تطالعنا وسائل التواصل الاجتماعي ،هذه الأيام، بخطاب كراهية تعكسه شتائم متبادلة بين جزائريين و هم يناقشون مسائل اللّغة والهوية والدين والعلمانية، بل حتى وهم يناقشون مسائل دولية بعيدا تماما عن الشأن الوطني. النصر تحاول في هذا العدد من «كراس الثقافة» تشريح هذه الظاهرة بمساهمة نخبة من الأكاديميين والباحثين من مختلف حقول المعرفة، من خلال إجابتهم على سؤالين: من أين تأتي الكراهية؟
وما العمل الواجب القيام به لإشاعة ثقافة الاختلاف وتقبل الآخر.
خطاب الكراهية هش لكن جذوره عميقة
أعتقد أن الكراهية بالمعنى السياسي هنا ليست فقط البعد العاطفي عن الآخر ولكنها تعبير عن الرفض الإرادي لموقف أو نشاط أو لغة شخص آخر. أما طبيعة الكراهية فيحددها هدف الرفض، فإما أن يكون الآخر تهديدا ضد الذات أو لأن الذات تحس ببعدها عن الآخر وتلصق به صفة الشر. في كلتا الحالتين يتم التحقير والقضاء على قيم الآخر وكبريائه بواسطة خطاب يمكن تكراره واختصار رموزه ونقلها من إطار إلى آخر كما يرى الفيلسوف جاك ديريدا.
إذا استعملنا جملة قالها الجنرال المنظر كارل فون كلاوزفيتز بأن «الحرب هي مواصلة للسياسة بأدوات أخرى» فإننا نقول أن «خطاب الكراهية هو مواصلة للسياسة بأدوات أخرى». تحليل خطاب الكراهية يدفعنا للتساؤل إذا ما كان هذا الخطاب تعبير عن آراء فردية أو هو أداة سياسية تؤجج الكراهية؟ هل التعبير عن الكراهية كرأي متطرف هام بالنسبة للنقاش الاجتماعي؟ هذا الخطاب يقود إلى تضارب قيمتين اجتماعيتين وهما حرية التعبير من جهة واحترام كرامة الإنسان من جهة أخرى.
يبدأ خطاب الكراهية حين يحس الناس أنهم لا يملكون السيطرة على ظروف محيطهم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ويلجأون إلى استعمال لغة غير عادية وغير معتادة في الدوائر الرسمية للتعرض للآخر بالتجريح. في الجزائر كما في بقية دول العالم، تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى مساحات شاسعة للتعبير وغدت تعكس العنف الموجود في المجتمع وتلخص الخطاب السياسي والموقف العام في اللغة المستعملة. لغة وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال هي ذاتها أداة لإعادة إنتاج خطاب متكرر «أنسخ ألصق» يحفظ عن ظهر قلب. خطاب الكراهية يعبر عن بعض المواقف والأفعال ونشاطات الحياة العامة لأن ناتج العمل السياسي لغتان: لغة الخطاب العادية (العربية لغة أخبار الثامنة) ولغة الكراهية التي هي شكل من أشكال الإبداع. من قال أن وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام ليست بحاجة إلى هذا النوع من اللغة في عملية خلق المشهد؟
إن استعمال العنف اللغوي وخطاب الكراهية هو جزء من البنية النفسية للأفراد ونتاج التنشئة الاجتماعية والسياسية التي تعرضوا لها وتجربتهم في التعامل مع الظاهرة السياسية. كان الجزائريون دوما يفكرون انطلاقا من نموذج النظام (أي البحث عن الأمن والاستقرار) وليس من نموذج الاختيار الفردي والجدل. قبل الانفتاح على الديمقراطية والتعددية كانت المؤسسات السياسية هي التي ترسم الاتجاهات وتحدد المواقف ولم تكن مواقف الأشخاص، بما في ذلك النخبة، منفصلة عن التيارات الرسمية حتى سميت أحيانا «أبواق السلطة». لم تكن هناك مساحات للتعبير وحتى أولئك الذين كانوا يعبرون عن آرائهم كانوا يتعرضون للمضايقات والسجن لأن سلوكهم في عرف السلطة يقوّض أعمدة الاتفاق والإجماع الوطني حول المشاريع الاجتماعية والسياسية حتى أن أية معارضة مهما كان نوعها تعني الخيانة. حين جاء الانفتاح أصبحت المعارضة للكثيرين تعني «الرجولية» والشجاعة في الوقت الذي غاب القمع وأصبح كل شيء ممكن. جاء خطاب الكراهية الذي راح يستعمل لغة العنف والكلمات البذيئة ويقدم نفسه على أنه لغة المعارضة لكل ما هو قائم حتى أن كل لغة هادئة وظريفة تعتبر مهادنة. الملاحظ هنا أن حرية التعبير يجب أن تكون حقا وواجبا اجتماعيا شرط أن يحترم كل فرد آراء الآخرين وإرادة الأغلبية وهذه روح الحوار والديمقراطية.
