تساهم أساليب العمارة الحديثة في زيادة نسبة البصمة الكربونية وتفاقم الاحتباس الحراري، بفعل استخدام مواد بناء غير مستدامة، إلى جانب تصاميم قد تكون جميلة بينما تتسبب في هدر كميات هائلة من الطاقة وتشكل عبئا ثقيلا على الأرض، في حين يدعو معماريون إلى أهمية العودة لأساليب العمارة التقليدية وإنتاج عمارة حديثة تتأقلم مع مناخ المناطق التي تنتج فيها كما تتناسب والمقومات الجغرافية والطبوغرافية، في ظل حاجة ملحة لإعادة النظر في سياسات البناء.
إعداد / إيمان زياري
يشهد العالم ثورة في مجال البناء، عبر إنشاء مدن حديثة يراهن فيها على الإبداع والروعة في التصميم، ما أنتج مدنا لا تنسجم بتفاصيلها ومميزاتها مع الطبيعة الجغرافية وخصوصية المجتمعات، وشكلت عالما موحدا من حيث ناطحات سحاب أحدثت انسلاخا تاما مع خصوصية المناطق، وساهمت في طمس هوية الدول كما تساهم المواد التي تدخل في إنشائها في تلويث المناخ بحسب ما كشف عنه تقرير الحالة العالمية للمباني لسنة 2020، الصادر عن التحالف العالمي للمباني والتشييد، والذي أكد أن صناعة وإنشاء المباني والانبعاثات الناتجة عن استخدام مختلف الوسائل في ذلك وصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق، بحيث تساهم في رفع نسبة الانبعاثات الكربونية في الجو، وقدرت نسبة الانبعاثات الكربونية لقطاع البناء بـ38 بالمائة من إجمالي الانبعاثات العالمية المرتبطة بالطاقة.
تأثير خطير لقطاع البناء على تغير المناخ العالمي
وحذّر التقرير من خطر استمراراستهلاك الطاقة في المباني، كما كشف عن أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المرتبطة بالطاقة قد زادت إلى 9.95 غيغا طن في مكافئ ثاني أكسيد الكربون سنة 2019، وأرجع هذه الزيادة إلى التحول عن الاستخدام المباشر للفحم والنفط والكتلة الحيوية التقليدية نحو استخدام الكهرباء، والتي تحتوي على نسبة عالية من الكربون بسبب النسبة العالية من الوقود الأحفوري المستخدم في التوليد.
كما كشف آخر تقرير للحالة العالمية للمباني التابع لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة والتحالف العالمي للمباني والتشييد، الصادر شهر مارس 2024، عن أن هذا القطاع يساهم وبشكل كبير في تغير المناخ العالمي، بحيث يمثل حوالي 21 بالمائة من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية، مايرسم صورة مقلقة للفجوة بين الوضع الحالي ومسار إزالة الكربون ، ويفرض على العالم التكيف وأساليب البناء المرنة، إلى جانب الاعتماد على الابتكارات في حالات الأعمال التجارية، بالإضافة إلى الحلول القائمة على الطبيعة والتصميم الحيوي.
خفض استهلاك الطاقة وانبعاثات مواد البناء تحد كبير
الانبعاثات المتزايدة في قطاع المباني والتشييد خلقت قلقا كبيرا على المستوى الدولي، بحيث قالت إنغر أندرسن، المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، بأن ذلك يدعو وبشكل ملح لوضع استراتيجية ثلاثية للحد بقوة من الطلب على الطاقة في بيئة البناء، وإزالة الكربون من قطاع الطاقة وتنفيذ إستراتيجيات المواد التي تقلل انبعاثات الكربون في دورة الحياة، وأضافت المسؤولة أن نقل قطاع البناء والتشييد لمسار منخفض الكربون، سيؤدي إلى إبطاء عملية تغير المناخ، مايجعل منه أولوية واضحة لجميع الحكومات عبر العالم.
