في ظل التحولات الرقمية السريعة التي يشهدها العالم، باتت وسائل الإعلام تبحث عن طرق مبتكرة لتلبية احتياجات جمهورها.الصحافة الخوارزمية (الآلية)؛ التي كانت حتى وقت قريب مجرد فكرة مستقبلية، أصبحت اليوم واقعًا ملموسًا تعتمد عليه العديد من المؤسسات الإعلامية الكبرى حول العالم. بفضل خوارزميات الذكاء الاصطناعي، يمكن الآن إنتاج مقالات وتحليلات إخبارية بسرعة ودقة لم تكن ممكنة من قبل، محدثة نقلة نوعية في كيفية إنتاج وتوزيع الأخبار، ولكن، رغم السرعة والكفاءة التي تقدمها هذه التقنيات، تُثار مخاوف جدية حول تأثيراتها المحتملة على جودة المحتوى الصحفي ودور الصحفيين أنفسهم. فهل يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي أن تحل محل الصحفيين؟و كيف يمكنها أن تستوعب السياقات الاجتماعية والسياسية المعقدة وراء الأحداث؟ وما مصير المصداقية والإبداع في ظل صعود هذا النوع الجديد من الصحافة؟
بقلم: الدكتورة نجاة بوثلجة-باحثة أكاديمية-
من حل المشكلات الرياضية إلى أتمتة الأخبار
تُشكل «الصحافة الخوارزمية «قفزة نوعية في عالم الإعلام بفضل ما توفره من أدوات تعتمد على الذكاء الاصطناعي والخوارزميات. يعود اسم «الخوارزمية» إلى العالم المسلم «أبو عبد الله بن موسى الخوارزمي»، الذي كان له دور ريادي في تأسيس علم الرياضيات، وخاصة في تطوير الإجراءات المنهجية لحل المشكلات الرياضية والحسابية. تطور هذا المفهوم بشكل ملحوظ في العصر الحديث، ليصبح أساسًيا في صناعة الأخبار العالمية.
أتمتة الأخبار ليست مجرد تقنية مبتكرة، بل ثورة صامتة في صناعة الإعلام، لأنها تفتح أبوابًا واسعة للتجديد والابتكار في هذا المجال، تستطيع خوارزميات الذكاء الاصطناعي تحليل كميات هائلة من البيانات خلال ثوانٍ، من تقارير الشركات المالية إلى نتائج المباريات الرياضية أو حتى تغطية الكوارث الطبيعية، لكنها في الوقت ذاته تضع تحديات جديدة أمام المؤسسات الصحفية والصحفيين على حد سواء. “الصحافة الخوارزمية” ليست فقط وسيلة لإنتاج المحتوى بسرعة، بل أداة لتحليل البيانات الضخمة واستخلاص المعلومات الهامة منها، وتوليد المقالات بشكل تلقائي بناءً على البيانات المتاحة، مما يوفر وقتًا وجهدًا للصحفيين ويتيح لهم التركيز أكثر على المقالات التحليلية والمواضيع الأكثر تعقيدًا.
بدايات الصحافة الخوارزمية
بدأت الصحافة الخوارزمية كتوجه تقني في عالم الصحافة مع تطور برمجيات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، حيث ظهرت الحاجة إلى أدوات قادرة على تحليل كميات كبيرة من البيانات وتحويلها إلى تقارير إخبارية في وقت قصير، ففي عام 2013 كانت «وكالة الصحافة»(AssociatedPress)من أوائل المؤسسات الإعلامية الكبرى التي تبنت الصحافة الخوارزمية على نطاق واسع. استخدمت الوكالة الخوارزميات لإنتاج تقارير ربع سنوية حول أرباح الشركات بشكل آلي. هذه الخوارزميات كانت قادرة على جمع وتحليل البيانات المالية، ومن ثم تحويلها إلى تقارير صحفية متكاملة. كما بدأت وكالات أنباء أخرى على غرار:(France Press) و(Reuters)في زيادة إنتاجها الإخباري بفضل الخوارزميات، أما بالنسبة لوسائل الإعلام الجماهيرية، فيعود تاريخ أول القوائم الإخبارية المنتجة آليا إلى عام 2016، ليتم التأكيد على أن أدوات الذكاء الاصطناعي بإمكانها أن تعمل على مستويات ومراحل مختلفة من عملية الإنتاج، مما يوفر لشركات الإعلام ميزات تنافسية عديدة. اعتمدت «الصحافة الخوارزمية» في البداية على قواعد بيانات ضخمة وتحليل البيانات الهيكلية مثل الأرقام المالية والإحصاءات الرياضية. ومع تقدم الذكاء الاصطناعي وتقنيات معالجة اللغة الطبيعية (NLP) أصبحت الخوارزميات أكثر قدرة على فهم النصوص وتحليلها، مما يفتح آفاقًا جديدة في إنتاج المحتوى، ومع نجاح التجارب الأولية، أضحت «الصحافة الخوارزمية» جزءًا لا يتجزأ من العمل الصحفي الرقمي الحديث، وتوسعت لتشمل التغطيات السياسية، وتقارير الطقس إضافة إلى الأخبار المحلية والموضوعات العامة.
