القدر، وتطلبُ من أبنائها أن يصبروا حتى يـَحضُرَ الطعّامُ، وهي بذلك تُـخَادِعُهم حتى يغلبَهم النّومُ وهم جيّاع!»..
صاحب «في الهوية والأمن الثقافي»، واصل في ذات الفكرة، قائلاً: «وفي الـحريق التي اِعتبرها كثيرٌ من الدارسين نبوءةً وبِشارةً باِندلاع الثّورة التّحريريّة، يصف محمّد ذيب بعـُمقٍ مُؤلِـمٍ جدّا، مجتمعَ الفلّاحين الذين تَـنْزِفُ دماؤهم ليقدّموا خيراتِ أرضهم إلـى مصّاصي الدِّماء، فأياديهم الخشنةُ لا تُطْعِمُ أبناءهم بقايا خبزةٍ، ولكنّها تطعم الـمُستعمِرَ خبزًا ناعِـمًا وفيراً، وخيراتٍ أخرى لا حَصْرَ لـها. وفي النّول: صورةٌ أكثرُ فظاعةً للاِستغلال البشِع لعُـمّال النّسيج، الذين لا تُغني عنهم أجورُهم الـمُهينةُ، من الجوع والفقر والبؤس والاِستعباد والـموتِ البطيء شيئًا».
ومُستدركاً أضاف: «واضِحٌ للعيان، أنّ كتابات مـحمّد ذيب، مثَّلتْ مقاومةً ثقافيّةً شُجاعةً وطلائعيّةً في مـجال السرد الجزائري، وساهـمَتْ في تغيير الواقع الـجزائري تـحت نير الاِستعمار، لأنَّـها نزعتْ كلَّ الـمساحيق التي كان الـمستعـمِرُ يـُجَمِّلُ بـها وجْهَهُ القبيح، وكانت إرهاصًا للثّورة التحريريَّةِ التي نسفَتْ الوجودَ الاِستعـماريَّ من جذوره».
ثم واصل قائلاً: «هذا نـموذجٌ بارزٌ من نـماذج الـمقاومة الثقافيّة الفاعلةِ للاِستعمار وللخطاب الكولونيالي في السرد الجزائري، وهناك نـماذج كثيرة مثله، وقد اِستـمرّت هذه الـمقاومةُ الثقافيّةُ في السرد الجزائري إلى ما بعد الاِستقلال، ومثّلت مرحلةُ السبعينات التي شهدت اِزدهار الرواية الجزائريّة، نـموذجاً جميلاً للمُقاومة الثقافيّة، ضمن ما شهدته الـمرحلة من تحوّلات، من خلال تعبيرها عن منجزات الاِستقلال الوطني، وتـثـمينِـها لـمكتسباته الـماديّة والـمعنويّة».
غيرَ أنّ الـمقاومةَ الثقافيّةَ للخطاب الكولونيالي، -حسب الدكتور خفيف- بدأ الفتورُ يعتريها مع مرور الوقت شيئاً فشيئًا، بسبب تـحوّلاتٍ كثيرة ومـختلفةٍ.
وخلُص إلى القول: «إذا كُنا بالأمس قد رضَعْنا لَبَانَ الثورةِ والـمـقاومةِ الثقافيّةِ من حِكَاياتِ جدّاتنا وأمّهاتنا وآبائنا، ومن الكُتُبِ الـمدرسيّةِ والرواياتِ والأفلام الثوريّة، فقد تغيَّر الواقع اليومَ مع جيل الانترنيت الّذي تغيّرتْ ذائقتُه واهتماماتُه، مع تراجع دور الأسرة في تلقين قِيَمِ الثّورةِ والـمقاومةِ، فلـم تعد الـجدّاتُ تـحكِينَ، ومع اِنصراف الأدباء والكُتّاب إلى الاِهتمام بتحوُّلاتٍ أخرى في الـمـجتمع، مِـمَّا يجعلُ العودةَ إلى موضوع الـمقاومة الثقافيّة اليومَ، من أجل الـمناعة الثقافيّة وحماية الذّاكرة، أكثرَ من ضروري».