كما ذكر تقرير لوكالة الطاقة الدولية أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المباشر الناجمة عن المباني تحتاج بحلول العام 2030 إلى الإنخفاض بنسبة 50 بالمائة، و60 بالمائة بالنسبة للانبعاثات غير المباشرة لهذا القطاع، مايعني انخفاض انبعاثات القطاع بشكل عام إلى 6 بالمائة سنويا إلى غاية سنة 2030، كما ذكر التقرير أن أكثر ما يدعو للقلق كون جهاز تعقب مناخ المباني الجديد التابع للتحالف العالمي للمباني والتشييد، والذي يأخذ في الاعتبارجملة من التدابير كالاستثمار المتزايد في كفاءة الطاقة في المباني وحصة الطاقة المتجددة في المباني العالمية، على أن تلزم كافة الجهات الفاعلة عبر سلسلة قيمة المباني، زيادة إجراءات إزالة الكربون وتأثيره بمقدار خمسة أضعاف من أجل وضع قطاع البناء على المسار الصحيح وتحقيق صافي الانبعاثات الصفرية في الكربون بحلول العام 2050.
* المهندسة وعضو المجلس الدولي للمعالم التاريخية الدكتورة نعيمة بن كاري بوديدح
إنشاء عمارة مستدامة ضرورة للحد من تغيرات المناخ
قالت أخصائية الهندسة المعمارية وعضو المجلس الدولي للمواقع والمعالم التاريخية "إيكوموس"، وأستاذة التعليم العالي بجامعة السلطان قابوس بسلطة عمان، الدكتورة بن كاري بوديدح نعيمة المتوجة بوسام العالم الجزائري، إن 80 بالمائة من الطاقة التي يتم استهلاكها عالميا مستهلكة في مجال البناء والمباني سواء كانت مباني سكنية، تجارية، طرقات مشاريع كبرى مصانع وغيرها، علما أن 70 بالمائة من الـ80 بالمائة تستعمل في عملية تبريدها، معتبرة أن حل هذا المشكل في مجال البناء، من شأنه أن يساهم في حل مشكل كبير في هدر الطاقة، وبالتالي المساهمة في التقليل من الغازات والانبعاثات الملوثة التي كشفت تقارير دولية أن 70 بالمائة من الغازات الملوثة للجو تأتي من قطاع البناء والنشاطات المتعلقة بها.
وفي مواجهة التأثيرات السلبية للعمارة المعاصرة وبهدف الحد من خطر الانبعاثات الكربونية التي يسببها هذا الأسلوب في البناء، قالت المهندسة إن منظمات دولية كثيرة ومهندسون يدعون إلى ضرورة العودة لاعتماد أساليب البناء التقليدي الذي يرون في أنه أسس ليكون مستداما قابلا للتجدد دون أن يسبب الأذى للبيئة والمناخ، والعمل على تطوير مواد البناء التقليدية وجعلها تتماشى ومتطلبات العصر وخصوصيات كل بيئة سواء كان في الشرق أو الغرب، أو الشمال أو الجنوب، سعيا للتقليص من استعمال كافة المواد الجديدة التي لا تتلاءم مع الكثير من البيئات خاصة الصحراوية منها.
المواد المحلية صديقة للبيئة يجب استثمارها في البناء
وتعتبر المهندسة بن كاري أن أقرب تصميم صديق للبيئة هو التصميم المحلي و المتأقلم مع البيئة والذي يعتمد على مواد محلية طبيعية تطورت عبر آلاف السنين لتتأقلم مع المناخ، ليست مضرة للإنسان ولا الأرض، على عكس العمارة الحديثة التي تعتمد في أساسها على مواد خطيرة كالخرسانة والحديد الذي يعتبر مضرا للبشر والأرض، نتيجة تسببه في انبعاثات كاربونية في إنتاجه، وفي استعماله وحتى عند البناء وبعد البناء عندما نضطر لاستعمال المكيف، علما أن البناء الخرساني وعندما يصبح قديما، يكلف الطبيعة مئات السنين لتحلل في الطبيعة ولايصبح جزءا من الأرض بل عالة عليها لمئات السنين، عكس المواد الطبيعية التي تعتبر حسبها من الأرض وإلى الأرض قابلة للتحلل بكل سهولة حال الطين، الخشب أو الحجر، وهي أهم المقومات التي ترى بأن العمارة المحلية تتميز بها، ما يجعلها من الحلول الأساسية للعمارة الصديقة للبيئة.
