هل الكاتب الجزائري قريب من الواقع ومجتمعه، هل ينطلق في كتاباته من هذا الواقع ومحيطه بكل زخم همومه ومشاغله وتحولاته وإرباكاته، أو يكتب وهو في برجه العاجي والوهمي بعيدا بمسافات عن الواقع وحياة وهموم وتطلعات الناس بكل شرائحهم التي تشكل نسيج المجتمع و واقعه وسياقاته. الروائي الصديق حاج أحمد الزيوانى، يرى بهذا الخصوص، أن "هناك كُتّاب يكتبون من برجهم العاجي، وعادة هذا الصنف يرى الآخر المكتوب عنه في الواقع، بشيء من الدونية للآخر وتعالي الذات الكاتبة، لكن أمره نسبيّ كذلك بين الكُتّاب". أما الكاتب بشير خلف فيرى العكس، إذ يقول أن الكاتب الجزائري نجح في التفاعل مع واقع مجتمعه، والتعبير عنه وتشخيص اختلالاته، ومعايشة تحولاته. أما الناقد عبد الحميد هيمة، فيعتقد أن الكثير من الأدباء انعزلوا عن الواقع ولم يعد لهم ذلك التأثير في مجتمعاتهم. ورغم إقرار الناقد قلولي بن ساعد بأن أغلب الكُتاب يقدمون نصوصا تصدر عن رؤيا عميقة بالحياة وتحولات المجتمع، إلا أنه يرى من جهة أخرى أن تعاملهم مع تيمة المجتمع وتحولاته الاجتماعية والسياسية غالبا ما تكون ضبابية. في حين يرى الروائي محمد العيد بهلولي، أن الأدب الجزائري لم يكن في مستوى الواقع بزخمه وتعقيداته إلا نادرا.
استطلاع/ نوّارة لحـرش
بشير خلف/ كاتب وناقد
الكاتب الجزائري لم يتخلّ عن رسالته والكتابة عن الواقع
في رأيي الشخصي توجد علاقة متينة بين اكتمال ثقافة الكاتب، ومستوى وعْيه لِمَا يجري حوله اجتماعيا، واقتصاديا وسياسيا، وثقافيا، لا كفرْدٍ حيادي راصد فقط لما يجري، إنما كعنصر فعّال وفاعل، انطلاقا من مدى اقترابه من الفهم الصحيح للعلاقات، والصراعات والمشاكل المعاصرة له محليا وإقليميا ودوليا، وتأثيرات العولمة التي تغلغلت في شتى مجالات حياتنا، ومدى استفادته –أي الكاتب– من التراكم المعرفي الذي استعصى على أي مثقف اليوم ملاحقة ما يُبثّ وما يُذاع وما يُنشر، هي كُلها عوامل من الأهمية بمكان تدفع المثقف الكاتب بجعل كتابته ذات قيمة وذات تأثير، إذْ كيف أكتب عن مجتمع دون الغوص في أعماقه ومعايشة انشغالاته، ودون تفهّم لمشاكله؟في الجزائر ومنذ الاستقلال ظهر على الساحة كُتّاب، ومبدعون ذوو مستوى عالٍ سواء في الأجناس الأدبية أوفي كل مجالات المعرفة، وما كتبوه، ونُشر خاصة قبل التسعينيات من القرن الماضي، وما أدّوْه للمشهد الثقافي الجزائري قبل ظهور الوسائط التكنولوجية الحديثة، ونجحوا في التفاعل مع واقع المجتمع الجزائري، والتعبير عن واقعه، وتشخيص الاختلالات به، وما دعّم ذلك نسبة المقروئية التي كان الكتاب أداتها الفعّالة، ومنذ بداية التسعينيات من القرن الماضي برز جيل جديد من الكُتاب عاشوا، ويعايشون التحوّلات المتسارعة في المجتمع الجزائري، راصدين لها ومعبّرين عنها كلٌّ في مجال تخصصه، ولستُ مع القائلين بأن الكاتب الجزائري بعـيد عن واقع مجتمعه، ويعيش في برج عاجي، إنما المعطيات تغيّرت، إذ لم يعد الكاتب هو مصدر المعرفة، بل فقد وظيفته المعرفية التأثيرية مثلما فقدت المدرسة والجامعة وظيفتيهما.