* الناقد والكاتب عبد الحميد هيمة
طروحات المشروع الكولونيالي ووجهت بأعمال إبداعية
يقول الناقد والأكاديمي الدكتور عبد الحميد هيمة، من جامعة ورقلة: «يستطيع الدارس للخطاب ما بعد الكولونيالي في الجزائر أن يلحظ بروز البُعد المُقاوم في هذا الخطاب والّذي مثلته على المستوى الفكري كتابات عديدة في مقدمتها كتابات، مالك بن نبي، ومصطفى الأشرف، وكتابات جمعية العُلماء المسلمين الجزائريين».
مُضيفاً: «هذه الكتابات التي تقفُ في وجه السلطة الغربية وما تفرضه من هيمنة وتشويه للذات غير الفرنسية، وتفضحُ السياسات الاِستعمارية بمختلف أشكالها، وفي مقدمتها قانون الأهالي/الأنديجان، ولقد تجسدَ هذا البُعد المُقاوم عبر الكثير من الكِتابات الإبداعية التي قامت على رفض المقولات الاِستعمارية الفرنسية، من خلال اِتخاذها لموقف المُواجهة والمُقاومة، ونفي الصورة النمطية التي أراد الاِستعمار فرضها على الشعب الجزائري المستعمر، واستبدالها بصورة دينامية تبرزُ الواقع المعيش. كما هو الشأن بالنسبة للرواية، التي هي ليست مجرّد فن من الفنون، ولكنها صارت في عصرنا الحالي سلاحًا فتاكًا، وميدانًا للصراع الأيديولوجي، وقلعة من قلاع المُقاومة والحفاظ على الهوية الوطنية وتعميق الاِنتماء الحضاري».
المُتحدِّث، واصل في ذات المنحى، قائلاً: «عندما نتحدث عن الثورة والمُقاومة، يجب التأكيد على أنّ الثورة والمقاومة في الجزائر لم تكن بالسلاح فقط، فقد رافقتها المقاومة الثقافيّة، والتي تتجلى على مستوى الخطاب الأدبي، فيما يُعرف (بالخطاب المُقاوم أو المُضاد للكولونيالية)، وهذه المُقاومة كانت فِعلاً مُستمراً بدأت منذ وطئت أقدام المُحتل أرض الوطن، وهي مستمرة إلى يومنا هذا، ولكنها تتخذ أشكالاً مُختلفة، وما يهمنا هنا هو (المقاومة الثقافيّة)، التي واجهت طروحات المشروع الكولونيالي، عبر الكثير من الأعمال الإبداعية أيّام الاِحتلال، ثم بعد الاِستقلال في أعمال الروائيين الروّاد مثل الطاهر وطار، وعبد الحميد بن هدوقة وزهور ونيسي وآخرين، وفي التسعينيات برزت أعمال جديدة تنخرط في سياق المقاومة».
وهذا الأمر -كما يعتقد الدكتور هيمة- يجعل هذه الأعمال الروائية تندرجُ ضمن ما يُسمى بالكتابات المُضادة للكولونيالية، هذه الكتابات التي تقفُ في وجه المركزية الغربية وما تفرضه من هيمنة وتشويه للذات الوطنية، وتفضحُ السياسات الاِستعمارية بمختلف أشكالها.
ولقد تَجَسَدَ هذا البُعد المُقاوم -كما يقول- منذ القِدم عَبْرَ الكثير من الكِتابات الإبداعية منها كتابات الحركة الإصلاحية، التي قامت على رفض المقولات الاِستعمارية، من خلال اِتخاذها لموقف المُواجهة والمُقاومة، ونفي الصورة النمطية التي أراد الاِستعمار فرضها على الشعوب المُستعمرة. وقد أعطت هذه المُقاومة التي اِندلعت منذ وطئت أقدام الاِحتلال أرض الجزائر للأدب الكثير من المعاني والقيم.