وأوضحت الخبيرة أن محاسن العمارة المحلية التي تظهر فيالاستعمال الحكيم لمقومات هذه المواد والأشكال المعمارية التي تساهم في التأقلم مع المناخ، مؤكدة أنها حقائق وثقتها العديد من البحوث ومنها بحثها الذي نشر العام الفارط، والذي يؤكد على إمكانية الأخذ بطرق هذه العمارة وموادها المثالية وتطويرها إلى مواد وطرق حديثة تحتفظ بمقومات المواد المحلية وفي نفس الوقت تلبي حاجاتنا التي تولدت في العصر الحالي، مشيرة إلى وجود مواد بناء مصنعة بمواد محلية بحيث يكثف الطين بطريقة صناعية،وتقوم بدور جدار الـ70 سم، وهي مادة تصنع جدار بـ20 سم فقط، والمعروفة بـ"مالتي فايز ماتيريالز" أو "آمبي آم"،المأخوذة من العمارة المحلية، داعية للعمل على الأخذ ودراسة وفهم فحوى وطرق البناء المحلي القديم، والتفكير في حلول خلاقة مستمدة من هذه العمارة.
انكماش المساحات الخضراء لصالح الخرسانة
وفي الوقت الذي أثبتت فيه البحوث العلمية ضرورة العودة للطرق الصديقة للبيئة والتي يوجد الكثير منها في العمارة المحلية من أجل حل مشكلة الانبعاثات الحرارية وتغير المناخ، حذرت المهندسة بن كاري من خطر اختفاء وزوال البناءات القديمة الصديقة للبيئة سواء في الجزائر أو في مختلف البلاد العربية الإسلامية، بحيث بدأت في الاختفاء بشكل متسارع، ضاربة المثل بعمارة الجزائر العاصمة ولاية سطيف وغيرها من المدن، التي قالت إنها تفقد هويتها يوما بعد آخر، بفعل تهالك المباني القديمة نتيجة عدم الحفاظ عليها وترميمها، ليتم تهديمها وتعويضها بمباني لا تمت بأي صلة مع الثقافة المحلية والمفردات الخاصة بالمدن الجزائرية، وحلت محلها ثقافة "المولات"، الواجهات الزجاجية، والعمارات متعددة الأدوار التي تستهلك الفضاء في السماء والفضاء على الأرض، في مقابل انكماش المساحات الخضراء لصالح الخرسانة حتى أفق المدن الجزائرية التي طالما كان أفقها مفتوحا.
ودعت الخبيرة لإعادة التفكير ليس في منطقة الجنوب الجزائري فحسب، بل عبر كامل المدن، من خلال رؤية واضحة وقرارات ذكية تتماشى مع متطلبات العصر والحداثة شريطة الحفاظ على الطبيعة والموارد الطبيعية دون تخريب الأرض والحفاظ على مواردها، مع العمل على ابتكار لغة معمارية جديدة تربطها علاقة بأصولنا ومقوماتنا وثقافتنا، كما أن لها قابلية التأقلم مع المناخ والجغرافية وتلبي الاحتياجات والمتطلبات الحديثة، وهو ماأكدت أنه ممكن جدا في ظل توفر الكثير من الحلول وإمكانية البحث والتطوير، والذي يحتاج الوصول إليه إرادة سياسية جادة تتجه نحو هذا الهدف،
إلى جانب رفع مستوى الوعي منذ الطفولة من خلال دراسة العمارة وخصوصياتها، ورفع مستوى الوعي عند الناس من خلال إقامة الورشات والمعارض حول تاريخ الهندسة في الجزائر وأهميتها ومقوماتها المناخية، ما يمنع التوجه نحو الحلول الأكثر وفرة والأكثر تعاملا، بل التوجه نحو الحلول الأكثر توافقا مع المتطلبات الاجتماعية والثقافية وخصوصية المنطقة وبهذا فقط يمكن ترسيخ ثقافة العمارة المحلية المستدامة.