«البيانات الضخمة» الحافز الأول لظهور الصحافة الخوارزمية
يعتمد العالم اليوم بشكل متزايد على البيانات الضخمة (Big Data) أو ما يُعرف بـــ “الرأس المال البياني” كما وصفها “كريستيان فوكس” (Christian Fuchs) في كتابه (Media, Economy and Society: ACriticalIntroduction)-2023) الذي تُسيطر عليه عمالقة التكنولوجيا في العالم ممثلة في: (Google) و(Alphabet) و(Meta) و(Microsoft) و(Apple) و(Amazon)، تعمل هذه الشركات على تحقيق المزيد من الأرباح وزيادة حصتها في السوق العالمي، وهو ما يكشف لنا أحد الأسباب المركزية المرتبطة بطريقة تصميم الخوارزميات والسبب الأول في تطويرها،وقد توقعت منصة (Markets and Markets) أن يصل حجم سوق التداول العالمي للخوارزميات نهاية عام 2024 إلى 18,8 مليار دولار أمريكي، بمعدل نمو يفوق 11 % مقارنة بالعام الماضي، خصوصا بعد أن شهد العالم ابتكار خوارزميات فائقة الذكاء كتلك المرتبطة بشبكات التواصل الاجتماعي.
تحديات ومخاوف
تؤثر الخوارزميات في مرئية القصص الإخبارية أو ما يعرف بــــ “خلاصات الأخبار” كما تساعد في الترويج للمحتوى الأكثر جدلا عبر منصات التواصل الاجتماعي، هذا الأمر يخلق تحديات كبيرة أمام المشرفين على المحتوى والمراقبين له؛ وعلى الرغم من كفاءة الخوارزميات إلا أن فقدان العنصر البشري في تحرير الأخبار، قد يفقد الصحافة قيمتها الإنسانية المتمثلة في فهم سياقات الأحداث وأبعادها العاطفية، بالإضافة إلى القدرة على إجراء تحليلات عميقة وتقديم وجهات نظر متعددة. فالصحفيون البشر يمتلكون القدرة على تفسير المعلومات ضمن سياقها السياسي والاجتماعي والثقافي، والتفاعل مع المصادر بشكل مباشر، مما يضفي على الأخبار طابعًا إنسانيًا ويعزز من مصداقيتها. لذلك، فإن الاعتماد الكامل على الأتمتة في الصحافة قد يؤدي إلى تقديم محتوى يفتقر إلى العمق والتنوع الذي يوفره التدخل البشري.
من المسائل الجوهرية التي ترافق انتشار الصحافة الخوارزمية، تبرز مخاوف فقدان الصحفيين لبعض المهام التقليدية التي كانت تعتمد على جمع وتحليل البيانات الروتينية كإعداد التقارير الإخبارية العاجلة أو المقالات الإحصائية، وعلى الرغم من ذلك، يمكن النظر إلى أتمتة بعض المهام الصحفية كفرصة لتحويل دور الصحفيين من مجرد جمع المعلومات وتحرير الأخبار إلى أدوار إبداعية لا تستطيع الخوارزميات محاكاتها بشكل كامل. يمكن أن يصبح التركيز على التحقيقات العميقة، والتحليل الاستقصائي، والمقالات التي تتطلب تفكيرًا إبداعيا ووجهات نظر متعددة أكثر أهمية في هذه المرحلة، كما يمكن للصحفيين التكيف مع هذه التحولات من خلال تطوير مهاراتهم في التعامل مع التكنولوجيا والاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي لتحسين جودة المحتوى.
متى تطرق “الصحافة الخوارزمية” غرف الأخبار الجزائرية؟
الجزائر اليوم وهي تحتفل باليوم الوطني للصحافة هي الآن أمام لحظات فارقة في تاريخ الصحافة، تندمج فيها التكنولوجيا مع الإبداع البشري. رغم أن تبني هذه التكنولوجيا لا يزال في مراحله الأولية - توسيع استخدام التكنولوجيا الرقمية في مجال الإعلام- مقارنة ببعض الدول المتقدمة،لأن التحول الكامل نحو الصحافة الخوارزمية يتطلب بنية تحتية قوية في مجال الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، كما أن التنظيم القانوني لتبني الصحافة الخوارزمية في الجزائر ضروري لضمان استخدامها بشكل مسؤول وأخلاقي، يجب أن تأخذ التشريعات الإعلامية في الاعتبار حقوق الصحفيين والجمهور على حد سواء، مع التركيز على حماية الخصوصية، الشفافية، والمساءلة. العديد من المؤسسات الإعلامية الجزائرية بدأت في استخدام التكنولوجيا الرقمية بشكل أوسع، مثل المواقع الإخبارية والتطبيقات الذكية، وهي تدرك أهمية مواكبة التطورات العالمية.لأن الاعتماد على الصحافة الخوارزمية سيتيح لها تقديم محتوى مخصص يتناسب مع احتياجات جمهورها المحلي، كما من شأنه أن يعزز من تنافسية الإعلام الجزائري على الصعيدين الإقليمي والدولي، يمكن للمؤسسات الإعلامية الجزائرية تحسين سرعة ودقة وكفاءة تغطياتها الإخبارية، وزيادة قدرتها على تحليل البيانات الضخمة بشكل أكثر فعالية، في المستقبل، قد نشهد تكاملًا أكبر بين الصحفيين والخوارزميات، حيث يعمل الاثنان جنبًا إلى جنب لإنتاج محتوى أعمق وأكثر تفاعلية.