في السابق كان التعبير عن الرأي مرتبطا بالكتابة التي هي عملية معقدة تتطلب معارف كثيرة وطريقة في البناء بالحجج والشواهد التاريخية سواء من المجتمع المحلي أو من الحضارات الأخرى. كان الرأي يأتي في شكل موقف عامر بالمعرفة والقدرة على النقد والنقد المضاد لذا كانت الأصوات المختصرة المعبّر عنها في المقاهي والتي تستعمل خطاب الكراهية تعدّ نشازا لا يعتد به. اليوم مع انتشار فايسبوك وتويتر أصبح الرأي فيه كلمة واحدة أو كلمتين هدفها التجريح والبغضاء دون ذكر الشواهد والأدلة حتى أصبح أي نقاش حول الدين أو الهوية يؤدي إلى التنابز والمناداة بالقتل. غياب التفريق بين اللغة العادية ولغة الكراهية، بين الخير والشر، أدى إلى تشويش في المعايير الأخلاقية. هنا أعتقد أن معظم الصحافة المكتوبة منذ عهد التعددية ساهمت في هذا بإتباعها لمنهجية الحديث عما هو ظاهر وهذا بتركيزها على الجانب السلبي من المجتمع وتقديم الصورة بالأبيض والأسود مما لا يسمح بتعدد الآراء. أراد الصحفي أن يلعب دور مفتش الشرطة على شاكلة أفلام هوليوود فأدى إلى خلق ثقافة التحري والاستنطاق وهذا ساهم كثيرا في خلق ثقافة الكراهية. وسائل التواصل الاجتماعي جعلت من أفراد موزعين على الخارطة وكأنهم جماعة متماسكة خلف قيم خاطئة هدامة، فريق من المهمشين والمتمردين الذين وجدوا أداة للفعل السياسي يقزمون بها كل ما يقوم به «الآخر». البعض وجد في خطاب الكراهية شكلا من أشكال المتعة التراجيدية. لم يكن ليقول تلك الأشياء على المباشر فيقولها في صفحة يخلو منها النقاش ماعدا بعض الملاحظات العابرة. المواضيع الكبرى تتطلب مساحات كبيرة. أصبحت المعارضة تمارس من الأريكة ولا تتطلب التجمهر والخطابات والجهد العقلي والجسمي.
فنظرية الخطاب تحاول من جهتها أن تموضع العنف وتقرأه داخل العملية السياسية والأحداث المتسلسلة والمرتبطة ببناء الديمقراطية التي هي في حد ذاتها نتاج التجاذب بين البيروقراطيات والمصالح وجماعات الضغط المختلفة. تحاول وسائل التواصل الاجتماعي أن تعكس الواقع الاجتماعي وفي نفس الوقت تحاول خلق هذا الواقع. الإشكال هو أن الواقع الجديد الذي يحاول خطاب الكراهية خلقه سيكون من دون الآخر حتى أننا نجد بعض الجزائريين يقولون (اللي ما عجبوش الحال يخرج من البلاد) وكأن هذه البلاد ليست ملكا للجميع.
يختلط على الناس الواقع الحقيقي والواقع الافتراضي ويتمكن خطاب الكراهية من خلق عالم افتراضي يقوم على العاطفة وليس العقلانية بحيث يصبح من الصعب على صاحبه التفريق بين حقيقة الكراهية والكراهية كما هي موجودة في الخطاب الذي تمرره وسائل التواصل الاجتماعي. أصبحت هذه الوسائل تخلق الواقع والأحداث وتؤثر على متخذي القرار في توجيه سياساتهم في اتجاهات معينة. الملاحظة هي أن الكثير من الناس يعيشون مع الآخر في الوقت الذي ينتجون خطاب كراهية افتراضي مما يدل على أن هذا الخطاب هو في نهاية المطاف نتاج بنى الوسائل المستعملة. الحديث عن الدين مثلا في الجزائر يتم اختصاره في الإسلام في حين أن الدين يشمل ديانات ومذاهب فلسفية كثيرة. فالتخفي حول الخصوصية والخصائص الثقافية المتفردة هو نوع من النفاق التاريخي الذي لا يجد له مبررا حضاريا لأن الحضارة إنسانية وقاعدتها الأولى هي التنوع.
خطاب الكراهية جزء من الإيديولوجية أو الوعي الخاطئ بلغة ماركس والتي تهيمن على المجتمع وفي النهاية تدفع بالأفراد والجماعات إلى تبني أفكار والقيام بسلوكات هم لا يفهمون مصدرها وهذا ما سماه الفيلسوف أنطونيو غرامشي بالفولكلور أو المستوى الرابع من المعرفة. يعارضون قضايا ويخوضون في نقاشات لا يملكون لها أدلة أو حجج مقنعة. يقبلون خطاب الكراهية لأنه خطاب مختصر وسطحي ولا يتطلب أي عقلانية ولكن الخطر في ذلك هو أن الإيديولوجية مضافة إلى العنف في العمل السياسي تشكل مادة سريعة الاشتعال. يتحول العمل السياسي وكذا مسيرة المجتمع والأدوار التي تؤديها الجماعات إلى أساطير تروى، هذه الأساطير تصبح جزءا من «الحكاية» الجماعية التي يؤمن بها الأفراد كما يؤمنون بالآلهة وتصبح جزءا لا يتجزأ من خطاب الأحزاب ورجال السلطة الذين لا يضطرون هم أيضا إلى استعمال لغة راقية في التعبير عن مواقفهم ما دام المناخ العام لا يتطلب ذلك ويغدو اختصار الحقد أسهل بكثير.
التطور الصناعي الهائل والانقسامات الطبقية في المجتمع التي كانت ضامرة بفعل الاشتراكية أثرت سلبا على الطبقات المتوسطة التي بدأت قدرتها تتراجع وهذا ما يدفع أفرادها إلى الثورة وتبني خطاب عنيف هو شكل من الدرع يعتقدون أنه سيحميهم من التحولات المستقبلية. كبش الفداء بالنسبة للخطاب هو المنظومة التربوية أو الأمازيغية أو أي شيء آخر يخيف لأن الكثير يشير إلى أن من هم في السلطة يبعثون بأبنائهم إلى المدارس والجامعات الغربية ويدفعون بأبناء الشعب إلى الخيارات السيئة. الفكرة هنا هي أنه رغم الديمقراطية الجزائرية ما زالت السلطة تتخذ إجراءات وقرارات شعبوية تريد من خلالها شراء السلم الاجتماعي وإرضاء تيارات وأجنحة قد تمتلك السلطة الكافية لزعزعة النظام. فهم ظاهرة خطاب الكراهية يتم عن طريق المرور إلى منهجية دقيقة أوضحتها النظرية البنائية وهي العودة إلى هوية الخطاب وجذور السلوك لأن الخطاب نتاج سياسات وممارسات تربوية شكلت أساس أدوات التحليل التي يستعملها المواطنون للتعامل مع محيطهم.