أما بالنسبةللأمور التي تلعب دورا هاما في التأثير على المناخ، فذكرت الدكتورة بن كاري مواد البناء، التي شددت على ضرورة أن تكون محلية ومن الموقع نفسه، باعتبار أنها عاشت في هذا المناخ لآلاف السنين وتعودت عليه كما تجيد التفاعل بمكوناتها مع تغيرات المناخ، وهذا مايجعل من البناءات تتجاوب مع متطلبات المناخ، كالطين أو التربة أكثر المواد استعمالا في غرداية وواد سوف إضافة إلى الخشب، أما العنصر الثاني الذي يدعم الاستدامة في هذا النوع من البناءات، فيتمثل في التقنيات المعتمدة وأشكالها التي كان يعتمد عليهاالبناؤون القدامى وفق طبيعة المناطقللانتفاع من المناخ وتفادي السلبيات.
وسط الدار مصدر للتهوية وبديل للمكيف
وأوضحت المتحدثة، أن شكل المبنى يتمثل في حلول عدة منها "وسط الدار" والتي يختلف حجمها باختلاف المنطقة من الشمال إلى الجنوب، بحيث يصغر كلما توجهنا جنوبا لأن الإنسان يحتاج أقل شمس وأقل ضوء من الشمال، إلا أنها تبقى مهمة لكونها مصدر التهوئة وتنقية الهواء الدائر في البيت، وبالتالي لن يكونوا بحاجة لمكيفات هوائية.
وتضيف أن سمك الجدران المقدر بـ60 أو 70 سم، لا يسمح للحرارة بالدخول بشكل سريع للغرف أو البيت، بحيث أن هذا السمك ومقومات الطين، يختزن الحرارة عنده، وبعد 12 ساعة تقريبا تبدأ الحرارة بالوصول للغرف من الجهة الثانية، ما يعني أنها فترة الليل، وهو الدفء الذي يحتاجه السكان ليلا خاصة في الصحراء المعروفة ببرودتها في هذا الوقت، حال وسط الدار الذي يمتلئ بالهواء طول اليوم بحيث يرتفع الهواء الساخن ويبقى البارد من الأسفل، لأن البارد أثقل من الساخن،أين تحدث دورة الهواء في الـ24 ساعة وتتلاءم مع فترتي النهار والليل، مايجعل وجود الفناء مهم لعملية تدوير الهواء اليومية داخل البيت، بحيث تحفظ درجات حرارة مناسبة لعيش ونشاط الإنسان داخل البيت وتجديد الهواء النقي، على عكس البيوت الحديثة مع ارتفاع الحرارة وتغير المناخ، أصبح اللجوء للحل الأسهل والمتمثل في شراء مكيفات هواء تستهلك كميات هائلة من الطاقة، كما تحتاج لغلق البيت كاملا من أجل تبريده، كما يجبرك على عدم تجديد الهواء داخل البيت وبالتالي يصبح غير صحي.
العمارة التقليدية الجزائرية نموذج مثالي لبناءات مستدامة
كما أشارت محدثتنا إلى أن الجزائر من بين الدول التي تزخر بكم مهم من العمارة التقليدية المستدامة المعروفة بالعمارة الدارجة كعمارة واد سوف وغرداية مثلا، وهي العمارة المحلية التي صممت من طرف المستخدمين لها سواء كان ذلك بمساعدة من هم يعلمون بالعمارة أو بمعرفتهم الخاصة المكتسبة عبر الأجيال، والذين أخذوا بعين الاعتبار تأقلمها مع المناخ والجغرافيا والطوبوغرافيا، ليتحصلوا في النهاية على مسكن يلبي الضروريات وليس الكماليات ويحمي الإنسان من حدة وتأثيرات المناخ، وهذا ما يبرز بشكل خاصفي واد ميزاب والمباني القديمة الموجودة في إيليزي وجانت، واصفة إياها بالمتأقلمة حتى مع العادات والتقاليد والثقافة الخاصة بالمجموعة التي قامت ببنائها.