يؤكد محمد إسلام بلفاسي، شيخ الطريقة العيساوية بالشرق الجزائري، أن هذا الطابع لا يزال يحظى بالتقدير عند أهل قسنطينة، وأنه اليوم الحاضن لأسرار الطريقة بعدما أورثه شيوخه الراحلون مفاتيحها، ليقرر تأسيس زاوية صغيرة تكون قبلة لأتباع العيساوة ومحبيها.
لينة دلول
وأوضح الشيخ إسلام بلفاسي كما يلقبه مريدو الطريقة، بأن الزاوية التي يقع مقرها بنهج 24 خراب السعيد بالقصبة بقسنطينة، تحمل اسم نوع غال من الذهب الأحمر هو «الإبريز»، وتعود تسميتها إلى «حزب الإبريز» الذي كتبه الشيخ سيدي محمد بن عيسى، وهو عبارة عن صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويعد جزءا من أذكار الطريقة العيساوية.
زاوية الإبريز .. قلعة العيساوة ومدرسة لتعليم أصولها
وأكد، بأن الزاوية التي تفتح أبوابها بشكل دائم مقصد للصغار والكبار على حد سواء، للتعلم والتقرب إلى الله من خلال تعاليم الطريقة العيساوية، مشيرا إلى أنه ورغم بساطة المكان، إلا أن أجواءه تتسم بالروحانية العالية والسكينة وتبعث على الطمأنينة.
وتتميز الزاوية بحسبه، بأنشطتها المتنوعة التي تركز على تعليم الأطفال مبادئ الطريقة، مثل الذكر و تلاوة القرآن الكريم، والتعرف على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، متابعا بالقول، بأن الزاوية تقدم في فصل الصيف نشاطات دينية خاصة للأطفال، تتضمن المدائح المولدية التي تروي سيرة النبي.
ويرى، بأن الطريقة العيساوية معمرة لأن لها أصولا متجذرة في منطقة الشرق ككل، ولذلك يمكنها الصمود رغم التحولات الاجتماعية والتحديثات الكثيرة التي تحملها رياح الحداثة، حيث تعمل الزاوية التي يرأسها اليوم، على تجديد الطريقة وتطويرها بما يتماشى مع المنهج الصحيح، سواء من حيث الممارسات الروحانية أو حتى الجانب الفني المرتبط بها.
و أشار المتحدث، إلى أنه على تلقين رسالة شيوخه للأجيال القادمة رغم ضعف الإمكانيات، لأن المنزل الصغير الذي أهدته له عائلة كراشة ليحوله إلى مدرسة قرآنية بحاجة ماسة إلى الترميم، كما أن مقر الزاوية العيساوية مغلق منذ فترة طويلة، رغم الحاجة الماسة إليه.
وقال إن أول زاوية في قسنطينة شيدت ، على يد «سيدي علي مخلوف بلفاسي» حوالي القرن 709 للهجري، ليدرس فيها القرآن و الحديث و الذكر والفقه، وقد كانت بمثابة جامعة صغيرة، كونت العديد من رجالات العلم و الدين.
هكذا يورث عهد الطريقة العيساوية
قال محدثنا، إنه ورث الطريقة أن شيوخه الذين تداولوا على نقلها جيلا بعد جيل منذ القرن الخامس عشرة ميلادي، حيث تأسست كجزء من الطريقة الجزولية الصوفية، إذ أخذ الشيخ سيدي محمد بن عيسى، عهد الطريقة عن ثلاثة مشايخ مختلفين، هم تلاميذ الشيخ سليمان الجزولي.
وأضاف المتحدث، أن الشيخ سيدي محمد بن عيسى أسس الطريقة العيساوية على ركائز أساسية أهمها طلب العلم، والمحبة، وقد وصلت إلى الجزائر من خلال حفيد الشيخ سيدي محمد بن عيسى، حيث ينبت أولى زواياها في مدينة المدية وبالضبط في وزرة، ورغم أن البناية لا تزال قائمة إلا أنها أصبحت مهجورة.
وحسب ما أوضحه المتحدث، فإن الطريقة العيساوية دخلت إلى مدينة قسنطينة في القرن 16، على يد الشيخ محمد خليفة، ثم عن طريق عائلة «بلغول»، وهي عائلة عريقة أخذت الطريقة وواصلت تعليمها لثلاثة أجيال متتالية، ومن خلفاء العائلة كان الشيخ سيدي العربي باكطاج من عائلة بلغول، الذي تسلم مشعل الطريقة بعد وفاة سلفه، وقدمه لاحقا إلى سليمان بلفاسي، الذي كان له دور بارز في الحفاظ على انتشارها في منطقة المغرب العربي.
وأضاف، بأنه ظل محافظا على تعاليم وموروثات الطريقة العيساوية، خاصة ما تعلق بنقل العهد وفقًا للتقاليد العيساوية، مؤكدا بأنه لا يمكن لأي مريد أن يأخذ العهد دون المرور بمراحل من الاستغفار والصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتوحيد الله، مواصلا :»يأتي المريد للصلاة صباحًا ومساء بشكل منتظم، و بعد كل صلاة يتم ذكر أسماء الله الحسنى، وترديد أدعية وأذكار تهدف إلى تعزيز الروحانية وتطهير النفس».
وتلتزم عائلة بلفاسي حسبما أوضح محمد، بتقاليد معينة وتمنح لقب «عيساوي» للشخص الذي يتبع هذه الممارسات، ويثبت التزامه بتعاليم الطريقة.