الحل لا يكمن في فكرة آنية بل في مسارات ثقافية وأنساق سياسية تطبق على المدى الطويل في كافة المجالات وتتغلغل في جسم المجتمع في كليته وفي الجسم السياسي خاصة كي يفرز ثقافة الحوار وتقبل الآخر. من الضروري التفكير في بناء أخلاقيات لهذه الوسائط الإعلامية من أجل الدفاع عن الحقيقة ورفاهية الأفراد والجماعات المختلفة داخل المجتمع وبالتالي تصبح حرية التعبير جزءا من الضمير أي من الأخلاق والمسؤولية وتصبح «الحقيقة» هي الحقيقة في كل دوائر القيم المختلفة. الواجب في جزائر اليوم هو التركيز على نوع من المصالحة الوطنية النزيهة التي تمر عبر قنوات المجال التربوي ووسائل الإعلام وأهمها جميعا خلق الثقة بين المواطن والسلطة من خلال بناء سياسات رشيدة لا تقصي أحدا ولا تسمح بخلق بؤر توتر سياسية واقتصادية يمر من خلالها خطاب الكراهية الذي أصبح موضوعا لعلم السياسة والفلسفة السياسية منذ بداية التسعينيات. نحن أيضا حان الوقت كي لا نعود إلى الوراء بل نتعلم من أخطاء الماضي ونفتح آفاقا على النقاش الوطني الذي يجعل من الجزائر بكل شساعتها وتنوع ثقافات سكانها المُسَلمة الرئيسية في أي حوار. إذا ما لم يتم التفكير في هذا بجدية، ستتفاقم الظاهرة وتؤدي إلى شرخ داخل جسد المجتمع يدفع الوطن بسببه ثمنا باهظا لا نرجوه.
عبد السلام يخلف / كلية العلوم السياسية / جامعة قسنطينة
النزوع إلى الهويات المغلقة احتجاج على السقوط غير الموفق في التاريخ
يبدو لي، بخصوص الحديث عن الكراهية والعنصرية، أنه من الأنسب أن نتناول هذه الظاهرة - التي أصبحت تميز ردود أفعالنا وتتحكمُ في حكمنا على الظواهر والأشياء - بنوع من التعقل الذي يفرض علينا، بداية، عدمَ الانسياق وراء الهياج السَّائد حاليا إعلاميا وسلوكيا. فمن الخطأ، برأيي، التوقف عند رؤية الجزء الظاهر من الجبل الجليدي كي نعلن عن خيبتنا إزاء الإنسان الجزائري وقد تحول فجأة إلى كائن عنصري يكره المختلفَ ويحاربُ الاختلافَ الدينيَّ واللغوي والعرقي. أعتقدُ أن للظاهرة التي تطفو على سطح حياتنا نبذا وكراهية ورفضا للآخر المختلِف جذورًا يمكن ردّها، أولا، إلى الفشل في بناء دولة المواطنة والحقوق بالمعنى الشامل. فالقضية، بهذا المعنى، مسألة تتعلقُ بإخفاق الدولة الوطنية - منذ فجر الاستقلال – في توفير المناخ العام لممارسة المواطنة والحريات وضمان شروط العيش المُشترك. لقد ظلت هذه المشكلات مؤجلة وظلت تُعتبرُ ثانوية قياسا إلى مهام الدولة الاجتماعية والاقتصادية العاجلة زمن سيادة الحزب الواحد بإيديولوجيته الشعبوية كما هو معروفٌ. ولكنَّ انفجار «المسألة الثقافية» أواخرَ القرن الماضي بعد انهيار الإيديولوجيات الخلاصية الكبرى قذف بقضايا الهوية إلى السطح ما جعلها تصبحُ طوقَ نجاةٍ للملايين الذين لم يعودوا يعثرون على أنفسهم إلا في تلك الروابط التقليدية السابقة أحيانا على وجود الدولة الوطنية الخائبة تنمويا وسياسيا. من هنا رأينا انفجارَ الأصولية الدينيَّة وتنامي النزوع الإثني الشوفيني ويقظة المطالب الثقافية العالقة من غفوتها النسبية.