أما فيما يتعلق بفعاليتها وخصوصيتها في المساعدة على التأقلم المناخي، فتؤكد الخبيرة الهندسية أن تغير المناخ متدرج ببطء كبير، مرجعة ذلك إلى الاحتباس الحراري وارتفاع درجة حرارة الأرض نتيجة النشاطات الإنسانية وبشكل خاص في مجال بناء المدن والطرقات واستعمال السيارات وما إلى ذلك، إلا أن العمارة التقليدية خاصة المتواجدة في الجنوب الجزائري، تدعم راحة الإنسان من خلال المساعدة على تبريد وتلطيف الأجواء عندما يحتاج السكان البرودة، ويكون دافئ عندما يحتاج الدفء، وكل ذلك من خلال مجموعة من المقومات في هذا النوع من العمارة تمثل المواد الطبيعية الخاصة بكل منطقة،إلى جانب تقنيات البناء سواء في سمك الجدران أو الأسقف وحتى أبعاد الفتحات ومواقعها في الواجهات، بحيث يدرس توجه الرياح المناسبة التي تساعد على دخول وجلب الهواء العليل للبيت، بينما الاتجاه الذي يجلب الهواء الساخن فيتم غلق الواجهة تماما، وهو مايجعلها عمارة متأقلمة تتماشى والعوامل الطبيعية الخاصة بكل منطقة، مايجعلها مناسبة للتغيرات المناخية والتصدي للاحتباس الحراري، ومناسبة حتى للحياة اليومية للساكنة.وفي المقابل كثرة الانبعاثات الغازية التي تولدها البناءات الحديثة، تؤكد الأخصائية أن البناءات التقليدية تعد صديقة للبيئة، بحيث لا تولد انبعاثات غازية، كثاني أكسيد الكربون والغازات الناتجة عن أجهزة التكييف، والتي تساهم بشكل كبير في تفاقم الاحتباس الحراري، في حين تعتبر المباني الحديثة أنها غير متأقلمة مع الطبيعة التي تبنى فيها، بحيث تساهم في تفاقم الاحتباس الحراري،
كما تعتبر الدكتورة بن كاري أن الأخذ بالتجربة الجنوبية في العمارة وتوسيعها إلى مختلف ولايات الوطن للتقليل من الانبعاثات الغازية وحماية كوكب الأرض مما تنتجه البناءات من أضرار، فإن البعض قد يعتقد أن ذلك يكون من خلال نقلها بكل تفاصيلها للشمال، إلا أن هذا خطأ، ويفترض أن نأخذ فكرة هذه العمارة المتأقلمة مع كل خصوصياتها الطبيعية والاجتماعية، وتطبيقها في المدن الحديثة في مختلف ولايات الوطن، لإنجاز عمارة حديثة تتأقلم مع مناخ المنطقة التي تنتج فيها كما تتناسب مع مقوماتها الجغرافية، المناخية والطوبوغرافية وحتى الاجتماعية للسكان الذين سيستعملونها.
إ ز
* الباحثة في العمارة والتراث الدكتورة أميرة زاتير
العمارة التقليدية نمط للمعمار المستدام
قالت الباحثة في العمارة والأستاذ المحاضر في العمارة والتراث بالمدرسة المتعددة العلوم للهندسة المعمارية والعمران بالجزائر العاصمة، الدكتورة أميرة زاتير، إن العمارة التقليدية سواء كانت بناءات عادية أو قصور، تعطينا نمطامعماريا مستداما يعيش لقرون ويتجدد باستمرار، مشيرة إلى القصور المتواجدة بمنطقة الجنوب الجزائري والتي بنيت من الطوب الندي لاستعماله في مختلف أنواع البيوت سواء المسطحة أو المقببة مثلما هو الحال بمنطقة الوادي، وأضافت أنه وبالنظر لقساوة الطقس والارتفاع الكبير في درجات الحرارة كانوا يضيفون لها مواد أخرى تمثل أليافا تفيد في البناء، كما تحدثت أيضا على الألوان التي كانت تستعمل، كطين قصور كرزاز، قصور ورقلة، وغيرها والتي بنيت كلها من مادة الطين،إلا أن ثمة تنوعا كبيرا في النمط من حيث هندستها من الداخل، والتي تتلاءم وخصوصية كل منطقة الجغرافية والاجتماعية، واستنادا إلى التقنيات التي يرغبون أن يواجهوا بها قساوة الطقسوارتفاع درجات الحرارة.
