أنريكو ماسياس صديق طفولتي لكني قاطعته لموقفه من فلسطين
* شيوخ المالوف رفضوا تعليمه للحفاظ على مصدر رزقهم
بغرفة مبنية على النمط المعماري المغاربي القديم و مجهزة على الطراز القسنطيني التقليدي، استقبلنا المطرب و العازف عمار بوحبيب، ليروي لنا بعضا من محطات مشواره الفني و طفولته المليئة بالذكريات كشجاراته مع الفنان اليهودي أنريكو ماسياس و لقاءاته و احتكاكه بمشايخ المالوف و كذا فن الشعبي الذي راهن على احترافه بمدينة كانت و لا زالت موسيقى المالوف رائدة بها، و غيرها من المحطات التي يفوح منها الحنين فيشهق القلب شوقا و حصرة على زمن فقد كل معالمه الجميلة مثلما قال.
حياة الفنان المخضرم الذي استهواه فن الشعبي، مفعمة بالرهانات و التحديات، فقد عايش قهر الاستعمار و ذاق الفقر و لم ينعم بطفولة كأترابه، لأنه اضطر لتحمل المسؤولية و عمره لم يتجاوز 12سنة بعد وفاة والده و تقلّب أوضاع عائلته، و خروج والدته للعمل بالبيوت و اضطراره لمغادرة مقاعد الدراسة لأجل مساعدتها على توفير لقمة العيش لأفراد أسرته.
حديثنا مع هذا الفنان الذي يعد مدرسة ذات خصوصية ملتزمة بكل ما هو جميل وعريق، فهو ينشد الثراء الموسيقي والفني، ويسعى إلى إعطاء الأغنية المالوفية و فن الشعبي ألقهما الخاص، كان متشعبا و لم ينحصر في ذكرياته الفنية، لأن كل محطة بحياته تعيدنا إلى مرحلة مهمة من مراحل شخص مكافح و مثابر، ساهمت الظروف القاسية التي مرّ بها منذ كان طفلا في تشكيل و طبع شخصيته القوية التي لم تهزها المحن و المصائب، بل ازداد عزيمة على التحدي، مثلما قال محدثنا البالغ من العمر 78سنة سارع إلى استخراج سجلات موسيقية خطها بيديه، و قصائد و نوبات فضل إعادة كتابتها لتنقيح عبارات خاطئة و أخرى انحرفت عن معناها بسبب الحفظ و النطق الخاطئ لبعض من سبقوه من الفنانين، و ألبومات للصور أكثرها بالأسود و الأبيض لما تحمله من سحر و تفرضه من حنين و شوق للزمن الجميل، زمن كان فيه الرفيق أقرب من الأخ و الأخ بمثابة الوالد و الشقيقة بمثابة الوالدة و العلاقات العائلية و الزوجية مقدسة، و التقدير المتبادل بين الصغار و الكبار، و احترام المرأة و صيانة العرض من شيم و كمال الرجولة، و غيرها من الخصال و المبادئ التي اندثرت على حد تعبير عمي بوحبيب الذي تشتد عبارات الحصرة و تطبع نبرته، كلما حمل صورة و تذكر معها مواقف جميلة عاشها و لم يعد لها وجود اليوم.
الصور الفوتغرافية الكلاسيكية كنز لا يضاهيه كنز
رحلنا معه أيضا إلى سنوات الأربعينيات و الخمسينيات من خلال محطات مؤثرة بحياته، حيث أسر لنا بأن طفولته توّقفت بوفاة والده، و اضطراره للعب دور أكبر من دوره و تحمل مسؤولية أكبر من سنه، لأنه لم يكن لديه شخصا يعتمد عليه بعد رحيل الأب، مضيفا بنبرة حزينة بأن صورة والدته التي اضطرت للعمل ببيوت النصارى و اليهود لأجل إعالتهم، أثرت فيه، فاختار ترك حلمه في مواصلة الدراسة و الحصول على شهادات دراسية عليا، لخوض عالم الشغل و سنه لم يتجاوز آنذاك الثالثة عشرة سنة، حيث جرّب كل الحرف و المهن ذات الأجر البسيط كنادل بالمقاهى و المطاعم، و عون حراسة بمرآب «سيتروان»الذي حل محله اليوم قصر الثقافة محمد العيد آل خليفة، قبل الالتحاق بدار المالية عام 58كسائق أين أنقذ الخزينة من انفجار أكيد، خططت له مجموعة من خمسة أفراد تمكن من إلقاء القبض على المتورطين رغم حيازتهم على مسدس من نوع 6.35.