منْ يزور معرض الجزائر الدولي السنوي، وكذا معارض الكِتاب الجهوية، أو الولائية يُفاجأ بالإصدارات الجديدة كل سنة للكُــتاب والمبدعين الجزائريين في كل التخصصات وما تتضمنه العديد من العناوين لا يخرج عن راهن المجتمع الجزائري، إنّما وقد سيطرت مصادر معاصرة فيها من جاذبية العرض، وكثافة المعارف، وتسارع نشرها بالصوت والصورة، طرح إشكالية تدنّي المقروؤية في الجزائر، بل والعزوف عنها وكساد الكِتاب الورقي، ومنافسته من قبل الكِتاب الرقمي، عوامل زحزحت موقع الكاتب إلى الخلف. وصل بنا الحال في بلدنا إلى أن يفتخر المعلم، والأستاذ وحتى الأستاذ الجامعي أمام أصدقائه بأنه طوال السنة لم "يكسّرْ رأسُ" بقراءة كتاب أو مجلة، أو حتى صحيفة ما عدا ما يحتاج إليه في عمله التدريسي.نعوم تشومسكي أستاذ اللسانيات والفيلسوف الأمريكي يرى أن المثقف هو: «من يحمل الحقيقة في وجه القوة». إذا توقفنا عند تعريف تشومسكي للمثقف، أي المثقف الكاتب المُنتج للمعرفة. وهو الذي يحمل الحقيقة في وجه القوّة، يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: (أيوجد في أيامنا هذه مثقفون بإمكانهم توظيف الحقيقة في وجه القوة التي تفْــتِــكُ بعالمنا المعاصر، وتخلق الصراعات والحروب، والأزمات المستمرّة مُتسبِبة بمآسي للإنسانية سيّما في ربوع العالم العربي؟، وهل لدى هؤلاء المثقفين بكتاباتهم، ومواقفهم من الوزن ما يجعلهم مؤثرين في عالم يصنعه المال وإغراءاته، والسياسة ومفاتنها، والإعلام بكل تقنياته ووهجه، وفي صدارته الصورة التي تشكل المعرفة الإنسانية في كل لحظة؟).
عبد الحميد هيمة/ ناقد وباحث أكاديمي –جامعة قاصدي مرباح، ورقلة
الأدباء انعزلوا عن الواقع ولم يعد لهم ذلك التأثير في مجتمعاتهم
موضوع هام جدا، جدير بأن يُطرح على طاولة النقاش، لأنه يرتبط بوظيفة الأدب وكذا علاقة الأدب بالمجتمع هي بالذات تشمل علاقة الأديب بمجتمعه ووعيه بما يجري حوله وكشفه ما يخصُّ المجتمع وما يَخفى على الآخرين، باعتبار أن الأدب فن من الفنون الجميلة يعكس الحياة الاجتماعية، ووسيلته في ذلك التعبير الجميل عن تلك القيم بالكلمة المعبرة الموحية، وتكتسب هذه الوظيفة الاجتماعية للأدب أهميتها خاصة أثناء الأزمات، وأثناء الظروف العصيبة التي يعيشها المجتمع والمتتبع للأدب الجزائري قبل الاستقلال يجد أنه كان ملتزما بقضايا مجتمعه وفي مقدمتها قضية مقاومة المحتل الفرنسي الغاشم، حيث ارتبط الشعر الجزائري بفكرة النضال، وغدا الأدب وسيلة من وسائل المقاومة وشحذ الهمم، وحمل النفوس الأبية على الثورة ضد الاحتلال والتضحية في سبيل الوطن، وسارع الأدباء/ الشعراء خاصة إلى اعتناق الثورة والتغني ببطولاتها وأمجادها، فلم يتخلفوا عن معانقة ومعايشة الثورة الجبارة منذ انطلاقتها المظفرة، وصدق محمد العيد عندما قال: "ثورة الشعر أنتجت ثورة الشـعب وعادت عليه بالآلاء".