التقنيات القديمة تجعل العمارة التقليدية خيارا مثاليا لحماية الأرض
وأشارت الخبيرة إلى قدرة بنايات الجنوب على التجاوب مع الحرارة الكبيرة في فصل الصيف، والتي توصف بالعلمية يجري تحليلها ودراستها من أجل اقتباس دروس تساهم اليوم في دعم بناء مستدام لا يستهلك طاقة كبيرة، مضيفة أنها تتميز بالكثير من الإيجابيات الموجودة في الطين المحلي وطريقة تراص القوالب للحصول على قالب سميك بقدر 50 سم على الأٌقل ليساعد على امتصاص الحرارة وتأجيل دخولها للغرف، فضلا عن تقنيات القباب بحسب النمط المعماري سواء كانت دائرية أو مدببة وما إلى ذلك، بحيث تقوم القبة بإعطاء انتعاش داخلالبناء، وكذلك الأمر بالنسبة للنوافذ الصغيرة في أعلى القبة أين يتمركز الهواء الساخن، ومع مسار الهواء تساعد على تجديد الهواء وبالتالي إنعاش الجو،
وأوضحت الباحثة، أن الأمر ذاته بالنسبة للأسقف البرميلية وللمسارات الداخلية المتمثلة في مسارات ضيقة كـ"عين الدار" أو "وسط الدار" التي تعتمد كمنابع ضوئية كما تنعش الداخل وتنتج برودة للبيت، وحتى ارتفاع البيت، إضافة إلى الخاصية الأنجع المتمثلة في "الطاراس" في القصور، ليساهم كل ذلك في التعايش مع البيئة القاسية.
وشجعت الأستاذة الجامعية على العودة إلى استعمال المواد المحلية في البناء إلى جانب التقنيات التي كانت تستعمل، مع العمل على تطويرها وفق معطيات القرن الحالي لتفادي قدر المستطاع الخرسانة والآجر المضرة للبيئة، مشيرة للعديد من البحوث عبر المخابر الجامعية لتطوير الآجر، وصناعة خرسانة من الرمل والتراب المثبة بالجير أو الألياف لجعلها تتماشى وظروف اليوم ولكيلا يُهجر القصر، ولتشجيع كل الحرفيين والمقاولين على استعمال هذه المواد المحلية في البناء والترميم في البيئة الصحراوية خاصة.
المواد المحلية أيضا ولثبوت نجاعتها العلمية وكونها مادة مستدامة وتشجع على الاقتصاد، وأشارت إلى منطقة الجنوب الكبير وتحديدا تادرارتبجانت المبنية بالحجارة المحلية، داعية لاحترام الجغرافيا في البناء، معتبرة إياها عبقرية للأجداد تتواجد في مختلف مناطق الجزائر وكل منطقة بخصوصيتها ومن موادها المحلية، مضيفة أن الطابع المعماري بمنطقة المغرب العربي يتشابه من حيث المواد المستعملة في البناء، إلا أنها تختلف أنتروبولوجيا بالنظر لاختلاف المجتمعات، ما يجعل القصور تختلف بحسب تقاليد العمران التي أرادها أعيان القصور، مشيرة إلى أن العلم أثبت نجاعة المواد المحلية في مجابهة أخطار المناخ وأخطار الكوارث الطبيعية كالفيضانات، ما يعد عبقرية تحسب للأجداد.
في الشمال أيضا توجد المدن العتيقة والتي يعد مركزها القصبة بالجزائر العاصمة، وفي تلمسان نمط معماري يبنى بمادة يعرف بـ"البيزي" كقلعة المشور والمنصورة، بحيث تعطي سمك للجدار وتبريد وتدفئة المباني من الداخل، أي الحجارة التي تستعمل في بناء القصبات في مختلف المدن العاصمة ودلس، داعية لاقتباس تقنيات وجماليات العمارة التقليدية، وتطويرها بما يتماشى وتطورات العصر ورغبات الأفراد اليوم، بما يجعل منها عمارة فريدة من نوعها، مؤكدة أنها أفضل وأنجع من العمارة الحديثة ومقاومة لتقلبات الطقس والمناخ والكوارث الطبيعية.
إ ز