وأوضح، أن العائلة تقيم الجمع الأسبوعي في الزاوية، وهو عبارة عن لقاء للمريدين يتلون خلاله الأوراد الوظيفية، والمتمثلة في أذكار وصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم، وأدعية موروثة على غرار «سبحان الدائم لايزول، وحزب الكبير المنسوب للشيخ سيدي محمد بن عيسى»، كما يتلوا المريدون هذه الأوراد بحسبه، بهدف التقرب إلى الله وطلب البركة.
كما يحرص المريدون على حضور «السماع الصوفي»، حيث يتلون القرآن ويتغنون بالأشعار الروحية و قصائد مشايخ الصوفية مثل الشوشتري، وسيدي أبو مدين الغوث، وابن الفارض»، و يمثل هذا السماع جزءا أساسيا من نشاطاتهم، ويعيدهم إلى القيم الروحية التي كرسها الشيخ سيدي محمد بن عيسى.
بعد انتهاء جلسات السماع، يقومون بذكر الله وأسمائه الحسنى، مما يساعدهم على الدخول في حالة من الصفاء الروحي، بعدها يقومون بالحضرة وهي جلسة ذكر خاصة تتضمن تكرار اسم الله بشكل جماعي، حتى يصل المشاركون إلى حالة روحانية عميقة، الهدف من هذه الجلسة حسبما أكد، هو تطهير النفس وتقوية الروابط بين المريدين.
بعد وطني
وأضاف الشيخ، بأن الطريقة العيساوية لها دور كبير في الحفاظ على الهوية الوطنية، لأنها تُعتبر حاضنة للقيم الروحية والوطنية، فالطريق العيساوي يجمع بين الحب والمحبة، ويهدف إلى خلق مجتمع متماسك يعتمد على قيم الدين والأخلاق.
وأوضح، بأن أبناء الطريقة العيساوية في الجزائر يشتهرون بإتباعهم المذهب السني والالتزام بعقيدة أهل السنة والجماعة، وهو ما يتوافق مع نهج السلف الصالح.
مضيفا، بأنه في المناسبات الدينية المختلفة، يقوم أتباع الطريقة بإحياء الاحتفالات مثل المولد النبوي، حيث تتم تلاوة الأذكار والصلوات منذ أول ربيع الأول إلى نهاية الشهر، فضلا عن إتمام حزبين من القرآن يوميا وأداء « الهمزية، البردة، والمحمدية»، بالإضافة إلى قراءة كتب من السيرة مثل البرزنجي، وشرف المصطفى، يُختتم الاحتفال بحلقة ذكر جماعية تعرف بالحضرة، والتي تكون محاطة بمظاهر الفرح الروحي.
كما يحرصون حسبه، على إحياء شهر رمضان المبارك بالكامل، وذلك من خلال تلاوة القرآن الكريم وأداء صلاة التراويح، والمشاركة في الذكر، بالإضافة إلى الاستماع إلى السماع الصوفي الذي يُعد جزءًا من الطقوس الروحية، كما يُخصص وقت لإحياء مناسبات دينية أخرى، مثل ليلة النصف من شعبان «المعروفة بالشعبانية»، وهو طقس ذو طابع اجتماعي وديني في نفس الوقت.
متابعا بالقول، بأن هناك العديد من الطقوس الثقافية التي تميز مناسبات أخرى، مثل عيد الاستقلال، حيث تقوم الفرق العيساوية بإحياء هذه المناسبات عبر عروض فنية تحمل طابعا روحانيا، في محاولة لدمج الفن مع الدين وخلق جو من الاحتفال الذي يربط بين الماضي والحاضر.
أما في حفلات الزفاف حسبما قال، فتتجلى الطقوس الثقافية بشكل مميز من خلال استخدام آلات موسيقية تقليدية مثل البندير، مع ترديد الأذكار والصلاة على النبي و مدح أولياء الله الصالحين، وتختتم بالحضرة.
البعد الروحي أساس الطريقة العيساوية
وقال الشيخ إسلام بلفاسي، بأن الهدف من هذه الطقوس ليس فقط الحفاظ على التقاليد وإنما نقلها للأجيال القادمة، كجزء من واجب الأبناء تجاه تاريخهم الديني والثقافي، لذلك فهو يحرص على نقل الطُرق الصوفية كما تعلمها من أجداده، الذين كانوا من العلماء الأجلاء في مجالات الشريعة والفقه والعقيدة، بالإضافة إلى كونهم مربين للمريدين على أهمية الذكر والوسطية في الإسلام.
وأشار المتحدث، إلى أن الجانب الفني لا يعد العنصر الأساسي في الطريقة العيساوية، رغم أنه يشكل جزءًا من بعض الطقوس، إذ يظل البُعد الروحي هو الأساس في هذه الطريقة. مشيرا، إلى أن الطريقة العيساوية تتبع النهج الصوفي الإسلامي بشكل دقيق، على عكس ما يظنه البعض، فالعيساوة ليست فلكلورا شعبيا أو مجرد ممارسات تقليدية، بل هي جزء من التصوف الإسلامي القائم على تزكية النفس والتقرب إلى الله عبر العلم والمحبة.
أما بالنسبة لطريقة السماع، التي تُعتبر جزءًا من الزوايا الصوفية، فيجب أن يحمل القائمون عليها إجازة «تصريحا» من شيخ أو مقدم الطريقة، حيث تمنحهم هذه الإجازة الشرعية لأداء السماع بما يتوافق مع الأصول والضوابط الدينية المتعارف عليها في الطريقة العيساوية.
وأضاف المتحدث، بأن الطريقة العيساوية تظل جزءا لا يتجزأ من المجتمع المحلي القسنطيني، لأن أغلب العائلات التي تتبع هذه الطريقة تعتبرها جزءا من هويتها الروحية والدينية، كما تعتبر «الفدوة» «الذكر والتوسل»جزءًا أساسيا من الجنائز.
ل.د