يخطئ من يظنّ أنّ حركة الترجمة التي رفعت لواءها بعض المؤسسات في بعض البلاد العربية تقوم على مشروع حضاري حقيقي له رؤيته واضحة المعالم بيّنة الطريق، يظهر هذا في «المشروع القومي للترجمة» في مصر، أو وزارة الثقافة السورية أو مشروع كلمة للترجمة في أبو ظبي، أو ما يقوم به المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت أو في غيرها مع قيمة ما بذلته هذه المؤسسات من جهد لا يُنكره إلاّ جاهل أو جاحد.
ياسين سليماني
وإذا كان المترجمون في الغالب مهووسين مع دور النشر التي يتعاملون معها بالتتبع بلهفة آخر ما صدر في أوروبا والولايات المتحدة فإنّ الأمرَ يكون فادحا إذا ما انتبهنا إلى الثقافات الأخرى التي لم يتم الانتباه إلى أهمية الترجمة عنها. ويكفي للتأكيد على هذا الرأي أننا نربط في أذهاننا مصطلح الترجمة دوما باللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية وربما نحكُّ رؤوسنا لنتذكر الإسبانية والروسية، فإن تحدثنا عن الفرنسية فإننا نقوم بترجمة ما يصدر بفرنسا بالذات، وليس ما يأتي من بلاد أخرى تتحدث بالفرنسية كلغة رسمية مثل البلاد الإفريقية المختلفة. وهذا ما ينطبق على الإنجليزية أيضا.
ولعلّ هذا يظهر واضحا من خلال تتبع المدارس الفكرية التي ظهرت في الغرب إذ ينكشف لنا أنّ المترجم العربي قد حاول مساوقة أجدد الأفكار الظاهرة فيه بشكل متقطع منفصل عن بعضه البعض بعيدا عن مساءلة جادة عن أسباب تكوّن هذه المدارس ثم انقطاعها وحلول غيرها مكانها. فتمت ترجمة أدبيات الماركسية، أصولا وفروعا، ثم الليبيرالية والتنويعات التي أنجزت عليها وصولا إلى البنيوية التي احتار العرب في ترجمة موحدة لاسمها، وما بعد البنيوية، وما بعد الحداثة.
وبعيدا عن الرؤية الناقدة المتفحصة التي تظهر أهمية هذه المدارس من عدمها والتي لم يحاول المترجم الانتباه إليها إلاّ نادرا فإنّ هذا المترجم غالبا ما يقترح بنفسه الترجمة انطلاقا من ثقافته وإيديولوجيته لا انطلاقا من حاجة الثقافة العربية في سياقها الوجودي والحضاري لهذا العمل أو ذاك، وكان الناتج إثر هذا ظهور رغبة محمومة في اللحاق بالغرب بعيدا عن أيّ محاولات بحثية في هذه الرؤى التي تفد علينا من خلال هذا «النقل». لذلك اكتشف العربيُّ أنّ مسيرة الترجمة التي قطع فيها أشواطا لا تزال قاصرة، مع أنّ فيها ما هو هام، قد حرمته من تجارب الكثير من الشعوب والثقافات في العالم كان السبيل الوحيد لمعرفتها هو الترجمة. فأي معرفة لنا نحن العرب تمثيلا لا حصرا بالفلسفة اليابانية أو الصينية اليوم؟ وأي معرفة لنا بالمسرح الآسيوي في الكوريتين؟ وفي إفريقيا؟ أو ما يُسمى بثقافات الهامش في مقابل ثقافة المركز وهي كما يظهر بجلاء: أوروبا وأمريكا.
وإذا كان السؤال الكبير الذي كان يطرحه أنصاف المثقفين في محاولة للمقارنة بين درجة المقروئية في الغرب وعندنا نحن العرب، والحديث المتكاثر أنهم يقرؤون في كل مكان، الميترو والحافلة، القطارات، والساحات العامة وغرف النوم ، بينما لا يقرأ العرب، بدل السؤال الأجدى: ماذا يقرأ هؤلاء؟ إذ لا تهم كثرة القراءة عند هؤلاء إن كان ما يُقرأ لا يضيف للمعرفة الحقيقية شيئا ذا خطر.