فكانت المُخيلة الفنيّة الجزائرية -حسب رأيه- تتألم وتُقاوم ضربات الاِستعمار بكلّ الأشكال والصيغ التعبيرية المُتاحة، من أجل تغذية روح المُقاومة الشعبية وتجديدها وتفعيل أدواتها العسكرية والسياسية، لتمكينها من الصمود والاِستمرار في مواجهة الغرب المُحتل الّذي كان ينظر إلى المُتخيل الوطني الجزائري، ككائن يجب تدميره والقضاء عليه حضاريًا وثقافيًا.
وهكذا يمكنُ القول -كما خلص هيمة في الأخير-، «بأنّه: إذا كانت الثورة تُمثلُ مُواجهة للإبادة، فإنّ الإبداع وسيلة لمُقاومة هذه الإبادة، ولحماية الكينونة والذات الوطنية، ولذلك اِنتفض الوجدان الفني الجزائري عبر مراحله التّاريخيّة، ليُعلن عن اِختلافه ورفضه للاِحتلال بكلّ أشكاله، وحقه في الحرية والاِستقلال، وعن اِنتمائه الحضاري، وهويته الوطنية بكلّ أبعادها وأطيافها المُتنوعة».
* الناقد والمترجم الطيّب بودربالة
السرديات أدت دوراً حاسماً في بعث الأمة الجزائريّة
يؤكد الناقد الأكاديمي والمترجم البروفيسور الطيّب بودربالة أنه: «لا يمكن تصوّر وجود أمة بدون سرديات. سرديات مُؤَسِسّة للهوية وللجماعة البشرية وللأمة. فبِفضل السرديات الملحمية الهوميروسية مثلاً تمكنت اليونان من تحقيق وحدتها والشعور بتميزها وتفوقها على الأُمم الأخرى، اِنطلاقًا من ثنائية المُتحضر/المُتوحش. وهذا ينطبق أيضًا على السرديات المُؤسِسَة لكثير من الأُمم عبر التاريخ، مثل الأمة الرومانية والأمة الصينية والأمة العربية الإسلامية والأمة الأمريكية وكثير من الأُمم الأوروبية في القرن التاسع عشر. وقد أدت السرديات الجزائرية، بشقيها، الشفوي والمكتوب، دوراً حاسماً في بعث الأمة الجزائريّة وتحقيق تماسكها وتشكيل هويتها».
مُضيفاً: «بعد مقاومة الأمير عبد القادر التي اِنتهت سنة 1847، تعاقبت وتلاحقت الاِنتفاضات والثورات في كلّ ربوع الجزائر (ثورة المقراني، الشيخ الحداد، الزعاتشة، بوعمامة، أولاد سيدي الشيخ، عين التوتة، اِلخ). وكانت الثورات لا تنطفئ في مكان إلاّ لتشتعل بضراوة في مناطق أخرى».
ثمَ أردفَ بنوع من الاِستطراد: «مع مرور الوقت، أدرك الجزائريون، وهم المُتشبعون بالعراقة الحضارية أنّ موازين القوّة العسكرية والحضارية لم تعد في صالحهم وأنهم مُطالبون لرفع تحديات عُنف التاريخ بإتباع إستراتيجيات جديدة واعتماد المُقاومة الثقافيّة الشاملة التي تتطلب حشد أسلحة فتاكة لا قِبَل للمُستعمر بها. إنّها أسلحة الدمار الشامل التي تتمثلُ في حضارة المُشافهة والسرديات الكُبرى: الأساطير، الخرافات، الحكايات، القصص الشعبي، سير الصحابة والصالحين، قصص الغول والغولة، قصص الحيوان، اِلخ. إنّها المُقاومة الأسطورية الكُبرى التي أمدت الجزائريين بِقِوَى غيبيّة خارقة وبرموز حية ضاربة في أعماق المُتخيل الشعبي. بحكم غريزة البقاء، تصدى الجزائريون لحرب الإبادة الثّقافيّة بأسلحتهم الفتاكة الجديدة مُحققين تماسك الهوية واِلتحام كلّ مكوناتها في مواجهة الزوابع والأعاصير».