ولعل هذا الذي يفسر مدى تعلق الإنسان بالشعر، إذ أنه يجد فيه إشباعا لحاجاته الاجتماعية، فهو المعبر عن آماله وآلامه، فهل ما زالت للأدب هذه المكانة في أيامنا هذه وما هي إشكالات التجربة الأدبية الجزائرية المعاصرة، ولكننا مع ذلك نلحظ جملة من الإشكالات التي وسمت بعض هذه التجارب، يأتي في مقدمتها إشكالية العلاقة بين النص والمتلقي حيث إن إيقاع التحولات الأدبية السريع أدى إلى تجاوز القارئ بمراحل عديدة مما أدى إلى إحداث القطيعة بين هذه التجارب وعامة القراء، فبدلا من أن تمد هذه التجارب الأدبية المعاصرة جسور التواصل مع الجمهور أخذت تتعالى عليه، وتزعم الاستغناء عن القارئ، وبالتالي أخفقت بعض هذه التجارب في جر قاطرة الثقافة والإسهام في تغيير الواقع.
الأمر الثاني هو ابتعاد بعض الأدباء وخاصة في مجال الشعر عن الوظائف الاجتماعية والتربوية للقصيدة الشعرية وتركيز بعض هذه التجارب على الوظائف الفنية والجمالية للنص المرتبطة بتجديد اللغة وتنمية طاقاتها التعبيرية وكذا احتواء المواقف التأملية الكبرى من الكون والوجود، وهي وظائف لا تشغل بال الغالبية العظمى من الناس مما زاد من تكريس عزلة الشاعر عن الواقع المعيش في حين أن الشاعر الحق صاحب رسالة وله دور في بناء المجتمعات وهو مطالب بأن يكون أكثر التحاما بقضايا مجتمعه وهو الذي يملك الوسيلة المؤثرة، لأن كل شيء يمكن أن يزول إلا أثر الكلمة فللكلمة دور في بناء المجتمعات وأكثر ما يظهر هذا الدور في المواقف العصيبة والأزمات، وقد لعبت الرواية الجزائرية دورا حاسما أثناء العشرية السوداء في التسعينيات، وتفاعلت مع تلك الظروف العصيبة تفاعلا إيجابيا، حيث سجلت لنا الأحداث السياسية الخطيرة التي عصفت بالبلاد فيما عرف "بالعشرية السوداء" أو "المأساة الوطنية" وأسهمت في تقديم بعض الرؤى الخاصة بالبحث في أسباب الأزمة، والعوامل التي أدت بنا إلى الوقوع في حمام الدم والنار في تلك الفترة بأدوات فنية متفاوتة، ولعل من أهم هذه الأعمال نذكر رواية "الشمعة والدهاليز" للطاهر وطار، "سيدة المقام" لواسيني الأعرج و"راس المحنة" لعز الدين جلاوجي وغيرها من الأعمال السردية التي استطاعت أن تتفاعل مع الواقع وتقدم لنا وعيا أدبيا وفنيا عميقا يهدف إلى تشخيص معرفة فنية للراهن، إنها بحق نماذج ناضجة لأدب المحنة يدهش القارئ باكتمال إبداعه وتماسك وحداته وقدرته على تجديد وعي الإنسان بالواقع بغية الوصول إلى عمق التجربة بطريقة فنية تجمع عناصر الواقع وتكشف عن التناقضات الكامنة فيه. ولذلك فإن الأدب اليوم بجميع فنونه مطالب بأن يرتبط أكثر فأكثر بواقعه لأننا نشعر أن بعض الأدباء انعزلوا عن الواقع ولم يعد لهم ذلك التأثير في مجتمعاتهم، كما كان من قبل وصدق جبرا إبراهيم جبرا عندما قال ذات مرة: "كان الجواهري إذا كتب قصيدة العراق كله يهتز، اليوم ألف واحد يكتب ألف قصيدة لا أحد يهتز".