أقول: إذا كان هذا السؤال كثيرا ما يُطرح، فإنّ سؤالا مقاربا يُطرح على درجة كبيرة من الحدة كبديل عن السؤال التقليدي: لماذا يُترجم في بعض البلاد الأوروبية الصغيرة كإسبانيا في عام واحد ما لم يترجمه العرب في عقود. وهو السؤال: ما الذي يجب ترجمته؟
فبعيدا عن منطق المغلوب على أمره، الذي يجد في ترجمة ما هو فرنسي أو أمريكي بأنه الثقافة كلها، وهو عين التقدم وأُس الحضارة، في ذوبان مقيت يُفقد هوية الإنسان وثقافته وجذرية أفكار أساسية في حياته، فإنّ الترجمة عليها أن تلتفت إلى الكثير من المناطق التي تم السكوت عنها بشكل قاسٍ.
فإذا جعلنا طيّا بعد نشر، فإننا نجد في المسرح المترجم إلى العربية ما يشبه ما مضى من قول، فقد سيطرت النظرة الأرسطية على كل دراساتنا للمسرح، بحيث لا نفهم المسرح إلاّ انطلاقا من النظرة الغربية له، وتاريخيا، لو تمت ترجمة المسرح في شرق العالم (في اليابان والهند والصين وهو عريق) قبل المسرح الأوروبي، لتمّ التعرّف على الكثير من الأشكال المسرحية النابعة من التراث العربي مثل السير الشعبية والأراجيز وغيرهما دون أن يقوم المسرحي العربي باستبعادها، لأنّ الاستبعاد هنا كان بسبب المركزية الأوروبية التي اختارت نماذج معينة سمتها مسرحا وأقصت غيرها واتبعها العرب فأقصوا جزءا هاما من تراثهم كان يمكن الاشتغال عليه والتأسيس لمسرح عربي تتوافر فيه الأسس والجماليات المطلوبة يتأتى من تراث وقيم أصيلة لا من تراث الأغيار وقيمهم على الرغم مما في التراث الأوروبي من قيمة عالية وأهمية أيضا.
هذه النظرة القاصرة للمترجم العربي جعلته يسمي بعض المسرحيات الفرنسية الرديئة بالعالمية، على الرغم من أنها قد لا تكون أصلاً مقروءة كنصوص أو مشاهدة كعروض بالدرجة الكافية في بلدها الذي ظهرت فيه.وقل هذا عما يكون في بريطانيا أو الولايات المتحدة. بينما تم تجاهل حاد لتجارب آسيوية راقية مثل أوبرا بكين الصينية أو مسرح كثاكالي الهندي العريق (والحق أنّ الآداب السنسكريتية التي غيّبتها الترجمة ذات أهمية فائقة فنيا وجماليا)، أو مسرح اليابان بشكليه الأكثر أهمية : « نو noo» ومسرح كابوكي. على الرغم من أنّ انتشار اسم «نو» للدلالة على المسرح الياباني ظلّ انتشارا شكليا بعيدا عن توسيع قاعدة المعرفة العربية تجاه هذا المسرح بالشكل الحقيقي من خلال الترجمة والعرض والنقد الصحيح.
يتناول الدكتور عبد الوهاب المسيري هذه الفكرة بكثير من التحليل، ويؤكد أن «المترجم العربي في كثير من الأحوال ليس مفكرا، وحيث أنّ المترجمين لا يمتلكون مشروعا حضاريا واضحا فإنهم يقومون بترجمة آخر ما صدر في الغرب وأهم ما صدر فيه من وجهة نظرهم» على ما ذكر في كتابه الحواري: الثقافة والمنهج. وهو يردّ ساخرا على طلب وجهه له الدكتور لويس عوض: ما رأيك أن تنقل لنا آخر صيحة في الغرب؟ بقوله: وما يدريك لعلني أحب أول صيحة؟ ثم يؤكد: وبالفعل أجد العصور الوسطى الغربية فيها كثير من الأشياء المهمة والتجارب الإنسانية العظيمة التي لم تُنقل للإنسان العربي. ولم يفكّر أحد في القيام بترجمة المسرح الإندونيسي (...أو) في نيجيريا وغيرهما.
