رافق التفكير الفلسفي الإنسان منذ القدم، فعملت الفلسفة على توعية الإنسان في إدراك ذاته وعلاقاته بالمجتمع والمحيط، من خلال تشخيص مختلف القضايا المرتبطة به، غير أنّ الراهن يشهد تطورات تكنولوجية وتقنية متغلغلة أبرزت مشكلات على كافة المستويات الحياتية والمعيشية، ما يجعل الفرد يتساءل عن دور ووظيفة الفلسفة وكيف يمكن أن تتعامل مع هذه التحولات الجديدة.
إسلام قيدوم
* البروفيسور هشام معافة
مهمة الفلسفة رسم الحدود الإيتيقية
يرى البروفيسور، بجامعة عبد الحميد مهري قسنطينة 2، هشام معافة، أنّه لا يمكن فصل التطوّر التكنولوجي الهائل الحاصل عما عرفته البراديغمات الإنسانية من تسارع، فإذا كان النموذج الزراعي قد ظهر منذ 2000 سنة والصناعي منذ 200 سنة، فإنّ النموذج المعلوماتي ساد منذ 20 عاما، كما أنّ ما عرفته الإنسانية من تطوّر في العشريتين الأخيرتين فاق بكثير ما شهدته من تقدّم خلال 4000 سنة، إذ أفرز هذا التطوّر التقني ما يمكن تسميته بحضارة التقنو- علمي.
وأردف المتحدّث أنّ ما تشهده اليوم العلوم والتكنولوجيات المتقاربة تجاوز كل الطموحات التي كانت تصبو إليها الإنسانية منذ عقدين، بحيث يشهد تزايدا أنطولوجيا لوضع الإنسان المعاصر بشكل مطرد، مع توسيع تطبيقات التقنو- علمي الإنساني، فالممكن التقني المسلّط على البيولوجي لم يعد محظورا إيتيقا على نحو فتحت التقنية ولا تزال المجال رحبا أمام توسيع الغايات الإنسانية وتعديل الطبيعة البشرية بشكل غير مسبوق.
وبشكل خاص يلفت، معافة، إلى تطورات الهندسة الوراثية الراهنة التي جعلت منها سلاحا ذو حدين، إذ تشكّل وعدا ومشكلة في ذات الوقت، إذ سيصبح بالإمكان في وقت قريب علاج أمراض خطيرة، ومن جهة أخرى فإن المعارف الجديدة المكتسبة في الهندسة الوراثية بوسعها أيضا أن تسمح بالتلاعب بالطبيعة الإنسانية، بشكل يمكن فيه زيادة القدرات الجسدية والمعرفية فوق القدرات العادية.
ويقول ذات المتحدّث إنّه إذا كانت التقنية وهي أمر لا يمارى فيه قد استجلبت الكثير من الانتصارات للإنسانية، إلا أنها قادت إلى تدمير هائل للبيئة والوسط الطبيعي، كما فتحت المجال أمام العديد من الممارسات غير الإنسانية، جراء التلاعب بالطبيعة البشرية، مثل المساس بحرمة الجسد الإنساني والكرامة، كذلك هدر القيم العليا كالمسؤولية والحرية وحق الفرد في مستقبل مفتوح.
وأضاف البروفيسور، معافة، أنّ المهمة الراهنة للفلسفة في ظل التضخّم التقني تتمثّل في رسم الحدود الإيتيقية لهذه الممارسات، ولعل «هانس جوناس» من الفلاسفة الذين بيّنوا وضع الفلسفة والأخلاق المعاصرة، حينما جعل التقنية عاملا جوهريا في العلاقات الأخلاقية، تعكس التحول من المركزية الإنسانية إلى مركزية التقنو- إنسانية، فالتقنية يضيف محدّثنا لم تعد محايدة، بعيدة عن كل معنى أخلاقي قد تحمله، بل أصبحت متغيّرا مؤثرا في الطبيعة الإنسانية، تضخّمت بموجبها قدرة الإنسان ومجال الهيمنة التي كان يرومها منذ إعلان «ديكارت» الشهير « إنّ غرض العلم ليس المعرفة لذاتها بل السيطرة على الطبيعة».
ويعتقد المتحدّث أنّ معادلة الإنسان سيّد للطبيعة أحالته إلى موضوع وشيء لا يختلف عن الأشياء المادية، بحيث اختزلته في بعد واحد مادي، وعليه فمهمة الفلسفة أن تعيد للإنسان توازنه ككائن للقيمة، إذ أنّ الإنسان بدون قيمة هو كينونة بلا عالم ولا معنى، كما أنّ نقد حضارة التقنو- علمي، هو فضح لهيمنة العقل الأذاتي بواسطة التقنية، وكذا تحرير له من إغراء الرأسمالية ومجتمع الرفاه الذي اختزل القيم الإنسانية السامية ضمن أخلاق فردانية تنشد السعادة في لذة آنية عابرة وإدمان استهلاكي مفرط.