يمكننا، بالتالي، أن نقفَ على جذر التنابذ بين الجزائريين، اليوم، في سياق يتجاوز ما يُمكنُ أن نرى فيه تحولا مُرعبا أو خيارًا فئويا. إنه النتيجة المُلازمة حتما لظروفٍ لم تتمكن بصيرة السياسيّ الإيديولوجي سابقا من استشرافها والعمل على تفاديها من خلال برامج تحتويها سياسيا وقانونيا وثقافيا وتربويا. ومن الضروريّ أن نلاحظ أيضا، على ما أرى، أن هذا الأمرَ لا يتعلقُ ببلدنا وحده وإنما يُمكنُ اعتباره من إفرازات العولمة الليبرالية التي بوَّأت الهوية الصَّدارة مكان مشكلات التنمية والارتقاء بحقوق الإنسان. إن تطاحن «القبائل الكوكبية» يصنعُ ربيعَ اليمين الثقافي والسياسيّ تحت سماواتٍ أخر وهو ما يتجلى بصورةٍ واضحةٍ في العنصرية المتفاقمة في الغرب اليوم أيضا وفي الانكماش الهوياتي لأحفاد من بنوا مجدَهم في الماضي على «الأنوار» الكونية و التبشير بقيمها التي حملوها إلينا مع الاستعمار. فالمسألة، بهذا المعنى، تُعبّرُ عن أزمةٍ من أعمق أزمات فشل الوعود العولمية في تحقيق نهايةٍ سعيدةٍ للتاريخ. لقد أصبحت الهويات التي تُعبّرُ عن حاجة الإنسان الطبيعية إلى الانتماء «قاتلة» بتعبير أمين معلوف. ولكن كيف حدث هذا؟ من المعروف أن هذا الميل إلى الانكماش أصبح، بدوره، علامة على الخيبة في عالم لم يَعُد يعِدُ بالكثير بعد أن توارى الصَّخبُ الإيديولوجي التقليدي الذي رافق معظم المشاريع الطليعية وبعد أن خبا ضوءُ اليوتوبيا التي ظلت انتظارًا لإطلالة فينيق التقدم في ليل الأزمنة. لا يُمكنُ فهم النزوع إلى الهويات المغلقة – في بعض أوجهه - إلا باعتباره احتجاجا على السقوط غير الموفق في التاريخ. تلجأ الذاتُ الجماعية إلى البحث، من جديدٍ، عن الطوطم الديني والثقافي وإلى الاعتصام بالبدايات السَّعيدة بعد أن فقدت بوصلة الاتجاه؛ ويقودها الدّوارُ الذي سبَّبه تاريخٌ قاتمٌ من عدم الاعتراف إلى الرغبة العميقة في التطهر من كل ما علقَ بها فتقطعُ علاقاتها بالآخر. لا تولدُ وردة الشوفينية والعنصرية السَّوداء إلا على خرائب الفشل في احتضان التاريخ.
إنّ الظاهرة ذاتُ بُعدٍ أنثروبولوجي أيضا كما يفهمُ ذلك الباحثون الأكثر طليعية في العالم اليوم. فلا تفريغ لشحنة العنف الكامن في العلاقات الاجتماعية إلا من خلال توجيهها إلى «كبش فداء» يتمّ تحديدُه باعتباره الآخرَ الذي يجعل الذاتَ الجماعية تشعرُ بهويتها وتماسكها وحدودها. هذا تفسيرٌ معقول إلى حدّ كبير لما تتميز به حياتنا اليوم من كراهية وعنصرية وتراشق وتعصب وتكفير. ولكن هذا يكشفُ، أيضا، عن فشل محاولات بناء هوية جماعية تتجاوز العصبيات التقليدية وأشكال التضامن السَّابقة على الدولة الحديثة الناشئة بعد الاستقلال. وبالتالي فالمشكلة ثقافية وسياسية بالأساس. لم ننجح – كالكثير من بلدان العالم بعد انهيار الإيديولوجيات الخلاصية – في تعويض الخطاب التقدمي الكلاسيكي بخطابٍ ينفتحُ على ما ظل غائبا: الحقوق الثقافية التي تبقى الضامنَ الأكبر للاحترام المتبادل ولبناء هوية جديدةٍ تعددية الطابع تكونُ سبيلا واثقة إلى ترسيخ أسس العيش المُشترك. لا تنفعُ المناحة على ما آل إليه الجزائري في هذا الشأن. كما لا تنفعُ المواعظ الأخلاقية البائسة بالطبع. على العقل السياسيّ الجزائريّ أن يتجدَّد وأن يُعالجَ تصلبَ شرايينه بالانفتاح على الروافد التي بإمكانها أن تجعله غضا دائما: الواقع المتحول وفتوحات المعرفة .
أحمد دلباني
الافتراض وسيلة للانتقام من الواقع
ثمة أبعاد عديدة و سياقات متداخلة تشارك في صناعة حالة الكراهية و هي تستأثر بطرائق النقاش بين الجزائريين في مواقع التواصل الاجتماعي. و هي تعكس لا محالة واقع الجزائريين في شرطهم الراهن بما يحمله من إحالات إلى الماضي و ما يحمله من تراكمات تعود عادةً في لحظات الذروة التاريخية حيث يزدحم جميع الفاعلين التاريخيين و الذين يعتقدون أن لديهم دورا مهما يلعبونه و كذا الجمهور و المشجعون في منعرج واحد و زمن واحد و بعزيمة واحدة لتُغلق منافذ السير التي يريدون أن يسلكوها بما تحمله من روتين قاتل تعوّد عليه الجزائريون في المسارات العادية حتى أصبح جزءا أساسيا من حياتهم.
لحظاتُ الذروة التاريخية بما تقترحه من تأزيم و من مفاجآت تشبه لحظات الازدحام المروري حيث ينفد الصبر و يطغى التعجل و تغيب المعايير الدنيا، حتى لا نقول الحكمة الخالدة، لتسيير ما تنتجه لحظة الازدحام من معوقات و من حواجز تنعكس على اللحظة و على ممكنات الخروج منها انعكاسا يجعلها أكثر غموضا مما كانت عليه و أكثر إيغالا في ما يُظهره الجزائري من مأساوية في عرض تصوره للحلول الواجب تطبيقها حالاً و هو يدافع عن قناعاته التي من المفروض أن تكون مهيمنة لأنها الأكثر ارتباطا في نظره بالتاريخ كما روي له، و الأكثر انسجاما مع اللحظة كما يريدها أن تكون، و الأكثر استشرافا للمستقبل الذي يحلم به.