كانت دردشتنا أشبه بفيلم سردي يرتكز على الفلاش باك، يعود تارة لطفولته و لشبابه و هاجس الاستقلال الذي كان يسكنه كغيره من الشباب الجزائري تارة أخرى، و الذي جعل زملاءه من الفرنسيين و الأقدام السوداء و اليهود يشتبهون تواطئه مع المجاهدين، و يزج به في السجن و يجرّب المعاناة وراء قضبان الاحتلال لمدة 7أشهر بسبب توزيعه للمناشير، أين التقى خلالها ب99معتقلا أغلبهم من منطقة الميلية و القرارم.
و عن مشواره الموسيقي ذكر بوحبيب أنه بدأه منذ نعومة أظافره لولعه بأغنية الشعبي، حيث أكد أنه تعلّم العزف و الآداء بطريقة عصامية، لأنه لم يجد من يدعمه و يأخذ بيده، و ساعدته في ذلك مهارته في الحفظ، كما كان دقيق السمع و كثير الترّدد على فندق سيدي قسومة بالمدينة القديمة بقسنطينة، ملتقى المشايخ و الموسيقيين، أين لم يكن يمل من متابعة أخبار و أعمال رواد الفن و ينهل منهم و لو عن بعد، قبل أن يتمكن بإرادته و عشقه للموسيقى من تأسيس جوق خاص به، مؤكدا بأن أغنية الشعبي كانت لها مكانة مهمة في قسنطينة قبل سنوات الستينات، لأن الفنانين آنذاك كانوا يتوفرون على إمكانيات التسجيل أكثر من فناني المالوف، باعتبار أن دخل شيوخ هذا الطابع الموسيقي آنذاك لم يكن يكفي إلا لسد حاجياتهم من أكل و شرب، مشيرا بأنه لم تكن هناك منافسة تذكر بين الفنانين لأن شيوخ المالوف كانوا رواد الساحة الفنية ذاكرا على سبيل المثال لا الحصر الشيخ براشي و زواوي فرقاني.
فنانون لا يجيدون حتى تعديل آلاتهم الموسيقية
محطته الفنية لم تخل هي الأخرى من المواقف التي صدمته كتخلي الفنان بن طوبال عنه، بمجرّد دعوته للمشاركة في المهرجانات الوطنية للموسيقى الأندلسية، رغم عمله معه لمدة أربع سنوات كعازف موندول، مما خلق حساسيات بينه و بين الفنان الراحل لأنه رفض إشراكه بالتظاهرة بحجة أنه مختص في فن الشعبي رغم تيّقنه من مهارته في عزف مختلف الألوان، الشيء الذي دفعه لرفع التحدي، و المشاركة في منافسة لانتقاء أعضاء لجوق نموذجي للموسيقى الأندلسية و التفوّق فيه، بعد تمكنه من حفظ 12نوبة منها نوبة السيكا، رصد الذيل، الماية، الزيدان، الرمل الكبير، الموال، المزموم، الرمل ماية، الماية المغربية، نوبة الحسين، ونوبة غرناطة دون التخلّي عن فن الشعبي الذي تحصل بفضله على أول جائزة في لون الشعبي عام1967 لكنه لم يستلمها حسبه لأن أحدهم أخذها مكانه مشيرا إلى العقبات التي واجهها في مشواره الفني الذي قرّر اعتزاله عام 1989 بعد أن اقتنع بحقيقة خروج الفن عن حدوده الإبداعية، و ظهور بوادر التقهقر و البزنسة عليه، و انتشار الغرور في أوساط دعاة فن لا يجيدون حتى تعديل آلاتهم الموسيقية، و أكد لنا بأنه رفض حمل آلته الموسيقية في حفل خارج بيته إلى غاية هذه السنة.