وهي فكرة وجيهة من عدة جوانب، وإن كان كاتب هذا المقال قد قرأ بعض الترجمات من المسرح الإندونيسي إلى العربية، كما من نيجيريا، فإنها تبقى شحيحة جدا، لا يمكن أن تُعطي تصورا حقيقيا عن حال المسرح وقيمته في هذه البلاد. إننا جاهلون حقا بما يُقدم في إفريقيا وآسيا، كما كنا جاهلين بفداحة إلى ما يُقدم في أمريكا الجنوبية لولا «نوبلة» بعض الكتاب التي فتحت المجال للاهتمام بهم. وإنها لقضية خاسرة أن لا نهتم بثقافات شعوب وبلدان عدا التي استعمرتنا بالمدافع أو بديبلوماسيتها الخشنة، بينما نهدر إمكانيات قد تكون قيّمة لأننا نلخّص العالم في ثقافات محددة عوّدنا أنفسنا أنها المركز.
قام المسيري في تجربة لها قيمتها، بترجمة مسرحية بعنوان «افتتاحيات الهادئ»، ألفها الأمريكيان: ستيفن سوندهايم وهو مؤلف موسيقي، وصديقه جون ويدمان، وهي كما يظهر مسرحية أمريكية كتبت باللغة الإنجليزية. غير أنّ الاختلاف في هذا العمل، يتجلى من خلال استخدام الكاتبين لتقاليد المسرح الياباني لا الأرسطي، إذ ينتمي العمل إلى مسرح الكابوكي، الذي أشرت إليه سابقا، وهو مثقل بالرموز والإشارات، ويرتبط بشكل قويّ بالبنيات الثقافية والحضارية المتأصلة عند اليابانيين، وحاول الكاتبان بوضوح أن يشجبا الحضارة الغربية كما تصدّرها الولايات المتحدة. غير أنّ ما يُستنتج أيضا من اختيار هذين المؤلفين للكتابة بهذا الشكل، هو محاولة القول بتعدد الأشكال والقوالب في المسرح وعدم اقتصارها على ميراث اليونان، رغم عمق هذا التراث.
تبدأ المسرحية بهذا الشعر الرقيق:
«في منتصف العالم نطفو/ في منتصف البحر/ تستعصي كلُّ حقائقنا, تنأى/في منتصف البحر/في بعض الأنحاء/تحرق رايات لملوك/في أنحاء أخرى/العجلات تدور/تندفع قطارات تسعى/تلتهم القضبان /وحروب تغنم /تتخلق أشياء/تُصنَع /في بعض الأنحاء /هناك بعيدًا /ليس هنا ..
إنها نوع من المسرحيات المبهرة، الماتعة، التي تفتح الأعين على ما يقدمه الإنسان الشرقي الذي لم نفلح أن ننتبه إلى جماليات الفنون التي يقدمها إلا نادرا. ومع التأكيد على وجود بعض المحاولات المتشظية لترجمة مثل هذه الأعمال، إلاّ أنّ النقص الفادح في هذا يجب أن يتم الانتباه إليه وتوطيد العزم على التخفيف من حدته. وهذا لا يكون إلاّ باستيراتيجية حضارية واعية هدفها الاستفادة من تجارب مختلف الثقافات بعيدا عما يراه البعض انفتاحا على الثقافة الغربية بينما هو في الأصل انغلاق عليها وتوقف عند حدودها التي غالبا ما لا نُترجم منها إلاّ ما يُراد لنا ترجمته لا ما يجب علينا نقله إلى لغتنا.