من المؤكد أن كثيرا من المجتمعات المعاصرة تعيش الظروف نفسها التي يمر بها المجتمع الجزائري و تحاول أن تسيّرها وفق هذا الحد الأدنى من دون الانتقال إلى مرحلة تفتيش الجيوب الفكرية للذات الجمعية بما تحمله من نوايا و من أسرار و من انتماءات في ما يشبه الحملة الكبرى غير المنظمة التي تتيح لكل شخص تفتيش الآخر الذي أمامه و توصيفه توصيفا ينطبع مع هذه القناعات.
في حالة الجزائر يبدو الأمر أكثر حساسية نظرا لما اتفق عليه جميع الجزائريين و الأجانب كذلك من كون الجزائري قلق بطبعه ويميل إلى الابتداء في النقاش من النتائج، أي من النهاية. و ربما كانت النتائج بالنسبة إليه هي المقدمات يستعملها خلفية و قناعا و وسيلة حجاج. و ربما لذلك، كان الجزائري من أكثر الشعوب قدرة على صناعة الأساطير ثم الاعتقاد المطلق بصحتها، و الأكثر قدرة على تكذيب التاريخ و تحويله إلى أوهام ، و ربما من أكثر الشعوب صناعة للآلهة العابرة ثم المسارعة بالتهامها في لحظات الحرج التاريخية.
في العالم الافتراضي، لا يمكن أن تعني مقولة أمبرتو إيكو المشهورة شيئا بالنسبة للجزائري لأن الجزائري يتعالى حتى على الأفكار الكبرى و يعتبرها أصغر منه . ثم أن مقولة أمبرتو إيكو القائلة بأن الفايسبوك أتاح لحشود من العاطلين إبداء رأيها في القضايا الكبرى و في الشأن العام هي بالنسبة للجزائري مجرد تعلّة يستخدمها الفايسبوكيون أنفسهم من أجل تقويض المقولات المختلفة التي تضرب برطانتها و رداءتها العالم الافتراضي كما يضرب الداء مواطني طيبة، لأن مواطني طيبة في نظر الجزائري لهم الحق المطلق في مطالبة «أوديب» بتخليصهم من أرق الكابوس المتواصل منذ بداية التاريخ الذي لا يمكن أن يكون إلا أسطورة استفاد منها المقربون من «أوديب» من دون أن يستفيدوا هم منه، بل لم يصبهم منه إلا ما خلص في أجسادهم من داء يبحث عن شفاء. المشكل أن (الهمُ) هذه تستبدل الأدوار في لحظات التاريخ فأحيانا تكون الجلاد و أحيانا أخرى تكون الضحية. و لذلك، فهي تنتج في تصور الجزائري تداخلات يصبح بموجبها الرأي و الرأي الآخر من معنى بالنظر إلى ما يحمله التاريخ المسكوت عنه من مُسبقات الذات المتشظية و هي تنتقل من دور (هم) الظالمة إلى دور (هم) المظلومة.
و لذلك، فإن الحال أن كل فرصة هي جديرة بالتجمهر الفايسبوكي و عرض واقع الذات المتشظية الذي يشبه الأسطورة في طرحه و في طرائق مناقشته و في حجاجه و براهينه. رأينا ذلك مع العديد من الأطروحات العالقة في منعرجات التاريخ الوطني كما تعلق الثآليل في وجه تمثال التاريخ. و هي تعطي فرصة للمثقفين الفايسبوكيين لإعادة إخراجها من داخل المفاهيم و عادة تعليبها وفق ما تقتضيه اللحظة و بحسب ما تحتاجه المصلحة، و بقدر ما تتيحه وسائل الإقناع المتغيرة عبر التاريخ. ربما لهذا السبب، و لغيره كذلك، لا نجد حوارا ثقافيا و حضاريا بين مثقفين كبار وصموا المراحل التاريخية المتعاقبة ببصماتهم بقدر ما نجد تصفية حسابات تتخذ الطابع النظري حتى لا تحسب على المثقف الذي لا يملك في نهاية الأمر دليلا قاطعا على خصمه غير ما يحمله عنه من رؤية متذبذبة و مواقف و مسبقات. و لذلك يخاف الجزائري الكتابة و الحوار و المحاججة و يركن إلى الشفوية النميمية و التنابز. و هو يجد في وسيلة العصر التي هي وسائل التواصل الاجتماعي كل هذه العناصر من دون التزام واضح بما يمكن أن يطرحه من مواقف أو بما يمكن أن يصرح به من شهادات.
و لذلك فإن الجزائري يكاد يكون الوحيد الذي يضع سيجارة في فم تمثال ابن باديس في قسنطينة و ينزع نهد تمثال المرأة العارية في عين الفوارة. إنها مسألة (وضع و نزع) بما تحمل الكلمتان من تمركز إيتيمولوجي. و هي حالة تسيطر على المثقف أولا ثم تجد تطبيقاتها عند من يوصفون بالعوام بما يحمل هذا التوصيف من تخطيء في الرؤية ومن سلبية في المسبقات.
إن مسألة (وضع/ نزع) قادرة على إنتاج تصورها النظري المتمركز عند المثقفين ‹الكبار› في المقالة الفلسفية المدججة بالحجاج و البراهين، و في الكتاب التاريخي القادر على تحويل الأوهام إلى حقائق،و في العمل الإبداعي المدجج بالقراءات المتحيزة لتاريخ ما، و لذلك- و هذا هو الأخطر- تجد مجالها التطبيقي عند أشباه المثقفين و العامة و الرعاع الذين عناهم أمبيرتو إيكو في مقولته المشهورة لتحويل التصور النظري إلى واقعٍ ما من خلال الاستهزاء بعلم من أعلام الجزائر المعاصرة كابن باديس، و هو استهزاء يحمل دلالات عميقة طالما تعرض لها ابن باديس من طرف منتقديه، أو من خلال الانتقام من حجر بارد في عين الفوارة، و هو انتقام يحمل مقدار ما يحمله المجتمع العميق من كبت بالنظر إلى ما يطمح إليه من تحقيقٍ لقناعاته المغيبة. إن الجزائري في هذه الحالة لا ينتقم من المجسدات بما هي مجسدات و لا يستهزأ بها، و إنما يستهزأ بالرموز و ينتقم منها و يهاجمها لأجل إعادة تشكيل رموزه التي طالما آمن بها افتراضيا بغض النظر عن صحتها أو خطئها، و ذلك نظرا لاستحالة تحقيقها واقعيا.