ومواصلاً في ذات الشأن، يقول: «أمام إستراتيجيات المسخ والاِستئصال والإدماج المُتَبَعَة من المستعمر، تبنى الشعب الجزائري سياسة الرفض والمُقاطعة والتستر، مِمَّا أكسبه تحصيناً ومقاومة ومناعة (التمسك بالمدارس القرآنية، الرجوع إلى المرجعيات الدينية في كلّ شيء، رفض الطب الفرنسي، رفض التعامل مع أعوان الاِستعمار، مُقاطعة القوانين الفرنسية، التمسك بكلّ رموز الشخصية الوطنية الأصيلة، اِلخ..)».
كما ذَهبَ المُتحدّث إلى تأكيد أهمية دور الأدب الشّعبي في المقاومة، إذ يقول في هذا المعطى: «لقد خَلَدَ الأدب الشعبي بكلّ مُكوناته التعبيرية والأجناسية والرمزية هذه المقاومة الشرسة عبر الأغاني والرقص والشِّعر الملحون والموسيقى وعَبْرَ مُختلف التظاهرات الثقافيّة. كما اِزدهرت خلال تلك الفترة أسطورة الشاعر الجوّال والقوّال والمداح، على غرار شُعراء التروبادور المعروفين في أوروبا. أخذ هؤلاء الشُعراء يجوبون البلاد شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوباً، مُتغنين بملاحم الأمة الإسلامية وبماضيها المجيد وبرموز الجهاد والمقاومة، في الأسواق وفي الأعراس وفي كلّ التجمعات الشعبية».
ذات المُتحدّث أشار إلى أنّه مع نهاية الحرب العالمية الأولى أخذت الثقافة الجزائريّة تنفتحُ على العالم وعلى التاريخ وتتغذى بروافد ثرية وغنية مُستمدة من المشرق العربي ومن الغرب ومن العالم. فعلى الرغم من الحصار المفروض على اللّغة والثقافة العربيتين من الاِستعمار، فقد اِستطاع رجالات العربيّة اِبتداع سرديات مُعبرة عن تطلعات الشعب الجزائري وعن إرادة التحرّر.
ظهر ذلك جليًا -حسب رأيه- في السرديات المسرحية والقصصية والروائية وخاصةً تلك التي تدور في فلك جمعية العُلماء ورجالات الإصلاح. كما تبنت السرديات المسرحية نضالات الشعب الجزائري وسمت به إلى العالمية بفضل مبدعين كبار يعدون رواداً في هذا الجنس الأدبي، من أمثال رشيد القسنطيني، بشطارزي وعلالو ومصطفى كاتب وغيرهم.
صاحب «نزر الغرب»، أضاف: «اِحتلَ الفرنسيون الأرض ثم سعوا لاِحتلال الفضاء السردي، لأنّ الجزائر أضحت قِبلة للأدباء والشُعراء والمبدعين الفرنسيين الذين وجدوا فيها شرقًا جديداً مليئاً بالعجائب والغرائب والخوارق. كما غذت الجزائر كتابات الأنثروبولوجيين والإثنوغرافيين والمؤرخين والجغرافيين الذين سعوا إلى إضفاء الشرعية على الوجود الاِستعماري من خلال اِستيهاماتهم وإسقاطاتهم ورغباتهم الدفينة بعيداً عن كلّ موضوعية. وقد اِنهار هذا الصرح الوهمي كله مع ثورة نوفمبر التي فضحت كلّ شيء وقوضت كلّ هذه الأساطير الاِستعمارية والأوهام المُرتبطة بها».