* الأستاذة غنيمة هارون
الفلسفة تحاول التخلص من الاستقطابات العميقة
ترى أستاذة الفلسفة بجامعة حسيبة بن بوعلي بولاية الشلف، أنّ الفلسفة تظهر وكأنّ لا شأن لها بهذه المسائل المتعلّقة بالتكنولوجيا والتقنية، غير أنّ الحقيقة هي تعدّ في صلب الأمور التي تبحث فيها الفلسفة التي من طبيعتها أن تنظر في أي موضوع كان وفي أي شأن، كما تطرح أسئلة تتعلّق بحقيقة الموضوع وتشك في مبادئه وأهميته ونتائجه وكذا أهدافه القريبة والبعيدة، وكيف إذن لا تتساءل عن التكنولوجيا وما أفرزته من نتائج سواء إيجابية على الفرد وعلى البيئة عامة أو سلبية، باعتبار أنّ التطورات التكنولوجية بكل أبعادها لها انعكاسات فلسفية مباشرة على الإنسان ومصيره وكذا البيئة عامة. وتقول، هارون، إنّ الفلسفة لا تقدّم حلولا ولكنّها تثير تساؤلات حول الموضوع وتنبّه إلى مخاطر القضايا التي تطرحها التكنولوجيا من أجل إيجاد حلول لها قبل فوات الأوان، وتضيف المتحدّثة أنّه على الفلسفة أن تواصل وتحقّق غايتها التي هي أخذ الرقيب على العلماء وتجاربهم، بل أن تراقب كل التطورات التي تحدث في كل المجالات والتخصصات وأن تقوم بدور الرقيب والوسيط بين المجتمع والعلماء، وتعتقد الأستاذة أنّه على الفلاسفة مثلما على العلماء التفكير في طريقة التحكم في القدرة التي بلغها الإنسان، للتقليل من المخاوف القانونية والعلمية المشروعة أو حتى القضاء عليها إن أمكن. وتحدّثت، هارون، أنّه منذ ظهور الفلسفة في اليونان منذ القرن السادس قبل الميلاد مع مؤسس المدرسة اليونانية «طاليس»، وهي تبحث في كل ما يثير دهشة وغرابة الإنسان، عن الوجود والكون، كذلك كل ما يتعلّق بقضايا الإنسان سواء الاجتماعية، الأخلاقية، المعرفية أو الثقافية وغيرها، وفلسفة اليومي رافقت الإنسان منذ أن بدأ يطرح الأسئلة حول القضايا التي تثير دهشته وتنبّهه إلى أهميتها ولما يحدث حوله.
وأوضحت ذات المتحدّثة أنّه لا حدود للتفكير الإنساني ولا يمكن القول أنّ مبحث فلسفة اليومي كاف للتفكير والبحث في مختلف التحولات التقنية، ما دام الإنسان لا يتوقّف عن التفكير والإنتاج، كذلك الفلسفة اليوم تعمل دائما على تطوير أدواتها وآلياتها، فضلا عن طرق معالجتها للمواضيع، إذ تحاول أن تتولى الإجابة عن الأسئلة المستجدّة باستمرار حول الحياة بجميع أبعادها، وتضيف المتحدّثة أنّ الفلسفة اليوم تحاول كما يقول «هابرماس» أن تتخلّص من الاستقطابات العميقة والمرتبطة برؤى العالم التي سادت الفلسفة في القرون السابقة، لترتكز على موضوعات خاصة بالفهم الأخلاقي التي بإمكان الجنس البشري أن يكوّنها عن نفسه.
* البروفيسور إسماعيل مهنانة
الأطروحات الفلسفية القديمة لا تزال راهنة
يقول بروفيسور الفلسفة بجامعة عبد الحميد مهري قسنطينة 2، إسماعيل مهنانة، إنّ التطورات التكنولوجية المتسارعة تطرح يوميا أسئلة فلسفية عن الفلسفة نفسها، أي عن مهمّتها ووظيفتها وجدواها في هذا العصر، كذلك عن مدى قدرة التفكير الفلسفي على مواكبة هذا العصر السائل المتغيّر، فالمهمة التقليدية للفلسفة كانت دائما بناء التصورات والمفاهيم، وهي ثابتة أو تدعي الثبات والصلابة في مواجهة واقع سائل ومنساب ومتغيّر، لقد ولدت الفلسفة اليونانية أصلا من هذا الجدل بين المتغيّر والثابت، بين الصيرورة والوجود، بين الكائن والكينونة.