إن العالم الافتراضي يستدعي الواقع و يعيد تشكيله وفق رغبة جامحة مدعومة بما يوفره من حرية و من سرعة انتشار و من قدرة على التواصل و كذلك من إمكانات النقاش الحاد و الاختلاف المروع الذي يعري في نهاية الأمر الذات المتشظية المنقسمة على ما يتيحه العالم الافتراضي من إعادة تشكيل للوعي بتقويض وعي سابق، و من إدراك لما يمكن أن يحمله الافتراض من ممكنات تزييف للوعي و من إمكانيات تحويل الأكاذيب إلى حقائق و تحويل الحقائق إلى أكاذيب.
و تكاد الموضوعات المهيمنة في العالم الافتراضي تؤدي إلى إنتاج وضعية (ما فوق اختلافية) تؤسس للقطيعة الفايسبوكية أولا ثم تنتقل القطيعة الفايسبوكية إلى قطيعة واقعية مدعومة بالأدلة و الحجج و البراهين التي تعتمد الحفر غير المنهجي في الماضي و القذف و التزييف و التكتل في مجموعات تربط بينها أواصر القناعة الافتراضية و المواقف الفايسبوكية. إن مواضيع مثل اللغة و الدين و التاريخ و الهوية و العلمانية تكاد تكون موضوعا واحدا يؤدي إلى المسارات المتمركزة نفسها لأنها تنطلق من جذر واحد مرتبط بما يوحد الذات الجمعية أو بما يفرقها. إن هذه الوضعية الـ(ما فوق اختلافية) هذه هي الوضعية التي تتحول بالتدريج إلى رعونة معرفية خارجة عن قواعد الحوار المبني على الاختلاف المتبصر ، و تتحول بعد ذلك إلى قطيعة معرفية تولد الحقد و الضغينة و الكراهية.
عبد القادر رابحي/ جامعة سعيدة
المواطنة والدنمقراطية كلمتا السّر
لننطلق من ضرورة تحكيم العقل في بناء الأحكام والمقولات حول ما يخص الإصلاح الاجتماعي والسياسي، فهذا هو أساس السياسة والاجتماع بناءً ومفهوما. ثم لنحدد الديمقراطية كوسيلة ومنهجا لتسيير تفاعلاتنا وبناء القرارات التي تخص حياتنا المدولنة étatisée. هكذا نكون قد موضعنا أنفسنا ضمن مقتضيات المواطنة وحقوق الإنسان وما يتطلبه العيش المشترك، وفي هذا يكون التشديد على أنه لا يوجد شيء مؤكد ومطلق خارج حتمية هذه المقتضيات. ما دام أن عنوان وموضوع النشاط الإنساني في جوهره هو الحرية، أي تهديم مساكن الاستبداد وإطلاق العنان للمبادرة الحرة والنقاش ومن ثم تأسيس تنظيمات (اجتماعية وسياسية) كفيلة بجعلنا نتفادى مسارات التهديم الذاتي. إن ما كنا قد عشناه منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي هو مرجع تحديد توجهنا في التقييم والتخلي عن منطوقات التشدد والتطرف، فلا حقيقة تعلو فوق مبدأ الصالح العام الذي يؤسس للفضيلة والأفضلية.
خطاب الكراهية هو خطاب ينتجه الاستبداد السياسي والمحافظية التي تبيح للذات ما لا تتيحه للآخر، هو خطاب عنفي وإقصائي غايته إملاء وفرض تصورات بعينها. كان الماضي يتأسس على هذه النمطية في التعامل لأن الاجتماع كان يقوم على غياب حقوق الإنسان والاستبداد، نظرا لحالة الجهل والفقر المعممة. ما كان الماضي يتيحه هو استقراء أرستقراطي لحاجات خاصة وليس لمتطلبات عقد اجتماعي/تعايش مشترك. ونحن اليوم على المستوى الاجتماعي نتفق بشكل يكاد يكون نهائيا حول مسألة الحقوق وأنه من غير المقبول فرض تصور معين، ويجب علينا أيضا على المستوى السياسي أن نصل إلى إقرار حدود تدخل السياسي في الشأن الخاص وهذا من صميم الإصلاح السياسي والعدالة.