الصديق حاج أحمد الزيواني/ روائي
الكُتّاب يختلفون في نظرتهم للواقع وتناوله
معايشة الكاتب للكِتابة في تعريته للواقع أتمثّلها تماما كالطبيب وآليات استعمال الدواء فبحسب النظر للحاجة ونجاعة الطريقة يتعاطى الطبيب مع الدواء وحالة المريض فهناك حالات يصلح فيها وصف الأقراص دون الحقن، أو التحميلات الشرجية دون الكبسولة المبلوعة، ومن منظور أن الكاتب ينطلق في نظرته للعالم وللكينونة، من رؤية الأنا والآخر، فإنه محمول افتراضيا، أن يعي ذاته وما يدور حولها.. فعديد المشاهد الحياتية اليومية، التي تعترضنا عرضا دون سابق إنذار، في البيت، أو الطريق، أو العمل، أو السوق، أو في الجرائد والفضائيات، أو غيرها من الأماكن، يمارس معها الكاتب مغازلتين، الأولى آنية، والثانية بعدية، وفي العادة –إلا ما ندر– فإن الاستفزاز الآني، الذي يقع للكاتب، يكون مع جميع المشاهد واللحظات الملتقطة، أما الاستفزاز البعدي، فيكون بحسب إنتقائيته، وموقفه من الحدث، أو المشهد، فيستدعي الأهم من الذاكرة، لكون تلك المشاهد الهامة المُلتقطة، قد شكّلت على الكاتب ضغطا متسلطا، في قاعة الانتظار، أمام بوابة عقله، ولن يستريح منها، ومن توتراتها المنغّصة، إلا بإفراغها حبرا على الورق، ومن ثمة يشعر بنوع من السعادة تعتمر ذاته، كأنه ريشة خفيفة في مهب الريح.. هكذا أتصور الكاتب في معايشته للواقع، وللذات الناظرة إليه، على الأقل في تقديري الخاص المتواضع.بيد أن الكُتّاب، يختلفون في نظرتهم للواقع وتناوله، وزوايا النظر إليه، بحسب المرجعية الابستمولوجية، والنشأة الاجتماعية، والتكوين الخبراتي للحياة، فالكاتب الذي عاش ويعيش الرفاه، سينظر دوما، لحياة الهامش، على أنها غير ذي أهمية، كما أن الكاتب، الذي عاش التشرّد والحرمان مثلا، سينظر لحياة الهامش، على أنها هي الجديرة بالاستنارة والكتابة والتمثُّل.. لن تكون الكتابة حافرة في الواقع، ما لم تكن واعية، فالوعي هو الرهان الوحيد، الذي يجعلنا نحوّل الأشياء البسيطة في حياتنا وواقعنا، إلى أشياء ضاجة بالمعاني والرمزيات، فالكتابة الواعية الناضجة، محكومة بثلاثة أشياء، الأولى: الموهبة، والثانية: القراءة، والثالثة: الخبرة الحياتية.بالنسبة للكاتب الجزائري، أرى المسألة نسبية، ولا يمكن تعميمها سلبا أو إيجابا، بمعنى أن هناك كتّاب لهم وعي بواقعهم، ويختالون النظر له دائما، ويجسّدون ذلك في كتاباتهم، سواء كانت التجربة شعرية أو سردية، أو في أي جنس آخر، ولا فرق بين كُتّاب المركز وكُتّاب الأطراف، مع مراعاة الخصوصية الجغرافية والسوسيو ثقافية طبعا، فلكل فئة اهتماماتها، التي تمليها البيئة والمحيط، فواقع الكاتب في الجنوب مثلا، محكوم بمنظومة اجتماعية قَبلية، ضمن إطار جغرافي وتاريخي، مختلف تماما عن الكاتب الذي هو في الشمال. وبالمقابل هناك كُتّاب يكتبون من برجهم العاجي، وعادة هذا الصنف يرى الآخر المكتوب عنه في الواقع، بشيء من الدونية للآخر وتعالي الذات الكاتبة، لكن أمره نسبيّ كذلك بين الكُتّاب.
