ابن خلدون ضدّ التحفيظ ورضا حوحو ضدّ الاستظهار
الدكتور عبد الله حمادي
المتتبّع لأعمال الأديب أحمد رضا حوحو في ما يتعلّق بالتربية والتعليم يجد لدى الكاتب وِجهة نظر تستحق الوقوف عندها وكذلك مقارنتها ببعض وِجهات النظر التي تتقاطع معها في تراثنا العربي الإسلامي وأعني بذلك رأي ابن خلدون الوارد ذكره في مقدمته من فصل "في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه"1 ؛ يقول ابن خلدون في هذا الفصل :" إنّ تعليم الصغار أشدّ رسوخا ، وهو أصل لِمَا بعدهُ.؛ لأنّ السابق الأوّل إلى القلوب كالأساس للملكات ، وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما يُبنى عليه "2 لذا يرى ابن خلدون أنّ أهل المغرب العربي في زمانه كرّسوا في مجال تعليم صبيانهم اعتمادهم الكلّي على ملكة الحفظ وعلى وجه الخصوص تكريس مبدأ تحفيظ القرآن ظنّا منهم أنّ هذا النهج يفيد أبناءهم في اكتساب ملك اللّسان، إلاّ أنّ ابن خلدون يستنكر هذا النهج العقيم ويرى فيه تعطيلا لملكة التدبّر لدى الصغار لأنّ تحفيظ القرآن للصغار كما يقول "لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لمِا أنّ البشر مصروفون كذلك عن الإتيان بمثله فهم مصروفون كذلك عن الاستعمال على أساليبه فلا تحصل لصاحبه مَلَكَة في اللسان العربي"3 وهذا بالنص القرآني الصريح الذي ينفي عن البشر محاولة محاكاة القرآن لا في الشكل ولا في المُحتوى، ويضيف ابن خلدون حجّة أخرى مفادها " غفلة أهل بلاده في أن يُؤخذ الطفل بكتاب الله في أّوّل أمره، يقرأ ما لم يفهم ، وينصب في أمرٍ غيرُهُ أهمّ عليه منه"4 ويُعيب ابن خلدون عن نظريته البيداغوجية لجوء أهل المغرب – وخاصة الأوسط أي الجزائر الحالية – إلى تحفيظ أبنائهم القرآن في الصغر لكونها المرحلة الوحيدة، بل المحطة المناسبة في رأيهم لإجبار أطفالهم على حفظ القرآن " لأنّهم في الحجْر منقادون للحكم ، فإذا تجاوزوا البلوغ وانحلوا من ربقة القهر فربّما عصفت بهم رياح الشبيبة فألقتهم بساحل البَطَالة، فيغتنمون في زمن الحجر وربقة الحكم تحصيل القرآن له لئلاّ يذهب خلوًا منه"5 وبالتالي فنظرية ابن خلدون لا تُحبّذُ إلزام الأطفال في الصغر بحفظ القرآن لأنّها تُعطل ملكاتهم التدبرية العقلية وتجعل منهم أداة لترديد ما لا يفهم من الأقوال والمعاني القرآنية ...
مثل هذه النظرية نجد مثيلا لها عند الأديب الشهيد أحمد رضا حوحو فهو بدوره ضدّ طريقة حشو ذاكرة الصغير بالحفظ، وإن كان لم يذكر حفظ القرآن بالتحديد اللفظي كما فعل ابن خلدون، فهو أشار بالتعميم إلى ما أسماه "الاستظهار" على لسان حمار الحكيم الذي اشتكى له أحد المعلمين بالمدارس الأهلية ركود أذهان بعض طلابه وعجزهم عن الفهم والتفكير في المسائل العلمية ، وانصراف المجتهدين منهم عن الفهم إلى الاستظهار يُنشدون فيه ضالتهم، فيخلصُ بعد تدبّر في المشكلة البيداغوجية العويصة قائلا:" وذلك أنّني وجدتهم قد أُرهقوا بحفظ مواد عديدة لا تُدركها عقولهم الصغيرة، ولا تهضمها أفكارهم الفتيّة، يحفظون بدون فهم فيتعوّدون على الاستظهار، وقِوى الفهم والتفكير عاطلة فيهم، لا تتغذّى ولا تنمو حتّى إذا ما كبُر الطالبُ أصبح بليدا عديم الفهم والإدراك، يصعب على المعلّم علاجه، وهو في سنواته الأخيرة ، سنوات استخدام قِواهُ العقلية التي ينبغي تربيتها وتمرينها وتغذيتها في أيّامه الأولى. والطفل – كما لايخفى – يحتاج في مرحلته الأولى إلى التربية الصِّرفة؛ أعني تربية عقله وتمرين ذهنه"6 .