و تذكر الفنان أيضا، كيف أن شيوخ المالوف لم يكونوا يمنحون الراغبين في تعلم الفن فرصة الحصول على التعليم المباشر و إنما يطلبون منهم التعلم بالسمع و الحفظ، خلال الحفلات المنظمة عموما بالفنادق أو الأعراس..لكنه رفض اعتبار ذلك بخلا بل رآه طريقة للحفاظ على مصدر رزقهم الوحيد، من جهة و باعتبار أن معظم الشيوخ كانوا أميين و لا يجيدون طرق التدريس و حتى ما سعوا إلى تدوينه فعلوه بكتابة غير مفهومة وصفها بـ»الشرابية»، و رغم كل تلك العوائقـ، تمكن من جمع و الحفاظ على الكثير من النوبات و قصائد الحوزي التي يملك منها حوالي 150، إلى جانب قصائد الشعبي التي يوجد برصيده حاليا حوالي 200قصيدة منها فضلا عن قصائد المحجوز و الأزجال التي يعتبرها كنزه الذي لا يستغني عنه مهما كانت الظروف.
الفنان عمار بوحبيب الذي لم يقو على البقاء بغرفته المفضلة ببيته الشاسع، دون مداعبة أوتار موندوله و دندنة بعض مقاطع الشعبي في مدح الرسول عليه الصلاة و السلام، مسترجعا ذكرى اقتنائه أول آلة موسيقية من محل «كولان» عام 1964، رافقته طيلة سنوات احترافه الموسيقى التي أكد أنه لم يصرف من إيرادات حفلاتها و الأعراس التي كان يحييها رفقة أعضاء فرقته درهما واحدا على عائلته، لإيمانه بأن مال الفن لابد أن يبقى للفن، لإيمانه بأن الاعتماد على هذا المال كمصدر قوت يحوّله إلى عبد للصنعة، معتبرا من تجارب من سبقوه معلّقا» الفن يعز من يعزه».
أنريكو ماسياس كان يتوّسل إلي لضمه لفريق العربي
و بين أوراق الذكريات الكثيرة، توّقف الفنان لتصفح صفحات محطة خاصة بطفولته، كالعلاقة التي كانت تجمعه بالفنان اليهودي المولود بقسنطينة آنريكو ماسياس الذي أكد بأنه كان يتوّسل إليه لضمه إلى فريق كرة القدم الذي كان يترأسه كرئيس عصبة الأزقة العربية، لأن مواطنه كليفة فرانسيس كان يرفض تركه يلعب في فريق اليهود، كلما جمعتهم مقابلة في كرة القدم بحي فلورنتان، و التي كانت تقام عادة بين فريق عربي ضد فريق يهودي، أو الفريق الفرنسي بقيادة المدعو بونزا زيزي. و قال الفنان أن ماسياس بقي وفيا للصداقة التي جمعتهما في صغرهما، و كان يلح في دعوته لزيارته له بفرنسا، لكنه كان يرفض لاعتبارات كثيرة أهمها موقفه و مساندته لإسرائيل، الذي جعله يرفض حتى إجراء حوار و تقديم شهادات بخصوص شخص الفنان أنريكو للقناة الفرنسية «تي أف 1»التي زارته في بيته عام 90بهذا الخصوص، في الوقت الذي لا زال عدد من الفنانين القسنطينيين يذهبون إلى بيته، رغم أن علاقته بهم لم تكن بذات الحميمية التي ربطته به في صغره، لكنه تخلى عنها لقناعته بأن الفنان يجب أن يدعم و يرّوج للسلام مهما كانت عقيدته، تدفعه في ذلك غيرته و مساندته للشعوب المكافحة لأجل حريتها و تحقيق مصيرها التي لم و لن تتغيّر حسبه، لأنه يفهم معنى قهر و ظلم الاحتلال. و قال بأنه ضد الفنانين الذين يحيون حفلات لليهود بفرنسا وينسون ما اقترفوه في حق إخوانه الجزائريين من قتل و خيانة خلال الاستعمار الفرنسي.
مريم/ب