ربما من باب التمثيل، وحتى لا تبقى المساهمة، تجنح للتنظير أكثر، فعلى المستوى الشخصي، يمكن اعتبار تيمة نصي الروائي الثاني (كاماراد– رفيق الحيف والضياع)، كأنموذج للكتابة عن الواقع، فلكون منطقتنا (ولاية أدرار)، منطقة حدودية مع دول الساحل الإفريقي، فهذه الخصوصية الجغرافية، جعلت منها منطقة عبور استراتيجي للأفارقة الحراقين، ما جعلني أرصد الظاهرة عن قرب، وأفاعلها بما استبطن في وعيي القرائي والمُشاهد، من ظاهرة الهجرة وأبعادها الإنسانية، الأمر الذي دعاني في نهاية المطاف، للكتابة عنها.
محمد العيد بهلولي/ روائي
نادرا ما يقترب الأدب الجزائري من الواقع أو يكون في مستوى زخمه وتعقيداته
إذا اعتقدنا سلفا أن الكاتب لا يكتب إلا ما يحس ويشعر به عبر الانغماس والمعايشة فإن الملاحظة تذهب مباشرة إلى -التواجد- في الواقع أو في الحالة التي ولدت هذا الإحساس أو ذاك الشعور، كيف يتسنى أن نكتب عن ألم الآخر إذا لم يتفاعل الكاتب مع الألم الذاتي وبذوره ومنابعه ومذاقه؟. الواقع في نظري هو مزرعة الكاتب التي يلزمها ولا يحيد عنها إلا بالموت، هو قطعة الأرض التي عليه أن يحرثها ويفلحها ويسقيها من عرقه، وإذا اقتضى الحال يرويها من دمه. الحرث والزرع وتنقية المساحة من الحشائش الضارة والأشواك الحادة التي لاشك تنغرز بأصابعه ولحمه.
فالعملية ليست تسلية أو تزجية للوقت إذن الإنعجان بأرض الواقع ضرورة حتمية تعطي نتائجها في آخر الحصاد. كلما إندغمنا أكثر في التربة وأفدناها بوسائل الخصب كلما كانت النتيجة ثمينة ومغرية وبداخلها دوافع حياتها وكينونتها: قصة -رواية - سيناريو .. شعر، -. وفي عصرنا فقد أصبح للأديب دورا علميا، يعتمد على التفاعل مع الظواهر، في الاستقراء والاستكشاف والوقوف الميداني على مسرح الأحداث وهناك أمثلة حية على ذلك، فالأديب والمفكر الأنجلو ساكسوني كولن ويلسن طاف العالم وفرنسا بالخصوص على متن دراجة هوائية وحقيبة كتبه على ظهره، من أجل الكتابة أما هنري ميلر الأمريكي فقد عايش طبقة المهمشين والسكارى والمنبوذين تحت جسر بروكلين حتى يكتب رواية في مستوى "الربيع الأسود"، أما كاتب ياسين فقد هاجر ثلاث سنوات إلى فيتنام كي يكتب رائعته "الرجل صاحب نعل المطاط"، لا يمكن في نظري أن ينعزل الكاتب عن حياة الناس بأفراحها وأتراحها، خاصة في هذا العصر السريع والمتجدد والمتداخل بالهزات والصراعات والحروب. الأديب الملتحم هو الذي يعطينا نصا موثوقا وإضافة نوعية للشرط البشري وأنطولوجياه ويساعد على الاستمرار في المقاومة وإبداع الحياة.