وفي ذات المعطى، واصل قائلاً: «حرص الجزائري على اِستعارة سلاح اللّغة وتوجيهه كأداة نضال ومقاومة ضد المعمر، وقد تأتى له ذلك بفضل التمدرس والتحكم في الفرنسية. إنّ اللّغة الفرنسية تتحقّق على أنقاض وأشلاء الفرنسية التي أصبحت لغة أجنبية عند المُتلقي الفرنسي. وهكذا تمت برمجة التعبير عن الذات والهوية وحُلم التحرّر وتصفية الاِستعمار بواسطة هذه اللّغة التي طوعت وحملت ثقافة الأم وإرادة الحياة».
وبهذا، -كما يُضيف المُتحدّث- ظهر جيلٌ بأكمله وهو جيل الأسطورة المُؤسِسَة للرواية والّذي يُمثله كِبار الروائيين من أمثال كاتب ياسين ومحمّد ديب ومولود فرعون ومولود معمري وآسيا جبار ومالك حداد. أخذ هذا الجيل على عاتقه مهمة التعبير عن الثقافة الجزائرية وتقديم صورة حية للعالم عن نضالات الشعب الجزائري وحلمه في الحياة والتحرّر.
وفي المُقابل، يعتقد الدكتور بودربالة، أنّ رواية «نجمة» لكاتب ياسين، تعد بمثابة الأسطورة المُؤسِسَة للرواية الجزائرية دون مُنازع، وقد اِستطاع المُؤلف من خلالها تفكيك المُتخيل الكولونيالي لتأسيس مُتخيل جزائري مُتحرّر من التبعية للرواية الفرنسية.
أستاذ الأدب المقارن والترجمة بجامعة باتنة، اِختتم بقوله: «نُواجه اليوم تحديات كُبرى في مجال الغزو الثقافي الّذي تقوده العولمة التنميطية التي تسعى لتفكيك الكيانات الوطنية وإعادة صياغتها وفق مشروع الهيمنة وأمركة العالم. تُواجهُ شعوب العالم الثالث خطراً داهمًا مُتمثلاً في الفضاء الأزرق وسيطرة اللّغة الإنجليزية على العالم بدون وجه حق والتحكم في كلّ ثقافات العالم بهدف القضاء عليها وإدخالها متحف التاريخ وانتزاع كلّ ما يمت بصلة إلى الديناميكية والفعالية والتاريخ».
* الأستاذ والباحث الأكاديمي منقور عبد الجليل
السرديات الجزائرية ولدت بميلاد المُجتمع الجزائري بعد الاِستقلال والتصقت بقضاياه
يقول الباحث الأكاديمي وأستاذ عِلم الدلالة وتحليل الخطاب، الدكتور عبد الجليل منقور، من جامعة عين تموشنت: «إنّ السرديات الجزائرية المتشبعة بالرّوح الاِجتماعية ولدت بميلاد المُجتمع الجزائري بعد الاِستقلال، والتصقت بقضاياه وعبرت عن مآسيه وتطلعاته من خلال حملها لمشروع الإصلاح الشامل في ذات الإنسان بربطه بكينونته وهويته وفي محيطه الاِقتصادي والاِجتماعي بنبذ كلّ مخلفات الاِستعمار مثل الإقطاع ونمو طبقة الأثرياء التي هي اِمتداد لطبقة الكولون الذين اِستغلوا الإنسان الجزائري وسخروه لأغراضهم ليزدادوا غنىً ويزداد هو عوزاً وفقراً».
مُشيراً في هذا السّياق إلى أنّ رواية «نهاية الأمس» الصادرة سنة 1975 تُمثل اِنتهاء ثقافة المُستعمر المُتجلية في المُمارسات التمييزية بين أفراد المُجتمع، فلا بقاء للإقطاع واِستحواذ فئة قليلة من المجتمع على ثروة البلاد واستعبادهم لأكثرية الشعب.