إنّ حفظ ما لا يُفهم في الصِّغر بصفة عامة نتائجه وخيمة على مستقبل النّاشئة، وكما يقول الأديب المعلّم أحمد رضا حوحو :"الاستظهار بدون فهم في المراحل الأولى هو العلّة الوحيدة والدّاء العضال الذي يضرُّ بالتلاميذ؛ وذلك لأنّ الاستظهار بدون فهم يولد في التلاميذ اعتياد التكلّم بدون تفكير، فيعمى الذهن ويفلجُ الفكر، فإذا ثابر الإنسان خلال سنين عديدة على الاستظهار بدون فهم، وعلى التكلّم بدون فكر يضيّعُ بالتدريج الرابطة التي لا بدّ من وجودها بين الكلام والعقل، فهي تضعف وتتلاشى شيئا فشيئا إلى أن تنقطع كلّ الانقطاع، وتأخذ الكلمات عندئذ تمرّ في الذّهن وتخرج من الفهم من دون أن توقظ فكرا ما، أو تُولّد ملاحظة ما"7 ...
موقف أحمد رضا حوحو من الأدب والأدباء
من بين ما ورد في أعمال أحمد رضا حوحو رأيه المتميّز حِيال الأدب والأُدباء ، وتميّزه في رأيي لكونه يصدر من مُحترف بامتياز لحرفة الأدب الأثيرية ، والتي لا يُدرك كنهها سوى من تعاطى هذه الحرف النبيلة عن دِراية ومُمارسة ؛ فأديبنا أحمد رضا حوحو عوّد قرّاءهُ على قول ما يعي ويُدرك لذا يجب التعامل مع مدوّنة رضا حوحو بشيء من الجديّة والاجتهاد، فالآداب والفنون في رأيه " هي المقياس الصادق لأحوال الأمم، وهي الميزان الصحيح لقوةّ إنسانيتها، وشرف عواطفها ، وسموّ روحها، وهي جديرة بالعناية، وجديرة بالبحث والتقدير، فهي ليست من الكماليات ، وليست طلاء خارجيا كما يُتوهّم، بل إنّها أساس لا بدّ منه لرُقيّ الأمّة وحفظ كيانها"8 ؛ هكذا هي نظرة رضا حوحو للأدب والفنون، فهي ليست مجرّد طلاء ولا كماليات تُزيّن بها المظاهر الخارجية كما تتصوّرها الأنظمة المتخلّفة أو المغلوبة على أمرها كما هي الحال بالنسب للجزائر أيّام الاستعمار الفرنسي الغاشم والتي يقرّ أحمد رضا حوحو أنّ نصيب الجزائر من الآداب في تلك المرحلة هو أنّ" كلّ ما لدينا من الثروة الأدبية هذا النزر البسيط من أدب المقالة، وشيء ضئيل النّظم ولا فنّ مُطلقا ..."9 وبهذا يتوصل رضا حوحو إلى هذه النتيجة التي تحذّر الأمم الصاعد من مغبّة تجاهل الآداب والعلوم الانسانية بصفة عامة ، كما توصل فيما سبق ذكره إلى مضار الاستظهار في تلقين الأطفال في المدارس ومدى خطورة ما ينتظرهم في مسيرة حياتهم من عواقب وخيمة على مستقبلهم...
(1) - عبد الرحمان بن خلدون : المقدمة ، ج 3 ، تحقيق وتقديم وتعليق عبد السلام الشدادي ، نشر المرك الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الانسان والتاريخ ( CNRPH ) ، الجزائر 2006 ، ص: 220 .
(2) - المقدم ، ج3 ، ص: 220 .
(3) - المقدمة ، ج 3 ، ص: 222 .
(4) - المقدمة ، ج 3 ، ص : 223 .
(5) - المقدمة ، ج 3 ، ص : 223 .
(6) - أحمد رضا حوحو : مؤلفاته الكاملة ، جزء المقالة والصورة الأدبية ، نشر مقامات للنشر والتوزيع ، 2015 ، ص : 108 ، 109 .
(7) - أحمد رضا حوحو : المقالات والصورة الأدبية ، ص : 108 ، 109 .
(8) - أحمد رضا حوحو : المقالات والصورة الأدبية ، ص : 31 .
(9) - أحمد رضا حوحو : المقالة والصورة الأدبية ، ص : 37 .