شخصيا لا أتصور الكتابة من خارج الواقع حتى وإن كانت، فهي عبارة عن تكهن وضرب خط رمل، لا أقصد بالواقع -النقل الفوطوغرافي- لمظهره الخارجي، فالواقع أغنى من النقل الفوطوغرافي السطحي إنما أعني بما رسمته والغوص فيه وتحسس نبض الناس والتمعن في الحزن الإنساني وفلسفته والإصغاء للبوح الآخر.
كتابة الواقع تعني الحج إلى ربوع البلاد بقراها الصائمة عن التغيير بدساكرها وحواريها، بمدنها وعواصمها الحافلة بالقلق، وغياب الهدف الثقافي والفكري ولما لا الذهاب بعيدا في رحاب الأرض. تلك هي كتابة الواقع التي يجب أن يبرزها الكاتب بطريقة فنية ورمزية تدفع على اللحاق بالركب وتغري بالتحول والتغيير. أما بالنسبة للأدب الجزائري وقربه من الواقع فأنا شخصيا لم أقرأ نصا قويا أو رواية في مستوى الواقع وزخمه وتعقيداته وغناه وبؤسه إلا نادرا، لا أدعي أنني قرأت كل ما كتبه الجزائريون، إنما الشيء القليل الذي قرأته لا ينبئ بالعمق ولا بالإحاطة والبعد الفلسفي الذي تشتمل عليه الحياة البشرية في هذا الحيز من كوكب الأرض.
قلولي بن ساعد/ قاص وناقد
المبدع يتعامل مع تيمة المجتمع وتحولاته بضبابية
من الطبيعي جدا أن تصدر الكتابة الإبداعية من تواشج واقع اجتماعي وذاتي يجد تجذره في نص يتحسس دبيب المجتمع وأحوال الذات/ ذات الكاتب منشئ النص، وغالبا ما تتأسس بعض القيم الواردة في النص الإبداعي على بعض حالات الوعي الاجتماعي، انطلاقا من عوالم الكاتب الذاتية والنفسية والسوسيولوجية القائمة على ما يسميه بول ريكور "بالهوية النصية"، فالنص هو بطاقة تعريف لمنشئه وفي هذه العوالم تتجلى ضمنا أو صراحة بعض هموم الكاتب الاجتماعية، كالفقر وغياب العدالة الاجتماعية وفرص الحياة البعيدة عنه والرغبة في التحرر الاجتماعي والسياسي والذاتي، وهي كلها مؤشرات تعبر عن محيطه وبيئته وفضائه الاجتماعي الذي جاء منه، ومنه تشكل وعيه بالحياة والوجود والكتابة. وبالتالي فهو مرآة له إلى حد الاقتراب من "النضال الاجتماعي" عبر النص والكتابة، خاصة بالنسبة للذين تحمل بعض نصوصهم الإبداعية بعض عناصر الرؤية الاجتماعية، بالمعنى السوسيولوجي العميق، وهذه الرؤية موجودة في أغلب النصوص الإبداعية وإن بدرجات متفاوتة، وأحيانا تتمظهر بشكل ضمني بما في ذلك تلك النصوص التي يدعي أصحابها التجريب وتفجير اللغة والإحالة إلى بياض وغير ذلك من مفاهيم الكتابة الحداثية.