ويوضّح مهنانة، أنّ الفيلسوف اليوناني «هيراقليطس» مثلا بنى فلسفته على فكرة أنّ كل شيء في تغيّر وصيرورة وسيلان دائم، لا مكان فيه للثبات، كما أنّ الثبات مجرّد وهم يوجد في الفكر لا الواقع، وعلى هذا الفكر أن يتحلى بالكثير من اليقظة ليتمكّن من إقامة أصيلة داخل واقع متحرّك، إذ أنّ في هذا الأخير تنتفي المعرفة، أي قوانين ثابتة تحكم العالم، لكن الإقامة بالقرب من الأشياء ممكنة إذا توفّرت الحكمة.
ويرد «بارميندس» عليه في المقابل بأطروحة مضادة، تفيد أنّ التغيّر والصيرورة هي الوهم وأن الواقع ثابت واحد، فكل ما يرى من تغيرات مجرّد تجلّيات عابرة للثابت والواحد، فعلى الفكر أن يتكشّف الواحد الثابت والصمدي الموجود خلف مظاهره المتغيرة، وفي هذه الحالة كذلك تنتفي المعرفة الحقّة، بما أنّ المعرفة ترصد المتغيّر لا الثابت، ثم جاء أفلاطون وأراد التأليف بين الأطروحتين وتوحيد المتغيّر في قانون ثابت لكي يؤسّس المعرفة الحقّة بمعنى العلم.
وقاده ذلك يضيف المتحدّث، إلى القول إنّ الفكر الثابت هو قانون الواقع المتغيّر، لكنّ الفكر يمتلك من الوجود الواقعي ما يؤهله لكي يكون حقيقيا وموثوقا في معرفته للواقع أكثر مما يمتلكه هذا الأخير، كما أنّ علم الرياضيات الثابت هو بطانة هذا الفكر، مثلما أنّ الطبيعة أو الفيزياء هي بطانة الواقع المتغيّر، والسؤال المطروح الآن حسب، مهنانة، هو هل تعتبر هذه الأطروحات راهنة أم تمّ تجاوزها، وإلى أي مدى لا تزال الفلسفة القديمة توفّر المفاتيح لفهم الواقع الحالي.
ويعتقد محدّثنا أنّ كل الأطروحات الفلسفية اليونانية القديمة لا تزال راهنة وأنّ العصر التكنولوجي المعاش حاليا لا يزال يحمل نفس الأسئلة، فلقد تحوّل الواقع إلى الشاشة والصورة ممثلة في الهاتف والتلفزيون، وهو واقع منفلت ومزيّف ومتغيّر إلى حدّ الوهم مثلما عبّر عنه المتحدّث، لكن الخوارزميات الرياضية التي تتحكّم في هذا الواقع / الصورة علم ثابت يوجد في الفكر، واستشهد البروفيسور، مهنانة، بمثال لأفلاطون عندما استعمل أمثولة الكهف لكي يطرح مشكلة المعرفة والوعي والإدراك، لأنّ لغته الفلسفية لم تكن تتوفّر على مفاهيم كالدماغ والجملة العصبية والبنية العصبية اللغوية، غير أنّ الأسئلة التي طرحها في أسطورة الكهف هي ذاتها التي تطرحها علوم الدماغ والأعصاب حاليا.
فالكشوفات البيولوجية وتطبيقاتها التكنولوجية على غرار السيبورغ، الإنسان الآلة، الإنسانية المتجاوزة، كلها تصورات طرحها «أرسطو»، «ديكارت» و»ليبنتز» من قبل، كل بعدّته المفاهيمية واللغوية المتوفّرة في عصره، كما قدّم، مهنانة، مثالا آخر يتعلّق بالذكاء الاصطناعي وعلاقته بحرية الإرادة والقرار، حيث تعتبر مسألة قديمة، متسائلا ماذا لو زوّدت طائرات «درون» بالذكاء الاصطناعي لتظهر المجرمين والأشرار والقضاء عليهم على أساس بيانات مفتوحة من محاضر الشرطة والمحاكم، ثم في لحظة ما حقّقت هذه الروبوتات استقلالها الكامل، فهل تصبح روبوتات بإرادة حرة؟.
وأردف محدّثنا أنّه يشتغل على مشروع منذ مدّة يتمثّل في إعادة قراءة كل تاريخ الفلسفة، منذ اليونان الأوائل، بوصفه أسئلة راهنة، بوصفه عجزا مؤقتا في اللغة الفلسفية، إذ أنّ الفلسفة القديمة بحثت دائما عن اللغة الدقيقة التي تطرح بها المشكلات الراهنة، لكن تأخر العلوم في عصرها هو المسؤول عن هذا العصر وليس الفكر الفلسفي.