يمكن القول تبعا لهذا التمهيد وبربطه بالسياقات الاجتماعية والسياسية الحاصلة في بلادنا، أن تسيير الشأن العام لا يزال يخضع لاعتبارات تتصل بثقافة الهيمنة والإقصاء. أي ما كان دوما هو جوهر الاجتماعي عندنا كخاصية معرفة له، أي النزعة المحافظة. وهذا يحيل إلى أن الحراك الاجتماعي/السياسي تعوزه آلية حيوية هي: الإصلاح.. نستطيع القول أنه جد بطيء إن كان موجودا أصلا. وما نقصده بالإصلاح لا يتوقف على أحكام عامة نقبل بها (كما هو حاصل حاليا) بل مسألة تغيير وتعديل القوانين التي تظل أغلبها لا تساوق الديناميكية الاجتماعية، وهنا يوجه النقد إلى الهيئة التشريعية الأولى (البرلمان). نقد يؤدي إلى نقد فهم ما يجب فعله ومن عساه يقوم به، مما يؤول بنا إلى نقد التركيبة البشرية للقائمين على شؤون التشريع. إذ لا يجب وفي جميع الحالات ترك قضايا حساسة جدا وتؤثر على التماسك والانسجام الاجتماعي بين أيدي من تعوزهم ثقافة فهم تحديات التحديث والتغيير ونشدان السلم الاجتماعي. أي أن يكون التشريع شأنا يخص النخبة (هكذا وبشكل صريح ومباشر)، فالذي يمكن معاينته أن كثير من المشرعين لا يملكون القدرة على عزل المتغيرات عن الحتميات الاجتماعية التي أخذت عندهم شكل الدوغمائية.
في مسألة اللغة على سبيل المثال، كان التوجه بعد الاستقلال رهين تصور انتقامي وليس استجابة للمتطلبات الاجتماعية الملحة. أي بين متطلب نشر التعليم ومحاربة الجهل وبين قولبة الفرد الجزائري ضمن منظومة ميتا- تاريخية، بين مثالية ثورية وواقع منتج. في هذا يمكن مقاربة مسألة التعريب التي تمت بطريقة غير واقعية ومتسرعة ميزت الجزائر المستقلة، وأدت إلى نتائج أثرت في مستوى أداء المنظومة التعليمية. أما يخص المسألة الأمازيغية (البربرية آنذاك)، فقد تم النظر إليها ليس باعتبارها وضع ثقافي بل كأحد تجليات الثقافة الشعبية. كانت هذا النظرة قاصرة على فهم إشكالية وحيوية المطالب التي لم يكن جديرا على الإطلاق ربطها بالمسعى الكولونيالي الذي أراد صياغتها في تضاد هوياتي غير سليم البتة. لو أنه أتيح للمقاربة العقلانية الديمقراطية أن تحكم عمل السياسي لما أمكن حدوث ذلك الحيف في حق المسألة اللغوية، ولما أمكن لدعاة الطهرية أن يتحكموا في مصير البلد بالطريقة التي أحدثت تلك الكوارث (كما عشناها نحن ذلك الجيل).
يبقى أي نقاش أو تحليل سياسي يقيّم بمدى ارتباطه بالديمقراطية، هذه الكلمة المفتاحية التي للأسف زالت سريعا من خطاب الوطنية الجزائرية. لقد أدت ضرورات الثورة إلى حيث انتهت إلى أن ذلك النموذج التعددي الذي قامت عليه الحركة الوطنية إلى وضع «ميثاقية» غير دولتية كما تم صياغتها في مؤتمر طرابلس الذي أدى إلى وضع مفهوم للثورة كمشروع إيديولوجي مستمر غير قابل للتعديل والنقد والإصلاح. معاكس لما حصل فعلا بعد الاستقلال مباشرة، مما أدى إلى فرض نموذج دولتي لا يستجيب للطموحات الإصلاحية والمواطناتية.
أدى هذا التصالب إلى نوع من الضبط المرهق للبنى الاجتماعية، عبر تصور معين للأيديولوجية الاشتراكية أنتج ديكتاتورية مقنعنة تحت شعار خدمة الشعب. إن ما سوف يحصل فيما بعد من ظواهر النفور والإقصاء ورفض الحوار، هي نتيجة لتصورين قبليين (الأول محافظي والثاني دولتي) حول صياغة المجتمع والدولة. فتشكل لدينا نموذج قاصر لم يستطع استيعاب حتمية الإصلاح السياسي والاجتماعي في نفس الوقت، نموذج تآلف فيها التطرف والاستبداد بحيث وقف سدا منيعا أمام بناء نظام تعددي تسود فيه ثقافة التعايش والاختلاف.
إذن، وبعد تجربة غياب الديمقراطية وعدم القدرة على طرح العقلانية كقيمة أساسية في منظومتنا القيمية والتعليمية، يتعين علينا اليوم (وهذا ما يستنكهه الجيل الجديد) تحديد متطلبات الممارسة الاجتماعية والسياسية في ضوء محدد الديمقراطية والعقلانية بدل محددات تؤول إلى وضع صراعي متشنج. أي الابتعاد عما يفرد الشعور بالإقصاء (الحرية) والاعتداء (الثوابت). إن هذا يجب أن ينعكس في دستور يضمن ويدعم هذا التوجه، دستور عنوانه الأساسي هو المواطنة والديمقراطية.
عبد السلام فيلالي- جامعة عنابة
تمثلات مجتمع ما بعد الأزمة
خلفت صدمة العنف الدموي التي عاشها الجزائريون خلال عشرية كاملة مرت بها البنى الاجتماعية والرمزية للمجتمع مرحلة مرعبة (درامية) أنتجت تصدعات في أنماط و روابط اجتماعية كانت مسيطرة طويلا على الوعي الجمعي ، فأدى ذلك لظهور أزمة عنيفة ( أحداث دموية غير متوقعة) زعزعت منظومة القيم وشبكة التصورات و التمثلات الاجتماعية والرمزية السائدة ؛ مما استدعى إعادة تعريف وصياغة جديدة ( متطلبات بنائية وظيفية ضرورية لإعادة التوازن) للمفاهيم الاجتماعية المشتركة والمتعلقة أساسا بمفهوم الأنا والآخر في بعده المؤسساتي (المجتمعي) والأنطولوجي .