فأغلب الكُتاب الكِبار نصا وسياقا يقدمون نصوصا للقارئ تصدر عن رؤيا عميقة بالحياة والتحولات المفصلية التي تعرفها مختلف المجتمعات التي جاءوا منها، فالشعر والإبداع عموما مثلما يقول أدونيس هو "تأسيس بالرؤيا"، لكن هذا لا يعني أبدا خلو عالم الإبداع من بعض الرموز الإبداعية المنتمية إلى الطبقة المخملية أو "الطبقات المسيطرة" بالمعنى الطبقي أو الماركسي، وفي نصوص هؤلاء تتمظهر أبعاد الغربة عن المجتمع والإغراق في التجريد إلى درجة الترف الفكري وهي تعتبر الكتابة نوع من الترف الذي لا يليق "بالغاشي" أو "العوام" أو القطيع الذي "لم يتمدن" بعد أو "فائض المعنى" بتعبير بول ريكور، والامتياز المخصوص لصفوة المجتمع والتعالي عن المجتمع بل واحتقاره ووضعه ضمن خانة "اللامفكر فيه أو المسكوت عنه"، وترى أنه غير جدير بالتعامل معه كمعطى سوسيولوجي وإبداعي خاصة على الصعيد الروائي على اعتبار أن الرواية هي الطفلة المدللة للمدينة والمدنية والحضارة لارتباطها بالأنتلجانسيا التي ظهرت في العواصم والحواضر والمدن الكبرى مع الأخذ بعين الاعتبار أن أغلب الكُتاب هم من أصول ريفية وبدوية، وحتى أولئك الذين نشأوا في المدينة العربية الحديثة النشأة فانتماؤهم للأحياء الشعبية الفقيرة التي نشأوا فيها لا يمكنهم من تجاوز بعض آثار الكتابة الإبداعية المعبرة عنهم وعن أوضاعهم ورؤياهم الاجتماعية أو "الكلية الاجتماعية" مثلما يسميها المفكر الماركسي جورج لوكاتش.
غير أن الغريب في الأمر، وهذا أمر يدعو إلى التدبر والمساءلة أن بعض الكُتاب القادمين من الفضاءات الريفية الفقيرة تجدهم سرعان ما يتنكرون لمجتمعاتهم ولأصولهم الريفية والشعبية ويقفزون بسرعة البرق إلى التعلق بأذيال التجريب دون وعي به، ودون الوعي بأن المسافة الحضارية بيننا وبين المجتمعات الأوربية بوصفها الفضاء الثقافي المناسب للتجريب كبيرة والفجوة عميقة جدا، وأن هذه المجتمعات بعدما أنجزت ثورتها الصناعية والتكنولوجية ومهامها الحضارية انتقلت فيها الرواية إلى مرحلة أخرى من النمو والتجريب بأن "تشيأ" فيها الإنسان وقضت على جوهره الحضارة الحديثة إن جاز لنا أن نستخدم مصطلح جورج لوكاتش "التشيؤ" الوارد في كتابه "التاريخ والوعي الطبقي" ضمن الفصل الذي سماه "التشيؤ والوعي الطبقي" وفقد قيمته كإنسان وكروح وككيان فصار الروائي يتعامل مع أبطاله بوصفهم أشياء كباقي الأشياء والأدوات الأخرى، بينما نحن كمجتمعات عربية لا زلنا نستخدم الكانون والحطب و"المنسج" وغيرها من وسائل الحياة التقليدية ولم ننجز بعد شيئا ولا زلنا لم نقطع بعد شعرة معاوية مع أصولنا الريفية ونفكر بها ومن خلالها وهي كل ما نملك من مخيال اجتماعي لم يتأسس بعد كنص إبداعي يعبر عنا وعن خصوصياتنا الأثنية والثقافية والهوياتية في أبعادها الرمزية والدلالية وهمومنا، بل ويمثلنا أفضل تمثيل ومع ذلك ينبغي توخي بعض الحذر عند لحظة الكتابة، فتعامل الكاتب والفنان المبدع مع مختلف التحولات الاجتماعية المفصلية في بلده ومحيطه الاجتماعي القريب منه كتيمة أو كمعطى إبداعي لا يعني أن نحول النص الإبداعي إلى وثيقة اجتماعية أو سياسية أو "خارطة طريق" لأن هناك فرق جلي بين النص الإبداعي والخطاب الاجتماعي أو السياسي، فالمفروض أن يترك مسافة فاصلة بين الموضوع وبين "أدوات عرض المادة المضمونية" بتعبير السعيد بن كراد للحفاظ على شعرة معاوية التي تشد القارئ إلى النص كخطاب إبداعي يستدعي التخييل والصورة الفنية واللغة الإبداعية والبناء الفني والجمالي لإضفاء نوع من المشروعية لتأكيد وعيه بالكتابة التي تطرح أسئلة الراهن والمصير بشكل قد يضعه أمام مسؤولياته التاريخية والحضارية.