فالقِيم السلبية التي تنتمي للحقبة الاِستعمارية –حسب قوله- عملت رواية «نهاية الأمس» على تقويضها ومُناهضتها عبر إعمال صراع بين شخصياتها، لتكون الغلبة في الأخير للبطل «البشير» على «اِبن العمري» الإقطاعي المُستغل لنفوذه السياسي (اِبنه أمين عام البلدية)، وكأنّ «البشير» أتى ببشارة التنوير لحياة جديدة في ظل العدالة الاِجتماعية لأنّه حامل لمشروع إصلاحي أساسه العِلم (شهادة جامعية).
فسياسة التجهيل -كما يُضيف المُتحدّث- التي اِنتهجها المُستعمر والتي هي أرضية خصبة لنمو الإقطاع وانتشار الفقر والآفات الاِجتماعية، كانت محل اِهتمام الروائي اِبن هدوقة، ولم ير لها من علاج إلاّ بنشر العِلم وتدعيمه، وإحداث قطيعة جذرية مع التخلف والتقاليد التسلطية الموروثة عن المستعمر.
ومُستدركاً يُواصل: «فالثقافة الكولونيالية التي أرادت أن تستمر في الوجود في مجتمع الاِستقلال (الإقطاع، التخلف، التجهيل، التفكك الاِجتماعي، التهليل للمُستعمر..) كانت من الأفكار التي شكلت أساس موضوعات الرواية عند اِبن هدوقة، وقد اِنخرط اِبن هدوقة وغيره في المشروع الإصلاحي الّذي تبنتهُ الدولة مع بداية سبعينات القرن الماضي، مُنتقداً الأوضاع الموروثة عن الحقبة الاِستعمارية، مُصحِحاً المفاهيم التقليدية التي علقت بمقومات المجتمع الجزائري كاِنتشار الشعوذة والسحر والأساطير..».كما يرى من جهةٍ أخرى، أنّ رواية «اللاز» للطاهر وطار تُمثل نموذجاً حيًا للقيم التي رَوَّجَ لها المُستعمر، فبطل الرواية «اللاز»، يبدأ مسيرته خائنًا لوطنه، مُنتقمًا من شعبه، مُذعنًا للمُستعمر خاضعاً لأوامره، وهو رمز للجزائري الّذي فَقَدَ هويته الاِجتماعية، والوطنية، إلاّ أنّه يتدارك أمره ويلتحق بصفوف الثورة ويعمل تحت إمرة «زيدان» ذي التوجه الشيوعي، فتتحقّق هويته الوطنية بعد أن تحقّقت هويته الاِجتماعية، حين (اِكتشافه أنّ زيدان أبوه).
مُشيراً إلى أنّ القيم الثّقافيّة التي يسعى «وطار» إلى ترويجها في عمله كثيرة ومنها: أنّ الوعي الوطني مُتأصل في الفرد الجزائري، فقد ينهار أمام ظروف اِجتماعية فيستسلم لهواه، ولكن يقظة الضمير تنقذه من التهاوي في مساحيق الخضوع والخنوع، وهو ما تُمثله مسيرة بطل رواية اللاز.أمّا القيمة الثقافيّة الثانية، فهي -حسب الدكتور منقور- أنّ الوحدة الوطنية سبيلٌ للخلاص من الأزمات التي تعترض مسيرة الوطن، ففي اِشتداد المحن على الوطن وجب أن تذوب كلّ النزعات في قناعة واحدة تصب في مصلحة الوطن. وهو ما تمثل في نزوع «زيدان» ذي التوجه الشيوعي إلى الاِنضمام للثورة بل وأضحى أحد زعمائها.
واختتم بقوله: «إنّ الوعي الحاصل لدى روائيي فترة السبعينات كان بارزاً في غلبة الفِكر على اللّغة، إذ أضحى الاِهتمام بصناعة الفكرة أكثر من صناعة الجملة، وما ذلك إلاّ دليل على اِرتباط الروائي بقضايا أمته تنويهًا أو اِنتقاداً، ولكنّه في الأخير هو اِنتصار للثقافة الوطنية ودفاع عن قيمها الأصيلة».