ان هشاشة مؤسسات التنشئة الاجتماعية وافتقادها لأساليب تكَفل متجدَدة ومتكَيفة مع المتطلبات السيكولوجية والاجتماعية لجيلٍ من الجزائريين( مصدوم) في مرجعياته الثقافية والسياسية والدينية والعقائدية ( شبكة معقدة من الرموز والمعاني والتوقعات) وعاجز في الوقت نفسه عن إعادة تعريف ذاته في ظل التحول في الهوية الجماعية عبر فضاء اجتماعي متناقض (غير آمن ) خاصة وأن مضامين الخطاب الشعبوي للدولة الوطنية لم تعد وحدها كافية لصياغة التعريفات الجديدة لمجتمع ما بعد الأزمة , بعد أن أصبحت غير مطمئنة تماما بيقينها الموروث عن جيل الآباء .
إن الفشل في تحديد مسافة (الأمان الاجتماعي) بين الأنا والآخر يستدعى النكوص إلى مراحل بدائية (آمنة) يحتمي فيها -الأنا- بالإنتماء لهوية جماعية محدَدة و معرَفة مرجعيًا ، تقف بحزمَ في مواجهة الآخر لتعطيل كل محاولاته للسيطرة ، حيث تبقى الكراهية سلاحا مشتركًا في حرب المواجهة المفتوحة على احتمالات التطرف والإقصاء ، لقد تجلت ارتدادات الأزمة (العنف الدموي) التي عاشها الجزائريون (مجتمع ما بعد الأزمة) في ظهور تَمثل جديد (عدواني) لقيم التعايش والتسامح أنتج خطابا مشحونا سياسيا وإيديولوجيا يحمل دلالات عميقة لحقيقة اجتماعية (مخيفة) فالاجتماعي لا يوجد خارج الخطاب بل داخله لا باعتباره مضامين ومحتويات فقط ، بل باعتباره محددا لسمات الخطاب وشكله وبنيته وللتحولات التى تطرأ على شكله وبنيته أيضا .
فخطاب الكراهية في المجتمع الجزائري( من منظور سوسيولوجيا العيش المشترك) هو تشكَل اجتماعي غير سوي قائم على الخوف من الآخر ؛ يظهر اليوم كمنتوج كولونيالي عملت على صناعته الانثربولوجيا الاستعمارية ؛ التي استثمرت في أرضية إثنية (خصبة) في سبيل الوصول لمجتمع جزائري( بهويات مفتتة) مستغلة الابعاد الجغرافية والحضارية لمجتمع سمته الاساسية التنوع الثقافي فخطاب الكراهية تتغذى جذوره من مخلفات المشروع الكولونيالي التخريبي في الجزائر عبر ما شكلته الهويات الجماعية أو « الذوات» المرتبطة بجماعات عرقية و لغوية ودينية المعتمدة على ممارسات خطابية ذات قدرة (تدميرية) تساهم في إعادة إنتاج و تثبيت الهويات الجماعية ورسم للعلاقات الاجتماعية بين أطراف (وهمية) .
د. باديس بوشامة - باحث في علم الاجتماع . جامعة أم البواقي
لماذا تظن أنك لن تحُور؟
استوقفني هذا السؤال الذي اعتبره ثوريا بالنسبة للذات المُصابة بداء الإكتمال، كذات التيارات الفكرية والمذهبية التي تدعي أنسقاها احتكار الحقيقة وترفض أي صلة كيميائية مع الآخر، أو كذات الحضارة الحالية مع فكرة نهاية التاريخ و صدام الحضارات، مما جعلني أتهيب من كل إجابة تتجهز للقاء قارئ حصيف الرهان. ليس في حوزتنا أمام إستفحال ظاهرة التصلّب في زمن السيولة، سوى المساهمة في كشف دلالاته و تعرية منطقه الذي يتأسس عليه. كان «أولريش بك» قد نبهنا إلى المخاطر التي تتحايل على مجتمعاتنا الحديثة لتقوّض أمنها و قد يكون السباب الإجتماعي و الشتم المتبادل بين النخب من أدق المخاطر التي تصيب البيئة الفكرية في نسيجها و تخنق الأصوات المبدعة في مهدها عندما تدرك بحسها اللطيف نشاز قولها ضمن جوقة النّبال!
و يبدو أن أي نقاش يقترب من السرديات الكبرى كالوطن و الدين و التاريخ أو بما يؤسسها كالهوية و الديمقراطية والحرية، هو ساحة للتنابز بالأفكار. يا ترى ما الذي جعل هذه الحقول و غيرها تختار البقاء في المساحات الحساسة
(l'espace du sensible) و لا تخطو خطوة واحدة في الفضاء العام المفتوح؟
تزداد الإجابة صعوبة و قد تتعذر لبعض الوقت طالما أن الكفاءة النظرية ( خاصة التاريخية منها) مازالت في مراحلها الأولى.
يبدو أن «توقف الزمن» لسنوات طويلة كان وراء هذا التعادي المزمن، فالإحساس بالتكلس أو الدوران كثور الساقية كما يقال، كانا سببا مباشرا في تعاظم حجم الخسائر المعنوية بين النخب و انهيار الجسور بين الضفاف. فكلما توقفت حركة التاريخ في عروق المجتمعات انتكس أفقها وتبلّد حسها و ازدادت حاجات فئاتها الإجتماعية إلى حصون إيديولوجية للإحتماء بها و إعلان الحرب من وراء جدرانها.
في السؤال المرجعي إشارة إلى الحوار من خلال دربة العربية على غوايات الإشتقاق ، فالحور مراجعات لا تنتهي و اختبار منهجي لقدرتنا على لقاء الآخرين في مربد الحقيقة.
و ها هي العربية تصلُ إلى ضعفنا أمام كل غواية، و منها جاء الحوار يحمل بردا وسلاما.
يوسف بوذن - جامعة باتنة