وفي هذا السياق أتصور أن الذين يتهربون من التفاعل مع تحولات المجتمع أو المجتمعات الصغيرة التي جاءوا منها ومن خلالها تشكل وعيهم الإبداعي ومن كافة "التقاطبات المكانية" بتعبير لوري لوتمان بكل حالاتها الظرفية والسوسيولوجية والذاكراتية كمعطى إبداعي هم أنفسهم الذين لا يريدون إضاعة مواقعهم المحسوبة بدقة والقيم النفعية التي تعودوا عليها باسم الإبداع، المهيئون لمحاولات "الصناعة الظرفية للمتخيل الإبداعي" بتعبير الدكتورة آمنة بلعلى، والتراكم الكمي للمطبوعات والنصوص كعناوين بريدية وإشهارية يستغرب القارئ الحصيف لكثرة حضورها في المشهد الثقافي العربي البائس على صعيد التتويجات المناسباتية وغيرها، تقف وراءها مؤسسات لا يعنيها منه إلا ما يوفره لها من نصوص تصلح فقط للتوظيف الدعائي عند تشغيل آلة الرصد وفقا لما تتطلبه المناسبة أو المرحلة، وهذا ليس حكما قيميا، فمنظورات الكتابة متعددة وليس من حقنا بالطبع ولا من حق أي كان أن يحدد للآخرين كيف يكتبون، إنها مجرد رؤية هي الأخرى نسبية بالنظر لتعقد وضبابية تعامل المبدع الجزائري مع تيمة السياسة والتحولات الاجتماعية في النص الإبداعي الذي يبدوا أنه لا يزال ورشة مفتوحة على اللانهائي من الأسئلة الممكنة الصادمة للوعي القائم، وعي المبدع ووعي القارئ معا لتحقيق ذلك الشرط التاريخي الذي لا بد منه، والذي سماه المفكر الشهير إدوارد سعيد في كتابه "النص والعالم والناقد": "دنيوية النصوص" التي تناهض في منظور ادوارد سعيد "تلك الثقافة التي لا تأمر أعضاءها إلا بالتوكيد والامتثال"، ولأجل ذلك وقع اختيار ادوارد سعيد لشخصيات أدبية من القرن التاسع عشر كفيكو وسويفت على ما يذكر هو نفسه في كتابه الآنف الذكر من الذين وجد في نصوصهم ما يغري بالبحث عن الطابع الدنيوي للنصوص تأكيدا منه كما يرى بأن "عصرهما كان يطالبهما بمطالب ثقافية ومنهجية وبمهام شاقة تتمثل في مقاومة كل الضغوط في كل ما أقدما على فعله" للوصول إلى هذا الأفق أفق "النص الدنيوي" أي النص الماثل بيننا متمثلا "للهوية النصية" القائمة فينا في قطيعتها النهائية مع "نصوص الزينة" والاستعراض البسودو/ الجمالي الخالي من القيمة ومن المعنى والدلالة ومن الرؤيا و"الرؤية للعالم" بتعبير لوسيان غولدمان وهو الرهان الذي لا زالت دونه صعوبات جمة "فالنص الدنيوي" الحامل للبعد القائم في "الرؤية للعالم" في المشهد الثقافي والأدبي العربي عموما لا زال نصا غير مفكر فيه بالشكل الذي يجعله نصا حاضرا فينا كأخطر ما يكون الحضور.